شهارة نت – تحليل
مرّة أخرى يعود الحديث عن استراتيجية واشنطن في سوريا إلى الواجهة، هذه المرّة جاء الحديث عن استراتيجية واشنطن في سوريا خلال المرحلة القادمة على لسان المبعوث الرئاسي الأمريكي جيمس جيفري خلال حديثه مع صحيفة “الشرق الأوسط”.
جيفري الذي زعم أنّه ليس لواشنطن “سياسة لتغيير النظام بالنسبة إلى (الرئيس) بشار الأسد”، أكّد أن واشنطن ستواصل الضغط على دمشق وحلفائها عبر العقوبات الاقتصادية والوجود العسكري شمال شرقي سوريا ووقف التطبيع العربي والغربي إلى أن تتشكل “حكومة جديدة بسياسة جديدة مع شعبها وجوارها”.
يستدعي كلام جيفري التوقّف ملياً، لا لكونه المبعوث الرئاسي فحسب، بل لأنه شغل مناصب سياسية في الدول المحيطة بسوريا كسفير سابق في كل من العراق وتركيا، ويعمل كباحث في معهد واشنطن للشرق الأدنى، وهو المعهد المعني بالاستراتيجية الدبلوماسية والعسكرية لأمريكا في الشرق الأوسط مع تركيز خاص على سوريا وتركيا والعراق وإيران.
يحمل كلام جيفري، الذي كان معارضاً لانسحاب القوات الأمريكية من العراق في العام 2011، حول استراتيجية بلاده المقبلة في سوريا جملة من الدلالات، نذكر منها:
أوّلاً: هناك غياب واضح للاستراتيجية الأمريكية في سوريا، هذا الغياب مقرون مع تراجع عن الأهداف الأمريكية السابقة، بدءاً من تغيير الرئيس الأسد، وليس انتهاءً بالقوات الأجنبية في سوريا.
بدا كلام جيفري دبلوماسياً بامتياز عندما قال أنّه ليس لواشنطن سياسة لتغيير النظام في سوريا، ولو أن الواقع هو فشل واشنطن في تغيير النظام في سوريا، هناك إشارات أمريكية واضحة برغبتها للعودة إلى المفاوضات.
ثانياً: يبدو أن واشنطن تسعى للمناورة في الوقت الضائع، لتحقيق أهدافها عبر الاقتصاد والسياسة بعد أن فشلت في تحقيقها عسكرياً. ترامب لا يدرك سوى اللعب بالورقة الاقتصادية، وهي أقوى الأوراق بيد واشنطن، لكنّ سوريا التي بدأت بإدلب ستنتقل إلى الشمال السوري حيث توجد القوات الأمريكية، وهذا أحد أسباب تلويح واشنطن بالمفاوضات سواءً عبر التصويب على أستانا من قبل المبعوث الأمريكي نفسه، أو الحثّ على العودة إلى جنيف، أو حتى الاجتماعات المصغّرة مع بعض الدول مثل فرنسا ومصر والسعودية وبريطانيا والأردن.
ثالثاً: تراجع آخر ظهر على لسان جيفري عندما تحدّث عن القوات الإيرانية في سوريا، فقد لفت إلى “أن أمريكا تريد خروج القوات الإيرانية من سوريا في نهاية العملية السياسة، وأن “هذا الطلب واقعي، بحيث يعود وجود القوات الأجنبية في سوريا كما كان قبل 2011”.
كلام جيفري لم يختلف عن كلام الإيرانيين أنفسهم هذه المرّة، لا في الشكل ولا في المضمون، فبعد أن سلّم بفشل استراتيجية بلاده السابقة التي طالبت بالخروج الفوري للقوات الإيرانية، بات يردّد اليوم ما قالته طهران، جئناً بطلب من الرئيس الشرعي، ونخرج بطلب منه.
رابعاً: تدرك واشنطن عدم شرعية وجودها في سوريا، لذلك تعمد دائماً إلى ترك الباب موارباً على هذا الصعيد، ورغم أن واشنطن تريد البقاء في سوريا، كما العراق، إلا أنها تربطه بنسج تفاهمات على الأرض لحماية هذه القوات من هجمات قد تتعرض لها سواء من المقاومة العشائرية التي كوّنتها سوريا، أم الفصائل المقاومة التي تعمل تحت إشراف المستشارين الإيرانيين.
ترامب يصرّ على الخروج من سوريا، لكنّ مبعوثه على العكس، وهذا التوجّه أيضاً يحمله كل من وزير الخارجية مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي جون بولتون، لكنّ الرئيس الأمريكي غير مستعد لخسارة قواته في سوريا، وبالتالي خسارة الانتخابات الأمريكية المقبلة.
نعتقد أن ترامب مستعد لعزل جيفري وبومبيو وبولتون سويّة، كما حصل مع وزير الدفاع ماتيس في حال أصروا على الحضور الأمريكي في سوريا حال حصول أي تهديد.
خامساً: ما يؤكد التخبّط الأمريكي، ولعله النفاق بعبارة أدقّ، كلام جيفري بأنه “لدينا خطة للاستقرار في المنطقة مع شركائنا المحليين للتأكد من هزيمة تنظيم الدولة”.
ربّما غاب عن ذهن جيفري كلام الرئيس ترامب في 19 ديسمبر/كانون الأول 2018 عندما أعلن عن سحب قوات بلاده من سوريا بشكل كامل وفوري، معلّلا ذلك بأن مبرر وجودها الوحيد قد انتهى بهزيمة تنظيم داعش الإرهابي.
لاحقاً، أيضاً كرّر ترامب حديثه عن الانتصار النهائي على داعش والقضاء عليه في آخر معاقله في سوريا.
سادساَ: تحدّث جيفري عن المنطقة العازلة في سوريا، مشيراً إلى أن “المنطقة ستكون على طول الحدود التركية – السورية شرق الفرات، ولم نتفق بعد حول عمق المنطقة، لدينا رأينا ولتركيا رأيها وأعلنت ذلك، هذه المنطقة تعني تضعيف، وربما خسارة، واشنطن لورقتها الكرديّة، لا يعدّ التوافق على هذه المسألة بالأمر السهل بين كل من تركيا وأمريكا، في المقابل، أكّد الرئيس السوري بشار الأسد أنه عازم على تحرير كل شبر من سوريا، مشدداً على أنه سيتعامل مع القوات الأجنبية كقوات احتلال.
في الخلاصة، يبدو واضحاً غياب الاستراتيجية الأمريكية الواضحة في سوريا، بل هناك تعامل مع المتغيّرات التكتيكية والتصّرف وفق مستجدات الميدان، ولعل التخبّط الذي ينتاب الإدارة الأمريكية منذ وصول الرئيس ترامب البيت الأبيض من جهة، والفشل العسكري وانحسار أدوات الضغط الميدانيّة التي تملكها واشنطن من جهة أخرى، أحد أبرز الأسباب.