بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي
بحزنٍ وأسى تلقى ذوو الإعاقة والمشرفون على مؤسساتهم والمهتمون بأحوالهم في قطاع غزة، الأخبار السيئة التي حملتها إدارة الأونروا، وباشرت بقسوةٍ وشدةٍ دون تأخيرٍ ولا إبطاءٍ في تطبيقها عليهم وفرضها على مؤسساتهم الخاصة والعامة، ولم تأخذها بهم رأفةٌ ولا رحمةٌ رغم علمها التام بأوضاعهم الصعبة، ومعرفتها بشؤونهم الخاصة، واطلاعها الدائم على حاجاتهم الملحة، ومتابعتها لتطورات حياتهم اليومية، فضلاً عن ظروف غزة الصعبة أصلاً بسبب الحصار الظالم المستمر على سكانها منذ أكثر من ثلاث عشرة سنة، وبسبب الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة عليهم، التي تستهدف بيوتهم ومنازلهم، ومدارسهم ومساجدهم، ومعاملهم ومصانعهم، ولا تستثنِ أبداً مؤسسات ذوي الإعاقة وجمعياتهم، ودورهم الخاصة ومدارسهم البسيطة، ولهذا فإننا نحمله مسؤولية تدهور أوضاع ذوي الإعاقة بسبب عدوانه المستمر على القطاع، علماً أن بعضهم يرزحون في سجونه ومعتقلاته، ويقضون فيها أحكاماً طويلة وقاسية.
وهم ليسوا عالةً ولا عبءً، ولا يريدون أن يكونوا كذلك، ويرفضون نظرة المجتمع إليهم بإحسانٍ وتفضلٍ، إذ عندهم رغبة جادة أن يكونوا فاعلين في مجتمعهم، وناشطين في بيئتهم، ومبدعين في أوساطهم، يشاطرون أهلهم همومهم، ويشتركون معهم في أحلامهم، يتقنون الحرف ويجيدون العمل، ويتميزون بإنتاجهم وينافسون بعطائهم، ويتفضلون على المحتاجين بسخائهم، فهم ليسوا أقل من غيرهم وإن بدوا كذلك، ولا أضعف من الأصحاء وإن ظن الآخرون أنهم أقوى منهم وأقدر.
ذوو الحاجات الخاصة رغم إعاقتهم وتأخر نمو بعضهم الذهني والجسدي، فإنهم أعزاء على ذويهم، كرماء بين أهلهم، ولهم مكانة كبيرة في مجتمعهم، ولهم حضورٌ لافت ومشاركة مبهرة بينهم، وعندهم دعاباتٌ حلوة وحركاتٌ جميلة، يحب الناس في المجتمع وجودهم ويحزنون لغيابهم، ويتأذون كثيراً لألمهم وشكواهم ومعاناتهم وأنينهم، ولهذا فإنهم غاضبون كثيراً من الإجراءات المجحفة بحقهم، وآسفون بشدةٍ لما قامته به مؤسسة الأونروا ضدهم، فهم لا يستحقون هذا الظلم الذي نزل بهم، ولا الحيف الذي لحق لهم، إذ لا حول لهم ولا قوة في الدفاع عن أنفسهم، أو الاحتجاج على المتسببين في تردي أوضاعهم، وحرمانهم من حقوقهم أو تجريدهم من امتيازاتهم القليلة التي كانت لهم.
يُحَمِّلُ سكن قطاع غزة والمشرفون على مؤسسات ذوي الإعاقة والحاجات الخاصة إدارة الأونروا المسؤولية الكاملة عما آلت إليه أوضاع مؤسساتهم الاجتماعية، ويحذرونها من مغبة الإصرار على سياساتهم الجائرة ضدهم، ويرون أنها إجراءاتٌ عقابية، تستهدف الفئة الأضعف فيهم والأكثر حاجة بينهم، وأنها تسببت في خلق أزمةٍ مستعصيةٍ تركت آثاراً سلبية كبيرة على المجتمع الفلسطيني، الذي يرى أن هذه الشريحة جزءً أصيلاً من سكانه وتركيبته الاجتماعية.
ويؤكد الفلسطينيون عامةً وفي قطاع غزة على وجه الخصوص أن الأزمة التي اختلقتها إدارة الأونروا هي أزمة سياسية وليست أزمة مالية، إذ بات الجميع يدرك أن الإدارة الأمريكية تريد شطب موضوع اللاجئين من على طاولة المفاوضات، ولا تريد أن يبقى حق عودة الفلسطينيين إلى ديارهم التي هجروا منها هاجساً يخيف الإسرائيليين وكابوساً يرعبهم، وقد انعكست هذه الرغبات الجائرة سلباً على شرائح المجتمع الفلسطيني كله، وكان في المقدمة منهم ذوو الإعاقة والحاجات الخاصة، وهي التي يفترض أنها تحميهم وتدافع عنهم وتقف إلى جانبهم، ولهذا فإنه ينبغي على هذه المؤسسة الأممية التي أنشأت خصيصاً لللاجئين الفلسطينيين أن تعود لممارسة دورها، وأن تجعل في المقدمة من خدماتها ذوي الحاجات الخاصة لحاجتهم الماسة وظروفهم الخاصة.
ولعله كان جديراً بمؤسسة الأونروا أن تكافئ العاملين والموظفين في هذه المؤسسات والجمعيات، بدلاً من أن تضيق عليهم وتسلبهم حقوقهم وامتيازاتهم، فهم جميعاً يضحون ويبذلون جهوداً جبارةً في النهوض بأوضاع ذوي الإعاقة والحاجات الخاصة، ولعلهم يعطونهم الكثير من صحتهم وعافيتهم، ويقتطعون الوقت من بيوتهم وأسرهم وأطفالهم، ليضمنوا لهم حياةً هادئة ومستقبلاً أفضلَ وظروفاً أحسن، ولو كان ذلك كله على حساب حاجاتهم الخاصة وعائلاتهم وأطفالهم.
يشعر العاملون في حقل ذوي الحاجات الخاصة في القطاع أنهم يقاتلون وحدهم، ويواجهون قرارات الأونروا بأنفسهم، بينما تتخلى مؤسسات السلطة الرسمية عنهم، وتتركهم وحدهم يواجهون مصيرهم، إذ لا تؤيد مطالبهم، ولا تعزز حراكهم، ولا تضغط معهم، ولا تساهم في نقل معاناتهم وتوصيل شكواهم، بينما ينهض أهل ذوي الإعاقة معهم، شاعرين بمعاناتهم وخائفين على مستقبل أولادهم، ولكن جهودهم قد تذهب هباءً وتضيع سدىً ما لم تقف المؤسسات الرسمية معهم، تصعد الخطاب لأجلهم، وترفع الصوت دفاعاً عنهم، وتحذر باسمهم من سوء العاقبة إذا استمرت نفس السياسة ضدهم.
ولعل الأصوات الغيورة الصادرة من قطاع غزة رغم قلتها تعبر بصدقٍ كبيرٍ عن إحساسها بمدى الخطر المحدق بصرح مؤسسات ذوي الإعاقة، قد ارتفعت وبحت وهم ينبهون الشعب والسلطة ويحذرونهم من خطورة ما يجري لمؤسساتهم، ونتائج إجراءات الأونروا الكارثية على أبنائهم من ذوي الإعاقة والحاجات الخاصة، الأمر الذي يوجب علينا جميعاً تأييد حراكهم الإنساني وتفعيله، والعمل على تصعيده وتنويعه حمايةً لأبنائنا وحرصاً منا عليهم وعلى أحلامهم البسيطة ومستقبلهم المجهول.
إن ما يقوم به العاملون في هذا الحقل الإنساني إنما هم مقاومون من الدرجة الأولى، ومدافعون بحقٍ عن قضيتهم، وغيورون بصدقٍ على شعبهم، فقد اختاروا المهنة الصعبة والمهمة الخطرة، وتصدوا للحفاظ على نشئٍ يتهدده المزيد من الإعاقة، ويكتنفه الكثير من القلق، ولنا أن نتصور كيف سيكون شكل شارعنا في قطاع غزة، لو رجع العاملون في هذه المؤسسات إلى بيوتهم، وانكفأوا على أنفسهم، وتخلوا عن مهمتهم، إذ خوت المؤسسات والجمعيات، وتهاوت المشاريع، وانعدمت الميزانيات، ولم يعد هناك ما يكفي لمواصلة المهمة وإتمام الواجب.
ذوو الإعاقة في قطاع غزة يمثلون شريحةً من المجتمع الفلسطيني أساسية، لا يجوز إهمالها أو تجاوزها، ويمكن للمتابع لشؤون القطاع أن يلمس وجودهم بسهولة، ويشعر بمعاناتهم بوضوح، ويتعرف عليهم في الشارع العام ومرافق المجتمع المختلفة، وهم كغيرهم من سكان القطاع يشعرون بحجم المأساة التي يعيشها شعبهم ويعانيها أهلهم، ويعتصرهم الألم لما يرون ويشاهدون، ويعضون على شفاههم حسرةً وأسى لما يسمعون ويعلمون، لكنهم يدركون أن معاناتهم أشد وألمهم أكبر، إذ فيهم الأصم والأبكم والأعمى، وعيي اللسان وبطيء الفهم ومرضى التوحد ومتلازمة داون وغيرهم، ويعرفون أنه يلزمهم رعاية ومتابعة، وأجهزةً ومعدات، وأدواتٍ وآلياتٍ خاصة ليتمكنوا من تجاوز محنهم والانتصار على معاناتهم.