سنة أولى ثورة
لا تكفي النوايا الطيبة لتصنع ثورة بيضاء كما كنت أعتقد? لا تكفي أحلامك التي خرجت من أجلها لتلعن صرختك أنت والشباب الطيبين” الشعب يريد إسقاط النظام”? وبعد عشرة أشهر ما زال هذا الشعار كالسكين يتجول في حلوقنا? ولم نعد نعرف كيف نصرخ ليسمعنا العالم? لأن زوابعنا الرعدية لم تتخطى حدود الفنجان. أدرب لساني الآن على الصراخ وأنا اتجه إلى عدن علي استطيع استعادة جذوة البداية? ووهج الأحلام التي لا تنطفئ.
لكن التاريخ لا يعيد نفسه? إلا بشكل ملهاة أو مأساة? وها نحن نعيش جزء من تراجيديا النزع الأخير? تراجيديا حتمية النخب السياسة والقبيلة والعسكر والدين? تحالف التخلف في بلادنا? لكن ألا يحق لنا أن تساءل لماذا الثورات في بلادنا تنتهي إلى تسويات سياسية مريعة? وهل علينا أن نتقبل هذا المصير الحتمي?
أتذكر الآن خيبة أبائنا وأجدادنا? وأدبائنا ومثقفينا بعد ثورة 26 سبتمبر? نضالهم الطويل ليسقطوا نظام الإمامة? لتأتي بعد ذلك القبيلة والرأس الواحد ليقطف ثمارها? ويكتبه حسب إرادة المنتصر وليسقط مشروع الدولة المدنية ولينتكس الحلم? ها أنا اليوم أشعر بحزنهم وبخيبتهم? وقد تحايل على ثورتهم لصوص الثورات.وهاهو النظام اليمني “القديم” يعيد إنتاج نفسه في دائرة حلزونية لا فكاك منها..
(2)
في تعز التي خلفتها ورائي كجرح مفتوح? المدينة التي خرجت من صيرورة العماء لتشق طريقها في لليل الحديد والنار? لينادي أبناءها بفجر جديد ليس فيه دكتاتور البلاد الحزينة? هذه المدينة التي تضمخت سماءها بالدماء: أكثر من ألف شهيد مدني ومسلح? وقوافل من النساء الشهيدات? وأكثر من ثلاثة ألآلاف جريح? وأكثر من ثلاثمائة أسرة نازحة? المدينة الوحيدة التي أحرقت ساحتها وجرفت جثث أبناءها وسحلت في ميادين الحرية? المدينة التي غزاها “هولاكوا” ليدمر وجهها الحبيب? المدينة التي رفضت أن تكون محطة ترانزيت لصراعات العسكر وجنرالات الحرب? وأن تكون معادلة بائسة لناهبي الثروات ومشعلو الحرائق? هذه المدينة التي تنمو في دمي كغيمة متفتحة كلما استكنت في ظل العزلة? وآلمني الدمار الذي يلتف حولي? لقد قوضوا فيها كل شيء? ولم يعد فيها سوى جبال من النفايات ومنازل مهدمة ومعطوبي ثورة? ونواح في كل بيت? حياة متعبة لكنها تتسع للكون لأن في نبضها: شباب التصعيد الثوري.. شباب الحياة.
(3)
في الـ20 من ديسمبر. قرر هؤلاء الشباب. الشباب المندس? الشباب المنفلت من قيد الأحزاب العفنة? المعفرة وجوههم في الشمس والذين يجوبون المدينة في مسيرات يومية سلمية تتصدرهم سيارة ربع سوداء? للعزيز الرفيق. محمد صبر? أن يشقوا مسارات الرمل والحصى مشيا?ٍ على الأقدام إلى صنعاء? لم أكن استوعب في عقلي المتواضع هذه المسيرة الجنونية وكنت كغيري أجزم بأننا لن نصمد وأن آلة القتل ستعترضنا في أي زقاق? خاصة وأن الأحزاب لم تكن راضية عن مسيرة ستقلب طاولة الرهانات السياسية على لاعبيها? انجررت معهم? تسوقني متعة الكاتب لأن يرى بعينه ما سيحدث? كنت أنقاد بوله أعمى إلى مسيرة الحياة? وكان الأمر في مخيلتي أشبه برحلة أسطورية قديمة قطعها الآباء في أيام النضال السري? وكنت أكتب حتى أفقد متعة الكتابة وأتجاوزها إلى متعة النظر الحسي وأنا أتذوق بعين مغمضة مشاهد الطبيعة: الجبال والوديان وقباب الشمس? وأرى النساء والشباب يمشون إلى جوار بعضهم في مشهد مدني لم تعشه هذه البلاد في تاريخها? ستة أيام من القيظ? ثم ستة أيام من البرد? ستة أيام من الحلم? ستة أيام من الجنون? مازلت أذكر مشهد وصولنا إلى ذمار? والقبائل تحيينا? ولم أكن قد عايشت القبائل أبدا?ٍ? دائما?ٍ ترعبني ملامحهم وصوت الرصاص? كانوا يحتفلون بنا على طريقتهم البسيطة? والنساء يحجرن حولنا. كان عرسا?ٍ من أعراسهم البدائية? لكني كنت مفتونة بهذه الطقوس القبلية بالترحاب? مفتونة بهذه الطريقة البسيطة بالتعبير عن امتنانهم لنا. وكنت جدا?ٍ ممتنة لهم? وللعالم? ولله? وللطرقات?وللحصى? وللبرد? ممتنة لأني كنت من حين للآخر أعبر صحراء رأسي ولا أجد سوى خوف نائي يطل بعينيه كلما اقتربنا من صنعاء.
(4)
كانت الأمور كلها طيبة”بلدة طيبة ورب شكور” لكن الأمور لم تعد طيبة? والرب الشكور لم يعد حاضرا?ٍ في ليل خدار .. تركنا الرب نتدبر أمورنا? ولم نستطع أن نفعل شيء أمام عجزنا البشري? ياه كم أكره هذه المنطقة لما تبقى من حياتي.. العداء الذي كان موجه لنا? تهديدات الحرس الجمهوري وشتائمهم? عنجهية العسكر والقناصة متمترسين في رأس الجبل? قبائل متعطشة لدمائنا وتنتظر الإشارة? الليل مظلم ولا نستطيع رؤية أقدامنا? وملايين من الشباب بثياب صوفية لاتقي من البرد في الشوارع وفي الوهاد? أقدامهم شققها المشي? حالات إغماء وتعب? لكن قبائل المنطقة لم تسمح لهم في البيات. هنا القبيلة تعبر مرة أخرى عن غريزتها الوحشية: قبائل النظام المتهاوي. مازلت أذكر صوت الرجل في الميكروفون وهو يستجدي إمام المسجد? ويستحلفه بكل أنبياء الله والصالحين أن يفتحه للشباب ليناموا? النساء اتجهن إلى المدرسة