بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
كشفت الحرب الروسية الأوكرانية عن مخزونٍ أوروبيٍ كبيرٍ من الحقد والكره، والكراهية والتمييز العنصري، والفوقية والتعالي، والشيفونية والنرجسية، والتناقض وازدواجية المعايير، وغيرها من المساوئ والعيوب القبيحة التي تتمتع بها دول القارة الأوروبية وكندا والولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها من الدول البيضاء اللون، الشقراء البشرة، الزرقاء العيون، المسيحية الديانة، التي تدعي الحضارة والتمدن، وتتشدق بالمدنية وحقوق الإنسان، وتتظاهر بالديمقراطية والمساواة، وتدعو إلى العدالة والإنصاف، ونبذ الفرقة والاختلاف، ورفض التمييز بين البشر على أساس اللون والعرق والدين.
فتحت الدول الغربية “المسيحية” صناديقها المالية، وخزائنها الإغاثية، وحساباتها المصرفية، وحدودها البينية، ومطاراتها الداخلية، ومحطات الحافلات والقطارات، والمدارس والملاعب والساحات العامة، وسخرتها جميعها لخدمة اللاجئين الأوكرانيين، الهاربين من حجيم الحرب ولهيب القصف، وتطوعت لجانٌ حكومية وأخرى مدنية وأهلية لإغاثة اللاجئين ومساعدتهم، وتقديم العون لهم، وتيسير انتقالهم إلى مختلف الدول الأوروبية التي أبدت الرغبة في استضافتهم وتقديم العون لهم، ولم تالُ الحكومات الغربية جهداً في تيسير انتقالهم ووصولهم وتأمين حاجاتهم، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وكندا ودول الناتو، قد تعهدوا بتقديم مليارات الدولارات دعماً للحكومة الأوكرانية، ومساعداتٍ إغاثية للاجئين.
لا نعيب على الدول الغربية استضافتها للاجئين، ولا نريد منها أن تقصر معهم أو تتأخر في مساعدتهم، فهذا خلقٌ ندعو إليه ونصر عليه، ونرى أنه ينبغي على كل قادرٍ أن يقدم الدعم المستطاع والمساعدة الممكنة، فإغاثة الملهوفين ومساعدة المكروبين وإيواء اللاجئين مهمةٌ إنسانية، يجب على كل الشعوب أن تتحلى بها وتتصف، وأن تمارسها وتعتاد عليها، ولعله من المعيب الشائن عكس ذلك، كأن تغلق الدول حدودها، وتصم الشعوب آذانها، وتمتنع الحكومات عن مساعدة الفارين من ويلات الحروب وحجيم المعارك، خاصةً في مثل هذه الأجواء من الطقس البارد والمطير، وفي ظل الصقيع والعواصف وأعاصير الشتاء.
لعلنا نحن الفلسطينيين خاصةً والعرب عامةً أكثر من يعرف قيمة من يفتحون أبوابهم للجوء، ويمدون أيديهم لمساعدة المتضررين من الحروب والعمليات العسكرية، ويساهمون في التخفيف عن المتضررين وبلسمة جراحهم، فنحن على مدى أكثر من سبعين عاماً، نمثل أشهر وأكبر موجة نزوحٍ ولجوءٍ في التاريخ الحديث، وقد عانينا وما زلنا من آثار النكبة والنكسة، ومن عدوٍ لا يفتأ يقتل ويظلم ويعتدي ويبطش، وتكبدنا بسببه الصعاب وتجشمنا مشاق الهجرة والشتات واللجوء، ولهذا فنحن لا نتمنى أن يصيب ما أصابنا من محنٍ وشدائدَ أحداً، أياً كانت حنسيتهم وديانتهم، أو لونهم وعرقهم، فالظلم عموماً لا نقبله ولا نرضى به، ولا نشجع عليه ولا نسكت عنه.
لكن الذي أغاظنا وأثار انتقادنا، مجموعةُ التصريحات الرسمية والشعبية الأوروبية على لسان أكثر من مسؤولٍ رسمي، فضلاً عن تصريحات وتعليقات عامة المواطنين الأوروبيين، الذين وجدوا في سياسة حكوماتهم ما يشجعهم ويدعوهم إلى التمييز العنصري على أساس اللون والدين، فقد استعظم العديد من الأوروبيين أن يروا أناساً من ذوي البشرة البيضاء والعيون الزرقاء يعانون من اللجوء والشتات، ويقاسون في دول أوروبا من الحرب ويهربون من الموت، وهالهم أن يروا دماءهم تسفك وأشلاءهم تمزق، وهم الذين يرون بصمتٍ كل يومٍ آلاف الضحايا يقتلون ويبادون في أكثر من مكانٍ.
لن أتطرق إلى اللاجئين الفلسطينيين والعرب، ولا إلى الأفارقة والأفغان والبورميين، فأولئك جميعاً إما سود أو داكني البشرة، وعيونهم بنية أو سوداء، وأغلبهم مسلمون وينتمون إلى جنوب العالم الفقير، ولكنني سأتوقف فقط عند مسلمي البوسنة والهرسك، سكان أوروبا وقلبها النابض، وقبلهم عند مسلمي صربيا والجبل الأسود، الذين طحنتهم الحروب وشردتهم المعارك، وأبادتهم المذابح والمجازر، وقد كانت أوروبا كلها ترقبهم وتشاهدهم، وتتابع صورهم وتشاهد جثتهم، ولكنها لم تحرك إزاءهم ساكناً إلا بعد سنواتٍ من رحى الحرب الضروس، وعشرات المذابح والمجازر، وآلاف حالات الاغتصاب والاعتقال والتعذيب والتنكيل، وقد كان حرياً بهم أن يحموهم وهم سكان قارتهم، وجيرانهم في بلادهم، وشركاؤهم في أرضهم.
نتمنى لهذه الحرب أن تنتهي، وأن يعم السلام ويسود الأمن، وأن تتوقف عمليات التهجير وموجات اللجوء، وأن ينعم الإنسان عامةً بالحياة الآمنة المطمئنة في بلاده وعلى أرضه، وألا تتهدد حياة الشعوب وتخرب البلاد وتدمر الأوطان، ولكننا نتمنى من العالم أن يكون منصفاً عادلاً، نزيهاً صادقاً، وألا تكيل حكوماته بمكيالين، وألا تخضع سياساتُها الشعوب لمعيارين، وأن تتعمل مع الإنسان عامةً نصرةً وإغاثة، ومساعدةً واستضافةً، بعيداً عن اللون والجنس والعرق والدين، تلك هي الإنسانية الحقة، والعدالة المرجوة، والمساواة المنشودة.