بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي
التآمر على فلسطينَ وأهلها تآمرٌ قديمٌ وكيدٌ متينٌ، اشترك فيه وتعاون عليه كثيرون، وتعاهد على تنفيذه عبر مختلف العهود قادةٌ وزعماءٌ ودولٌ وحكوماتٌ، فقد كانت فلسطين محل أطماع الغرب ومحط اهتمامهم ومركز وجودهم، فانشغلوا بها وانتقلوا إليها، وحاربوا فيها ومن أجلها، إذ عرفوا قدرها وأدركوا مقامها، فاستكثروها على أهلها ونافسوهم عليها، واستوطنوا فيها وحاربوهم عليها، ورفضوا أن تكون لهم وطناً، أو أن تكون لهم فيها دولةٌ، وكأن أهلها الفلسطينيين لايستحقونها، ولا يحق لهم العيش فيها والتمتع بها، شأنهم شأن بقية الشعوب أمثالهم، الذين يتمتعون بحريتهم ويعيشون في دولتهم ويرفعون أعلام بلادهم.
لم يكن وعد بلفور الأثيم هو الوعد الأول الذي قدمه الثنائي الأوروبي الاستعماري القديم، إلا أنه يبقى الوعد الأسوأ والأخطر، والأكثر أثراً والأعمق أزمةً، إذ أنه أسس فعلياً لسلخ فلسطين عن عالمها العربي، وسلم مفاتيحها إلى المستوطنين الوافدين من أبناء الحركة الصهيونية الحاقدة، وشرع أبوابها للمهاجرين وسهل دخولهم إليها، وسن القوانين التي تخدمهم وأصدر القرارات التي تنفعهم، وزودهم بالمال والسلاح، وفتح لهم المعسكرات ودربهم، مما مهد الطريق واسعةً وسهلةً لليهود الوافدين لإقامة كيانهم، وترسيخ أقدامهم، وتقوية جيشهم، وتوسيع ملكهم، ثم الامتداد في المحيط والاعتداء على المجاورين لهم.
لكن فرنسا وزعيمها في نهاية القرن الثامن عشر نابليون بونابرت، كان قد سبق الإنجليز في وعدهم، وخاطب الجاليات اليهودية في أوروبا قبلهم، وجلس معهم وأصغى إليهم، ونسق معهم وحاول الاتفاق وإياهم، إذ أعلن خلال حملته الشهيرة إلى الشرق، تأييده لليهود في إقامة وطنٍ قوميٍ خاصٍ بهم وخالصٍ لهم في فلسطين المحتلة، واستعد أن يقدم لهم العون الممكن والمساعدة المطلوبة، وأن يضمن لهم التسهيلات والامتيازات لتمكينهم من تحقيق حلمهم التاريخي التوراتي بالعودة إلى فلسطين والاستيطان فيها، مقابل أن يدعمو حملته، وأن يؤيدوا مشروعه، وأن يقفوا إلى جانبه في مواجهة خصومه الأوروبيين وأعدائه المحليين، بعد أن شعر بأن مشروعه على الأرض الفلسطينية ينهار، وعلى أعتابها يسقط، وأن أحلامه في مستقبل امبراطوريته تتبدد.
لا أذيع سراً بما أسلفت، ولا أكتب جديداً عن الوعد الفرنسي الأول، فالفلسطينيون وغيرهم يعرفون المساعي الفرنسية الأولى والأطماع الإمبراطورية التي كانت لهم، وأنهم كانوا ينفخون في رماد اليهود لينهضوا، ويستصرخون قادتهم ليتحركوا، ولكنني أردت بيان أن التآمر على فلسطين تآمرٌ قديمٌ، يتولى كبره الغرب بإطاره الواسع العريض، وتتعاقب على التآمر عليها دولٌ وحكوماتٌ، فمرةً ترعى فرنسا الدولة العبرية الجديدة النشأة، وتزودها بالأسلحة الحديثة والطائرات الحربية المقاتلة، وتبني لها مفاعلها النووي الأول، وتمكنها بكل أسباب القوة والمنعةِ، بعد أن كانت بريطانيا قد منحتها الفرصة للوجود، وسلمتها الأرض التي تريد والبلاد التي كانت تتطلع إليها، وتنازلت لها عن سلاحها وثكناتها، بعد أن جردت سكان فلسطين العرب من أسلحتهم وأدوات قتالهم البسيطة.
وها هو الغرب بقوته الأعظم ودولته الأكبر المتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية، تقف إلى جانب الكيان الصهيوني بكل ما أوتيت من قوةٍ، تدعمه وتسانده، وتؤازره وتساعده، وتدافع عنه وتحميه، وتصد أي اعتداءٍ عليه وتهدد من يفكر بالمساس به، ومعها بريطانيا وفرنسا وإن بدا عليهما أنهما تعتدلان في مواقفهما، وترفضان السياسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، إلا أنهما في حقيقتهما ومعهما ألمانيا التي تشعر بعقدة الذنب يؤيدون الكيان الصهيوني، ويخافون من معارضته، ولا يتجرأون على الاعتراض على سياسته أو رفضها، إلا تنديداً بالقول أو استنكاراً خجولاً لرفع العتب وذر الرماد في العيون.
إنه الغرب ملةٌ واحدةٌ وسياسةٌ مشتركةٌ، تجمعهم الأطماع والأحقاد، وتحركهم المصالح والمنافع، يوالون الكيان الصهيوني ويحبونه، ويفضلونه علينا ويؤيدونه، ويرونه حليفاً لهم وشريكاً معهم، جزءاً منهم وسلاحاً معهم، فلا نحلم يوماً بنصرةٍ منهم أو عدلٍ وإنصافٍ على أيديهم، أو اعترافٍ بخطأهم التاريخي بحقنا، اللهم إلا أن نعتمد على الله ثم على قوتنا، نزيدها ونراكم عليها، ونواجههم وعدونا بقوتنا ووحدتنا، واتفاقنا ومنعتنا، وصلابتنا وإرادتنا، فلا أحد يعيد لنا حقنا غيرنا، ولا يعود إلينا بضعفنا وقلة حيلتنا، ونحن بإذن الله أقوياء بإرادتنا، وثابتون على حقنا، وماضون على على دربنا حتى النصر والعودة والتحرير.