بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي
توشح قطاع غزة بالسواد، وشمله حزنٌ عميقٌ، وسكنه أسىً كبير، وساد الصمت شوارعه، والوجوم بيوته ومساكنه، وحبس الناس أنفاسهم وهم يسمعون الأخبار ويترقبون النتائج، فقد تضاربت الأنباء وتعددت الروايات، وطافت في سمائه سحبٌ قاتمةٌ سوداء، ونشطت طائرات العدو في فضائه كالغربان، ودوى هديرها في المنطقة كنعيق البوم ونذير الشؤم، فقد منيت غزة كعادتها بشبابها اليافع، وأبنائها الصِيدِ الغيارى، الذين يسقطون في كل ساعةٍ وحينٍ في كل مكانٍ من قطاعهم الحبيب، على حدوده الشرقية وأمام أسلاكه الزائلة، وخلال مسيرات العودة، وفي المواقع وعلى الثغور، وفي نقاط الرصد ومراكز الرباط.
شبانٌ فرسانٌ ثلاثة، محمد سمير الترامسي، ومحمود عادل الولايدة، ومحمد أبو ناموس، وحدهم سقطوا على الأرض شهداء، وغدوا فوق ترابها غرباء، لا يشاركهم الوغى أحدٌ، ولا يتبنى مقاومتهم حزبٌ أو تنظيم، ولا تنسبهم إلى نفسها حركةٌ أو جبهةٌ، بل تبرأ منهم الصغير والكبير، والفسيل والفصيل، وأعلن عدم مسؤوليته عنهم الحاكم والمحكوم، والسلطة الفعلية واللجنة التنفيذية.
بدا الشهداء الثلاثة الذين كانوا يضجون بالحياة، أيتاماً لا أب لهم يفخر بهم، ولا أم تزغرد لهم وتباهي بهم، ولا من يرفع صورهم أو يذيع أسماءهم، وهم الذين ضرجوا الأرض بدمائهم الطاهرة، ورووا بها ظمأ أرض غزة العزة، ورسموا على تراب شماله قوس قزحٍ شعبيٍ بتلاوينهم وتعدد مشاربهم، اللهم إلا من انتمائهم الواحد للوطن، وحبهم الصادق لفلسطين، وعشقهم لغزة التي يتضورون فيها جوعاً، ويعانون فيها ويلاً، ويشكون فيها ألماً، ويقاسون داخلها حصاراً.
حزن غزة على شهدائها الثلاثة مختلفٌ عن حزنها على بقية الشهداء، حزنٌ فيه غصةٌ وألمٌ، وفيه حسرةٌ وغضبٌ، وثورةٌ ولهبٌ، وفيه صمتٌ ووجومٌ، ورفضٌ ومعارضةٌ، واستغرابٌ واستنكارٌ، وإن كانت لا تفرق أبداً بين أبنائها، ولا تميز بين شهدائها، ولا تبخل بعطائها ولا تضن برجالها، إلا أن هؤلاء الثلاثة قد أدموا قلبها، وأحزنوا أهلها، وأبكوا سكانها وآلموا أحبابها، وأثار استشهادهم حراكاً شعبياً واسعاً، وجدلاً دينياً لافتاً، ونقاشاً سياسياً مسؤولاً، نأمل ألا تخبو ناره ولا يخمد جمره حتى يستبين الناس الحق، ويعرفوا الصواب، ويتعلموا مما حدث، ويأخذوا منه الدروس والعبر، لئلا تتكرر المحن ويدفع الشعب الثمن.
بعيداً عن الموقف من عمليات التسلل الفردية، ومحاولات الاشتباك الذاتية، التي سأفرد لمناقشتها مقالاً خاصاً، فإنه ما كان ينبغي أن ننكر الشهداء، أو أن نتنصل من المسؤولية عنهم، أو نتخلى عنهم ونتركهم لقمةً سائغةً للعدو يلوكهم بحقده، ويتشفى بهم بغيظه، ويقسو عليهم بلؤمه، ولا يحق لنا أن ندينهم وقد سقطوا شهداء، ونتهمهم بأنهم تصرفوا من تلقاء أنفسهم، وأنهم اجتهدوا وأخطأوا، ولم ينسقوا مع أي جهة، ولم يتعاونوا مع أي طرفٍ، وكأنهم يقولون أنهم يستحقون ما أصابهم، ويستأهلون ما لحق بهم.
إننا بهذا الفعل المنافي للمروءة والمناقض للنبل والشهامة، نزيد في حزن أهلهم، ونعمق المأساة في قلوبهم، ونتركهم وحدهم في محنتهم، وكأننها نجرعهم مر الكأس مرتين، كما أننا نحط من قدر أبنائهم ونستخف بهم، ونخدش شهادتهم ونعيب عليهم مقاومتهم، ونبريء العدو من جريمتهم ونطهره من دمائهم، ونحملهم أنفسهم مسؤولية ما حل بهم.
ما كان سيكون حال الشهداء الثلاثة على هذه الصورة المستنكرة، وكأنهم إثمٌ يتبرأ منه الجميع، ودنسٌ يتطهرُ منه الكل، لو أنهم نجحوا في اجتياز الحدود، واشتبكوا مع الجنود، وأوقعوا فيهم قتلى وجرحى، حينها كانت القوى والتنظيمات والأحزاب والحركات ستتنافس في تبنيهم، وستعلن مسؤوليتها عن عمليتهم، وستعلو أصوات الناطقين باسمها أنها كانوا ينتمون إليها وينتظمون في صفوفها.
وكانت التنظيمات ستتسابق في إقامة بيوت العزاء لهم وفتح سرادقات التهنئة لأهلهم، وسيرفعون صورهم المزدانة بشعاراتهم، وكأنهم لا يتبنون إلا نصراً، ولا ينسبون إلى أنفسهم إلا كسباً، لكن قدر الشهداء الثلاثة أن يسقطوا مقبلين غير مدبرين على السياج الفاصل، قبل الاجتياز ودون اشتباكٍ.
أيها الشهداء الأبرار قروا عيناً وطيبوا نفساً واهنأوا عيشاً، فإن الله عز وجل قد قبلكم عنده، واستضافكم في رحابه، وأسكنكم فسيح جناته، وأودع أرواحكم في حواصل طيرٍ خضرٍ معلقةً في قناديل تحت عرشه، وجمعكم من أنبيائه ومن سبقكم من الشهداء، فلا يضيركم إن تخلى بعض الناس عنكم، ونأت التنظيمات بنفسها عن شهادتكم، ولا يحزنكم الجدال الذي ثار بعدكم.
فشعبكم أيها الشهداء الأطهار يتبانكم ويحتضنكم، ويعتز بانتسابكم إليه ويفخر بانتمائكم إليه، والله وحده الذي كفى عبده يكفيكم، وهو الذي اختاركم وانتقاكم، وهو سبحانه وتعالى الذي يعلي مقامكم، ويبقي ذكركم ويحفظ أسماءكم، ويخلد أعمالكم، ويبارك في دمائكم، ويشفعكم فيمن تأخر أو قصر من أهلكم.