رسالةٌ مفتوحةٌ إلى الأستاذِ إسماعيلَ هنية
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
هي مهمةٌ عسيرةٌ ومسؤوليةٌ كبيرةٌ وأمانة عظيمة، تلك التي تصدى لها الأستاذ إسماعيل هنية وحملها، وانبرى لها وتقدم إليها، وحمل لواءها وتصدر لها، وطُوِّقَ بها واستعد لها.
ولعله يعلم أنها مسؤولية استثنائية ومهمةٌ ربانية، وهي في عرفنا الإسلامي تكليفٌ وليست تشريفاً، وهي قيدٌ وإسارٌ أكثر منها غارٌ وسوارٌ، فهي عبءٌ ثقيل وتكليفٌ خطيرٌ ومنصبٌ مبيرٌ، ينوء عن حملها أعظم الرجال، ويخاف من تبعاتها الرسل والأنبياء، ويخشى من السؤال عنها والحساب عليها أخلص الخلق وأصدق الناس.
وقَلَّ من المسؤولين من حفظها وأدى واجبها، واستبرأ منها وطهر نفسه من فتنها، وخلص خاصته وأهلها من امتيازاتها، ونجا من ويلاتها وحفظ نفسه من تبعاتها، وخلد اسمه لدى شعبه وبين أهله، بالعدل الذي انتهجه، والصدق الذي اتبعه، والحكمة التي حرص عليها، والوفاء الذي التزم به، وقليل هم المسؤولون الناجون بأنفسهم، والفائزون بحياتهم.
إنها المرة الثانية التي يكلف فيها الأستاذ إسماعيل هنية بالانتخاب الحر الشفاف النزيه، برئاسة المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، التي أصبحت ملء سمع الدنيا وبصرها، ومحل اهتمامها ومحط تقدير بعضها وتآمر الكثيرين عليها، فقد أثبتت عبر مسيرتها الطويلة وخلال عقودها السابقة التي تقترب من الأربعة بمقاومتها الشريفة وقتالها النوعي، وصمودها الكبير وثباتها العنيد، أنها حركة كبيرة تتحمل مسؤولية عظيمة، وأنها تستحق أن تكون للشعب موئلاً وللأمة أملاً، فقد أعطت عطاءً يبهر، وضحت تضحيةً تطهر، وقاتلت قتالاً نوعياً يشرف، وأعدت لمعاركها إعداداً يحبط العدو ويهزمه، ويحقق الغلبة عليه ويقهره.
لكنها مرحلةٌ عصيبةٌ وفترةٌ حرجة، لا ينبغي فيها العُجب والخيلاء، ولا الزهو والفرح، ولا التظاهر والتفاخر، وإنما يلزم فيها العمل الجاد والتصدي بمسؤولية لقضايا الشعب وشؤون الوطن، والعمل من أجلهما بحرصٍ وأمانة، والخوف من السؤال والمحاسبة، فالتحديات كبيرة والصعاب كثيرة، والأعداء يزدادون شراسة، وحلفاؤه يحاصرون ويتآمرون، ويخططون بخبثٍ ويغدرون، وقضيتنا تمر في أصعب مراحلها، إذ يراد تفكيكها والخلاص منها، وفض الحلفاء عنها، ومنع التضامن منها، وانقلاب الأخوة والأشقاء عليها والعمل ضدها، والتحالف مع عدوها، وتقديم مصالحه على فلسطين وأهلها.
أخي الحبيب أبو العبد، لا أهنئك بهذه الجمرة المتقدة التي تحمل، فأنا أعلم تبعاتها وأدرك مخاطرها، وإنما أدعو الله عز وجل أن يأخذ بيديك ويسدد خطاك، وأن يوفقك ويرشدك، ويهيئ لك البطانة الصالحة والأذن الطيبة الصادقة، وأن يكرمك بمن يعينك وينصحك، ويوجهك ويصوبك، وأن يجنبك الأشرار والخبثاء، والضالين والمنحرفين، والنفعيين والمستفيدين، والكاذبين والمنافقين، وأن يرفع قدرك ويسمو بنفسك، ويطهر قلبك ويزكي روحك، فيكون عينك التي ترى بها، وأذنك التي تسمع بها، ويدك التي تخط بها، ورجلك التي تمشي عليها، فلا تضل من بعده ولا تشقى، ولا يجوع شعبك ولا يعرى، ولا تفقد قضيتك ظهرها ولا تخسر رشدها، بل يباركها الله عز وجل ورجالها، وينهض بها وأهلها، ويحفظها وأرضها.
أذكركم أخي الكريم أبا العبد بلساني ولسان شعبي، وبكلمات أبناء مخيم الشاطئ الذي فيه ولدت ونشأت، وبمشاعر وأحاسيس شعبنا كله في الوطن والشتات، وإن كنت أعلم، وأنا الذي خبرتك عن قربٍ وأعرفك منذ زمنٍ، أن ذاكرتك لا تنسى، وقلبك لا يغفل، وعينك لا تنام، وأنك تحفظ عهد شعبك وأهلك، وتصون كلمتك معهم، وتحرص على الوفاء لهم والتضحية من أجلهم، فهم الذين قدموك ورفعوك، واختاروك وانتقوك، وارتضوا أن تكون رائد مسيرتهم وحادي ركبهم، وكلهم أمل أن تكون في الأقصى إمامهم، وفي القدس المحررة سابقهم، وأنت للقرآن حافظٌ وبالوعد الصادقِ مؤمنٌ وواثقٌ.
أخي أبا العبد غزة ليست فلسطين، وإنما هي جزءٌ صغيرٌ عزيزٌ منها، فلا ينسيك الجزءُ العزيزُ الكلَ الأغلى، فاجعل فلسطين في عقلك وسياستك، وفي ضميرك وقلبك، ووجدانك وعملك، أرضاً واحدةً وشعباً واحداً، قدسها كغزة، وضفتها كمثلثها، وجبالها كساحلها، لا نفرق بين تراب الوطن المقدس، ولكن نساوي بين قلبه وأطرافه، وسهوله وصحرائه، ليعلم العدو ومن حالفه أننا نريد فلسطين كلها لا غزة أو بعضاً من غيرها.
واجعل نصب عينك مهمة جمع شتات الشعب وتوحيد كلمته، فنحن في الوطن والشتات نقترب من أربعة عشر مليون نسمة، تسكننا فلسطين جميعاً، وتعيش معنا كلنا، نحملها حيث نكون، وننقلها في قلوبنا حيث ارتحلنا، أياً كانت هويتنا الثانية أو جنسيتنا الأخرى، فاحرص على أن تكون قائداً لفلسطين كلها وزعيماً لأهلها جميعاً، تشعر بهم وتعمل لأجلهم، وتسمع لهم وتلبي حاجتهم، فنحن بعد الله عز وجل أقوياءٌ بجمعنا، أشداء بانتمائنا، فكن للشعب كله قائداً تكبرُ، وزعيماً لهم بهم ومعهم تصمد وتنتصر.
وليكن رأب الصدع وجمع الكلمة وتحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام همك الأول وواجبك الأساس، فقد أساء الانقسام صورتنا، وشوه حقيقتنا، وحرف نضالنا وشتت جهودنا، وأفقدنا الكثير مما كنا نملك، وجعلنا بين أقومنا صغاراً وقد كنا الكبار، ودفع أنصارنا لانتقادنا وتوجيه اللوم لنا وقد كنا أسوتهم الحسنة وقدوتهم الرائعة، وصورتهم القشيبة ووجههم الحسن، فاحرص أخي الكريم على أن تضع حداً للانقسام البغيض، فتنهي به القطيعة، وتوقف المهاترات الإعلامية الكيدية والمناكفات الفصائلية المهينة، والسياسات الحزبية المستفزة المتبادلة بين رام الله وغزة.
ولا تنس أخي أبا العبد أبداً أسرانا البواسل ومعتقلينا الشجعان، تذكرهم دائماً واجعلهم في صدارة اهتماماتك، وتذكر الأسرى الأطفال والمرأة، والمسنين والمرضى، وأصحاب المؤبدات والمحكومين بمئات السنوات، ولا تنم قرير العين إلا عندما تراهم أحراراً في أرضهم، وأعزاء بين أهلهم، فحريتهم مسؤوليتك، وتحريرهم أمانة في عنقك، والعمل على تحسين شروط اعتقالهم والتخفيف من معاناتهم، يرفع قدرك ويشرف سجلك.
أما غزة التي تحب وإليها تشتاق، والتي أحب وبالانتساب إليها مثلك أتشرف، فإن أهلها يأملون منك ألا تنساهم أبداً، وألا تهمل شؤونهم وتغفل حاجاتهم، فهم أكثر أهل فلسطين معاناةً وأضيقهم عيشاً، فكن لهم يداً وسنداً، أعنهم على غوائل الحياة وشظف العيش، وعجل في العمل على إعمار بيوتهم، وتحسين عيشهم، وخلق فرص عملٍ شريفةٍ لهم، ومساعدة الفقراء منهم، والوقوف إلى جانب المحتاجين والمعوزين منهم، فإن معاناة أهلنا في غزة كبيرة، ومحنتهم طاحنة، وحياتهم صعبة، والجوع قد نال منهم، والحصار قد أثر عليهم، والحروب قد آذتهم، فكن معهم ولهم ولا تنساهم.
واجعل معبر رفح همك الأول بالنسبة لهم، وملفك الأساس الذي تحمله معك في زياراتك لمصر وحواراتك مع مسؤوليهم، فأهلك في طريقهم من وإلى غزة يضامون ويعذبون، ويهانون ويتألمون، ويتعرضون في الطريق من وإلى قطاعهم الحبيب لكل أشكال الذل والمهانة، وكثير منهم ممنوع من السفر أو مدرجٌ على قوائم الأمن، فكن لأهلك أخي أبا العبد نصيراً ومعيناً، بلسم جراحاتهم، خفف آلامهم، يسر طريقهم، أزل العقبات أمامهم، اجعل سفرهم هيناً وعودتهم كريمة، ولا تقبل بإهانتهم ولا تسكت عمن يسيء إليهم، فقد والله بلغ السيل الزبا أذىً ومهانةً، وتضييقاً وحصاراً ومعاناةً.
أما المقاومة التي أعلم أنك ضنينٌ بها حريصٌ عليها، وأنها تسكنك وتشغلك، فاحفظها وحافظ عليها، وتمسك بها ولا تفرط فيها، فهي شرفنا ومصدر عزتنا، وهي جبهتنا وحمايتنا، وهي حصننا وملاذنا، وهي شوكتنا ومخرزنا، فكن معها وإلى جانب المقاومين بكل ما أوتيت من قوةٍ، جدد سلاحهم، واملأ مخازنهم، وطور آلياتهم، وأمِّن مددهم واحم ظهرهم، واحفظ شهداءهم وأكرم رجالهم، وكن إلى جانب جرحاهم وأسرهم، فهؤلاء هم صنَّاع مجدنا ووقود ثورتنا وعماد مقاومتنا.
واجعل القدس في قلبك أمانة كما هي في كتاب الله آية، حافظ عليها وتمسك بها، ولا تفاوض أو تساوم عليها، وانصر أهلها كلما استنصروك، وهب لنجدتهم كلما سألوك، وكن للمرابطين في الأقصى سنداً وعوناً، فهم حماة الأقصى وحراس العقيدة، وهم الذين يحمون عنوان قضيتنا وجوهرة بلادنا.
وعليك أخي أبا العبد مسؤولية إعادة تنظيم علاقات حماس وترميم ما بلي منها، ونسج الجديد الجيد لها، فنحن في حاجةٍ إلى كل الحلفاء، ونتطلع إلى كل الأشقاء، ولا نهمل أي جهد ولا نستخف بأي سندٍ، فاشكر من استحق الشكر منهم، واذكر من ترى السابق بالخيرات منهم، واحفظ فضلهم ولا تنس عطاءهم، واعلُ بمواقفك واسمُ بسياساتك، وابتعد عن كل تحالفٍ يسيء إلى قضيتنا وينعكس سلباً على شعبنا، ولا تقبل بمن يعترف ويطبع، ويتنازل ويفرط، ولا تصادق من يتآمر ويخون، واعلم أن النصر حليفك ولو قل الحلفاء وكثر الخصوم، فالحق أثبت والصدق أنجى، وفلسطين ترفع من يحفظها، وتصون شرف وتحفظ ذكر من يخلص لها ويعمل من أجلها.
الآمال المعقودة عليك أخي أبا العبد كثيرة، وأماني شعبنا كبيرة، ومطالبهم منك مشروعة، ودعواتهم لك صادقة، ورأفتهم بك كبيرة، فهم يعلمون عِظم ما حملت، وخطورة ما واجهت، ولكنهم يأملون أن تكون وإخوانك على قدر المرحلة، تتصدون لكل مهمة، وتذللون كل عقبة، وتجدون حلاً لكل مسألة، حفظكم الله أخي أبا العبد ورعاكم، وسدد على الحق خطاكم، وكان في عونكم وشد بشعبكم وأمتكم أزركم وقَوّى بهم عزمكم.