41 عاما على الملحمة التاريخية في القطيف والأحساء..حكاية انتفاضة المحرم مأسسة لثوابت مقارعة استبداد آل سعود
41 عاما على الملحمة التاريخية في القطيف والأحساء..حكاية انتفاضة المحرم مأسسة لثوابت مقارعة استبداد آل سعود
شهارة نت – تحليل
لا تولد الثورات من العدم، ولا تنبثق إلا عن أسس راسخة في الأنفس الناشئة على مفاهيم وقواعد أساسية منهجها الحق بكل تفاصيله، ولا شك أن انتفاضة محرم 1400ه/نوفمبر1979م، في القطيف والأحساء كانت خير دليل على ذروة الانتفاض على الألم والمعاناة والظلم والطغيان. قبل 41 عاماً، أرق أهالي هذه المنطقة العائمة على بحر من النفط، استقرار نظام آل سعود القائم على سفك الدم ونهج السيف المسلط على رقاب البشر، وقد شهد تاريخ تسلط هذا النظام على أرض الجزيرة منذ أكثر من قرن من الزمن على شاكلة قيامه وبسط سطوته ونفوذه أنه حكم يتدحرج على أجساد الضحايا ويصبغ مستقبل استبداده بالدم والجريمة. ولكن، منذ 41 عاما غرز أهالي القطيف والأحساء حروف الثورة والانتفاضة، وأسسوا لمرحلة من تاريخ مقارعة هذا النظام بكل استبداده وسطوته وقمعه، فكانوا علامة فارقة في هذه البقعة الجغرافية اللامعة بثرواتها وخيراتها وأبنائها الذين انطلقوا بانتفاضتهم المجيدة من نهج ومبادئ الثورة الحسينية العاشورائية.
تعود الانتفاضة المجيدة التي تتخذ من شعار “بختم كربلاء” عنوانا لذكراها الواحدة بعد أربعة عقود، إلى ليلة الـ6 من المحرم لعام 1400هجري، الموافق 25 نوفمبر 1979 ميلادي، حين انطلق فتيل الانتفاضة مع قرار الأهالي كسر الحظر المفروض على إحياء شعائرهم الدينية وخرجوا لتأدية العزاء الحسيني خارج المآتم والحسينيات عبر تظاهرات سيّارة تجوب شوارع البلدات، وخرج المُعزون بعد الاستماع إلى المجلس العاشورائي في حسينيات ومساجد البلدات، وشجّع الخطباء حينها الثورة على الظلم وتطبيق مفاهيم عاشوراء الحسين”ع” للقضاء على الظلم والاضطهاد. كان من بين الخطباء الشيخ حسن الصفار والسيد مرتضى القزويني وخطباء آخرون، واتخذت التظاهرات التي خرجت بشكل علني وحاشد، منحى سياسياً، بعد أن كسر الجماهير الحظر الحكومي السلطوي على الأهالي لمنعهم من إحياء الشعائر الدينية والممارسات العبادية للطائفة الشيعية، بدعاوى ومزاعم التكفير من قبل النهج الوهابي، الذي كان يتذوق مرارة الاحتجاجات إذ تزامنت التحركات مع اعتصام “جهيمان” في الحرم المكي الشريف.
ومع خروج التظاهرات تعمدت السلطات مواجهة الكلمة بالرصاص كما اعتادت “سلطات حكم السيف”، فدفعت بجنود الحرس الوطني إلى الساحات والشوارع، وهنا، وقعت الصدامات خلال التظاهرة التي جابت شوارع القطيف الرئيسة، التي كانت المركز انطلاقاً من ساحة الخزان (الشهداء فيما بعد) ثم واصلوا مسيرهم إلى حي “المسعودية” قرب ثانوية القطيف حيث حدث أول صدام مباشر بين قوات القمع المزوّدة بالهراوات والرشاشات وقنابل الغاز، وبين جماهير الشعب الأعزل الذي لا يملك سلاحاً سوى إرادة التحدي والتوق للكرامة والحرية، فرفض التراجع وأصرّ على الاستمرار في المسيرات، هذا الإصرار الشعبي، هز استقرار النظام فوجه قوات الحرس الوطني بقيادة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، الملك لاحقاً، إلى تنفيذ هجوم شديد بالهراوات على المتظاهرين الذين ردّوا بالحجارة وقطع الخشب والإشتباك بالأيدي، وهنا جاء دور قنابل الدخان، والغاز المسيل للدموع، فألقيت مئات القنابل واستغل الحرس هذه الفرصة فبدأ يضرب بوحشية.
رغم ما حاكه النظام من قمع، استكملت الجماهير المعزية مسيرها، وعشية السابع من محرم الموافق لـ26 نوفمبر، لم يقف القمع بوجه الأهالي الذين أحيوا العزاء بمواكب تقليدية، على الرغم من انتشار عديد الجنود على الأرض، وخرجت مسيرات في أنحاء شوارع بلدات وقرى القطيف والأحساء، بمشاركة 70 ألف مواطن، من رجال ونساء وأطفال، من كافة الفئات العمرية، وعلَت حينها الهتافات المطلبية المستلهمة من ثورة الحسين”ع”، والتي لم يحتمل صداها آل سعود، وشكلت مصدر القلق لدى السلطات الخائفة من الشعارات والهتافات والمسيرات والمواكب الحسينية، فلجأت لمواجهة كسر الحظر المفروض على تأدية الشعائر الحسينية، ومنحت لقواتها حق استخدام كل الوسائل المتاحة، فدفعت بمئات الجنود المدججين بالسلاح إلى الساحات لمواجهة الأهالي وبدأ الرصاص الحي ينهمر من كل الاتجاهات وفي كل المناطق.
استمر المشهد، وكان يوم 9 محرم، يوم مأساة تساوى فيه الموت والحياة، وكان يوم الفصل، يوم ارتوت أرض القطيف والأحساء من دماء أبنائها الذين ارتقوا على مذبح الحرية والمطالب المشروعة في شهر محرم الحرام، برصاص عناصر الحرس الوطني، لمواجهة آلاف المتظاهرين الذين غطوا مختلف الشوارع، رفضاً للإهمال والتهميش والتمييز الطائفي. يومها، شكّل الطوفان البشري مشهداً لم يسبق له مثيل في المنطقة. وشكلت مواعظ الخطباء، وبيانات الحركات الثورية، فضلا عن تصاعد الزخم الثوري في المنطقة إبّان انتصار الثورة الإسلامية في إيران على نظام الشاه، جميعها عوامل أثّرت ولعبت دوراً بارزاً في تحريك روح الثورة والانتفاضة على واقع الظلم والفساد، وانكشف الغطاء عن روح التمرّد ضد نظام الرياض العنوان الأبرز للطغيان والاستبداد. ومع استمرار مشهد التحشيد والمسيرات، وتوافد الأهالي إلى شوارع المدينة، عزّزت السلطة عديد قواتها العسكرية واستقدمت التعزيزات ونصبت المدافع وحشدت العسكر، خاصة في مدينة سيهات، التي كان صوت المتظاهرين الهادر بشعارات الانتفاضة والمطالب، يستفزّ الجنود ويدفعهم للرد بالمدافع والرصاص الحي.
على مدى خمسة أيام استمرّت المسيرات، رغم الرصاص الحي الذي أطلقه العسكر المحتشدين ناحية مركز شرطة القطيف، لمواجهة الجموع المنتفضة، إثر نزيف الدم الذي بدأ مع اختراق إحدى الرصاصات الغادرة من أسلحة عناصر الحرس الوطني، جسد الثائر حسن القلاّف، وارتقى أول شهيد للانتفاضة، وافتتح نهج الثورة بخط الدم القاني، بعد أن فتح عناصر الحرس الوطني النار على الجموع الغاضبة الثائرة، وحُفر في تاريخ “انتفاضة المحرم في القطيف” يوم التاسع من المحرم المضمّخ بالدماء الطاهرة لعشرات الشهداء. وتصاعدت المواجهات في مدينة القطيف وتحولت إلى صدام دموي، ومع اعتقال السلطة بعض الخطباء ونفيهم، خرجت الحشود رافعة شعارات الثورة لتواجه بقنابل الغاز الكثيفة وكعوب البنادق والعصي الكهربائية، ورغم القمع تواصلت المسيرة وهي تجوب الشوارع، ما ولّد حالة ذهول وهستيريا عند قوات السلطة، التي ردّت على شعارات المتظاهرين بإطلاق النار عشوائياً على حشود الثوار، ومع ارتفاع التكبيرات والهتافات، تصاعد عنف السلطة ليحصدر أرواح 5 شهداء، التحقوا بركب الشهيد القلاّف، وكان في مقدمتهم الشاب سعيد عيسى مدن القصاب (20 عاماً) والذي قدِم من مدينة (صفوى) ليشارك في انتفاضة مدينة القطيف، كما استشهد الفتى بسّام السادة (18 عاماً) وسقط عدد كبير من الجرحى. ويوم 9 محرم، خرج 24 ألف متظاهر في تشييع الشهيد سعيد مدن، في صفوى، وتقاطر الأهالي من كافة القرى الواقعة على الشريط الممتد من صفوى شمالاً حتى سيهات جنوباً، وحضرت المواكب الحاشدة من مدينة القطيف وسيهات والعوامية وأم الحمام والبحاري وتاروت وسنابس والجارودية وغيرها.. وتجمعوا عند مقبرة صفوى وهاجم خطباء الثورة سياسات السلطة ورموزها وحملت الجماهير صورة الشهيد إلى جانب رفاته وقميصه الغارق بالدماء المرفوع على عصا طويلة بينما رُفعت على الجانب الآخر الآية الكريمة “وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ”.
تحكي فصول الانتفاضة، أنه بعد تكاثر أعداد الشهداء والجرحى لم ترتدع الهمجية السلطوية عن مهاجمة المشيعين، اشتعلت الشوارع خلال تشييع جنازة الشهيد سعيد مدن، بشعارات الثورة والرفض للنظام السعودي والتنديد بسياساته فواجهت العناصر المشيعين بالرصاص الحي فأصابت عدة رصاصات جثمان الشهيد، فكان الرد من الجماهير الغاضبة على القوات بقنابل المولوتوف والحجارة والأخشاب، فسقط أربعة شهداء وسبعة وثلاثين جريحاً بينهم عدة نساء. وبعد أن تحولت القطيف والأحساء إلى ساحة حرب حقيقية بفعل عدوانية القوات الأمنية، التي فجرت نزيف الدم بأسلحتها الرشاشة، استعانت بالمروحيات وتمترس جنودها في أبراج عالية كمباني خزانات الماء وأسطح العمارات ومنائر المساجد وراحوا يطلقون رصاصاهم الغادر على الجماهير في الشوارع وعلى الأهالي في منازلهم، فسُجل ارتقاء أكثر من 23 شهيداً، وجرح 800 آخرين، فيما تم تسجيل 2000 حالة اعتقال، في مقابل ذلك، أشارت بعض المصادر إلى مقتل نحو 20 عسكرياً وجرح أكثر من 400 آخرين بحجارة الثوار وقنابل المولوتوف الشعبية.
الشعارات والجدران والمنشورات..
لم تغب وسائل الإعلام عن الانتفاضة، التي لم يكن لها مثيل على مرّ تاريخ المنطقة، فشكلت مشروع إصلاح سياسي تأسيسي، حمل بمضامينه الكثير من المطالب التي تحولت لشعارات ثابتة في تظاهرات المنطقة، المستلهمة لمطالبها من مفردات الخطاب الحسيني العاشورائي، على المستويات كافة. ولعل من أبرز الشعارات كانت “المساجين في أعناق الجميع، لا سنية لا شيعية… وحدة وحدة إسلامية، لا شرقية ولا غربية ثورة ثورة إسلامية، دين النبي واحد ما في تفرقة، الموت لآل سعود، الموت لأمريكا”، وغيرها من الشعارات التي حملت مضامين المطالب الشعبية، التي تصدرتها رفع الظلم وإنهاء التهميش وإطلاق سراح المساجين السياسين، والكفّ عن سياسة الطغيان والحرمان، والتمييز الطائفي. وتحولت جدران المباني وواجهات الشوارع الرئيسة كانت جزءاً أساسياً في ثورة محرم، حيث حملت ووثقت المطالب والشعارات أيضاً، وشكلت قلقاً مستمراً للسلطات التي شكلت فرقاً من عناصر الأمن لملاحقة الجدران وطمس الكتابات التي دوّنت عليها، ومن تلك العبارات: “أيها الناس أفيقوا واسلكوا درب الحسين حاربوا الطغيان والظلم وكونوا ثائرين/ لا نخاف السجن والقتل ولا غلّ اليدين كلنا ضد أمريكا وعلى خط الحسين/ ثورتك يا حسين للعالم هداية والظلم والجور لا بد له نهاية/ يابن سعود شيل ايدك كل الشعب ما يريدك/ اقطعوا النفط عن أمريكا ـ فليسقط العملاء/ يا أمريكا شيلي ايدك كل الشعب ما يريدك”، وغيرها من الشعارات التي رفضت التدخل الأميركي والتسلط والاستيلاء على النفط كسلاح استراتيجي للعرب والمسلمين، واستغله آل سعود لمصالحهم، وتمكين الاستعمار من الأرض وثرواتها.
كذلك، كانت المنشورات الثورية، وسيلة إعلام وإخبار وتواصل، بعد حظر السلطات للتجول، ومنع الهتافات والتظاهرات والانقضاض عليها، وقطع شبكة الهاتف السلكي (الأرضي)، الوسيلة الوحيدة المتوفرة حينها، فعمد الأهالي إلى استخدام المناشير كوسيلة تواصل وإعلام وإخبار الجماهير بالخطوات والبرامج والأنشطة المتلاحقة لاستكمال الثورة، في الحسينيات والمنازل، خاصة في وقت عاشت المنطقة خلاله حالة من التعتيم الإعلامي، أنكرت خلاله السلطات حصول ثورة في الأحساء والقطيف أو حتى حراك، وانهالت بادعاءاتها الكاذبة للحفاظ على قوتها أمام العالم، وأفرزت بطشاً لم يكن له مثيل.
وتميزت الانتفاضة بالدور اللامع للمرأة، فكانت نساء القطيف والأحساء، أسس وأعمدة هذه الانتفاضة، وبفعل الإجرام السلطوي لم الحرائر من الضربات الدموية كما الرجال، ولعبت المرأة دوراً قيادياً بارزاً، وسجلت بحروف الدم استشهاد أول امرأة في الانتفاضة وهي السيدة فاطمة غريب التي أصيبت برصاصات غاشمة وهي داخل منزلها. وبالدم الثائر وعلى أوتار الحرية، ومع تصاعد بريق الثورة وارتفاع وقع التحركات على الأرض، شكلت النسوة عصب وعضيد ثورة المحرم مستلهمات الصبر والقوة من عزيمة نساء كربلاء، وأثارت مشاركتهن الانتباه في ظل بروز دورهن داخل المجتمع المحافظ دينياً وسياسياً، حيث أنهن شاركن في إعداد “المولوتوف” داخل المنازل وتزويد الثوار به لردع القوات عن استخدام الرصاص الحي بوجه الشعب الأعزل. ووسط الساحات وميادين الاحتجاجات كانت المرأة أساس وصوت ورمز للقوة والصمود، وبرز دورهن في إيواء الشباب المطارد وإسعاف الجرحى ومداواتهم، ما تسبب باعتقال العشرات منهن، كما تعرضت كثيرات منهن للإصابات بالجراح جرّاء رصاص السلطة وهراوات العساكر.
الانتفاضة المجيدة، وبعد أكثر من 4 عقود، خطت نهضتها الكلمة والقوة والعزيمة التي جعلت من هذه المنطقة أنموذجا للتضحية والفداء والمقاومة، ومنذ تاريخ 1400ه، شكلت المنطقة مصدر أرق وقلق للنظام الذي علم وتيقن أنه لا يستطيع كسر عزيمة شعب استلهم مبادئه من ثورة كربلاء وتضحياتها وبذل الدم فداء للكرامة والعزة والإباء. كما ترجم ما تمسكه بمبادئه على وقع الكثير من الأحداث والاضطهاد والاعتقالات والتقييد والبطش بقوة السلاح، ورغم سياسات التصعيد الممنهجة بالقمع والاستبداد بقيت المنطقة علامة فارقة في الجزيرة العربية، ورغم ما يكابده الأهالي من مختلف أنواع القمع والاضطهاد والتمييز الديني والطاىفي، ورغم ما تتميز به هذه البقعة من خيرات وثروات، كان للاضطهاد واتساب والقمع سياسات متواصلة من قبل النظام، ولعل الذكرى اليوم، تحكي كيفية استكمال معالم الانتفاضة ضد حكم آل سعود عبر الحراك الميداني والنشاط السياسي والحقوقي والإعلامي.