جـــاري جـــمـــل
ومن غير الجمال والجمل سيحتمل كل تلك الشقاوة البريئة وذلك الضجيج اللذيذ?!..
في الصباح الباكر وتحديد?ٍا بعد صلاة العيد مباشرة? ينتظر العجوز مع جمله المحنى وجاريه الذي يشبه جاري بائع الخضروات المصري قدوم الأطفال خلف سور حديقة الملكة فكتوريا وجوار ساحة الجندي المجهول حيث صلى الحشد الكبير. لم يتأخر الأطفال? كانوا فعل?ٍا قد ارتدوا الثياب الملونة الجديدة والإكسسوارات المختلفة – حتى أن بعضهم قد نام ليلة العيد وهو مرتديها !! – هم جاهزون ليتسابقوا على ركوب الجاري الجمل , فمنذ اليوم الأول من أيام العيد وحتى يقتنع الأطفال بأن العيد قد انتهى? يقوم العجوز بمهمته التي أخذها على عاتقه من سنوات ماضية? يجول بالأطفال على ظهر جاريه العتيق يسبقه جمله الصبور في حوافي(حواري) وشوارع المديرية الصغيرة.
غنى الأطفال ورقصوا في العيد على أغانيه المعروفة والمتداولة? وبالتأكيد لم ينسوا الرقيقة صفاء أبو السعود في كرنفالها الغنائي(أهل?ٍا.. أهل?ٍا بالعيد.. مرحب.. مرحب بالعيد)? أدرك كل من وقع نظره على ذلك المشهد الموسمي الجميل? وسمع تلك الجلبة البديعة? كم كنا بحاجة لاستراحة محارب من الحزن والألم اللذين عشناهما في الفترة السابقة. نحن زاهدون جد?ٍا بالفرح لذلك فأيام العيد القليلة كافية لتنسينا كل تلك التعاسة الناتجة عن الخوف والرهبة والأمن غير المستقر. لقد كان الأطفال على قدر كبير من المسئولية لاستقبال ضيف مهم انتظرناه طويل?ٍا !!
,,,
على الرصيف البحري في الدكة القريبة? طفت المراكب الصفراء الصغيرة مسترخية بانتظار الأطفال? لتأخذهم في رحلة على متنها إلى وسط مياه الخليج? لحظات كانوا خلالها فوق البحر وتحت السماء ? الابتسامات والضحكات التي غطت تلك الوجوه الصغيرة كانت كفيلة بأن تغسل آثام الوجوه الكبيرة التي أغرقت البسطاء بالهموم. الأصوات التي كانت تختلط لدى الناس بين انفجار القنابل وانفجار الطماش(الألعاب النارية) قبل العيد صارت صوتا?ٍ واحد? لأنها لبست ثوب الفرح مع قدوم العيد? وبالرغم من أن هنالك شكاو من إزعاج الألعاب النارية إلا أن التسامح كان حليف من قام بها ? لا لشيء سوى أنه العيد? فالأطفال سعداء بالالعاب النارية ويسعون لشرائها من أجل التسلية وإدخال الفرحة لقلوب عانت من الرعب على أيد لا تقدر حياتها وحياة من حولها? على الأرض س?ْمع (بوووووم) وفي السماء (طاااااخ)? ش?ْوهدت تتناثر ألوان?ٍا مختلفة تزين الأفق? فكانت بهجة تسر الناظرين.
يتذكر صديق يعمل معلما?ٍ في المرحلة الابتدائية أيام طفولته في العيد? يقول: كنت أمشي مع أصدقائي في الحواري لنجمع العيدية ومن بعدها نقطع مسافة بعيدة لشراء الشبس(بطاطا مقلية) من البوابير(العربات) التي كانت تتنقل لتستقر في الأخير عند الدكة? ومع الأيام اختفت تلك العربات? عوض ذلك الغياب شاب حضرمي هندي وقف خلف زجاج دكانه في طرف إحدى الحواري ليبيع الشبس والبطاط والح?ْمر والكاتلكس والباجية والسمبوسة للأطفال? يأتونه من حواري قريبة وبعيدة? وتذكر أيض?ٍا تلك المرأة العجوز التي كانت تقطن بداية صعود درج الجبل? لتبيع الإيسكريم بطعم الفيمتو والأخرى التي كانت تعطي أطفال حارتها الشوربت(لبن بالفيمتو أو لبن باللوز) والمدامي(كريم كراميل) كعيدية? كما كانت الأمهات بتوجيه من الجدات يقمن بإعداد الكيك والكعك ليوزعنها على الأطفال وقت العواف في العصر? والعجوز الذي كان يجلس أمام باب بيته على كرسي خشب بريطاني التصميم حامل?ٍا علبة أنيقة ينادي على الأطفال المارين بجواره ليعطيهم نعنع العسل.
من الطقوس الجميلة التي لا يمكن أن ينساها الأطفال في العيد? مرورهم على بيوت قد ألفوا زيارتها في صباح كل عيد? يسلمون على أهلها? يهبونهم الفرح بالعيد? يختصرون العيد بجمل خجولة تحمل الود والمحبة? ليقدم لهم الكبار العيدية(الع?ْيادة) والحلاوة. وعلى الرغم من قلة الهبات العيدية لدى بعض العائلات إلا أنها كثيرة في عيون تشع سعادة لتعكسها على عيون تعطشت لها. يتجلى شكر الرب والرضاء بالقليل بسبب الظروف المعيشية السيئة في رائعة الطفلة المعجزة فيروز والعظيم أنور وجدي الغنائية الاستعراضية.
مـــعـــانـــا ريـــال.. مـــعـــانـــا ريـــال.. دا مبلغ عال.. ومش بطال..
في الأعياد? ليس هناك أكرم من الجدات? كانت جدتي مريم توصيني إلى الدكان لصرف الأوراق إلى قطع معدنية لتعطيها أطفال الحارة خلال أيام العيد? حين يصطفون في طابور قصير أمامها? كل?ٍا بدوره يأخذ العيدية والحلاوة. أتذكر أطول وقت كنت انتظر فيه العيدية واقف?ٍا أمام أم جدتي مريم(جدة م?ْلك) وقت الظهر? وهي مستلقية على سريرها بعد الغداء? تحاول جاهدة أن تعود بذاكرة أكلها الزمن إلى اللحظة التي صنعت بها تلك العقد والربط حول قطعة الهريس(الحلاوة) بطرف لثمة الصلاة قبل أيام?! وبتركيز رهيب كيف لها أن تفكها?!. و بعد جهد جهيد تخرج قطعة الهريس. ما يجعلني آكلها وابكي هو رجاءها بصوت رحيم وبيديها المرتعشتان من تقدم العمر تمدها لتقن