لا نُفشي سراً إذا قلنا إنّ الزيارات الأميركية الى لبنان لطالما ارتبطت بمصالح واشنطن وربيبتها “إسرائيل”. مصلحة كيان العدو العليا لا تُفارق أي أجندة يحملها الزائرون الأميركيون الى لبنان. أولئك يُسوّقون تحت عناوين “براقة” كل ما يرونه مناسباً لمصلحة العدو. نظرة سريعة الى تاريخ اللقاءات الأميركية مع المسؤولين اللبنانيين، تؤكّد ما سبق، وإن بصورة غير مباشرة. صالونات عين التينة وذاكرة رئيس مجلس النواب نبيه بري تحفل بلقاءات من هذا النوع، حتى بات الرئيس بري يعرف مكتوب الزيارة من موعدها، وينظر الى الضيف الأميركي فيفهم ما يريد حتى دون أن يتكلّم.
اللقاء الأخير الّذي جمعه بمساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد ساترفيلد، لا يخرج عن هذا النفس الأميركي والسياسة “العمياء” و”العوجاء” التي تتبعها الولايات المتحدة، تلك السياسة التي بدت واضحة وجلية في العديد من الملفات، وعلى رأسها ملف الحدود البحرية بين لبنان وكيان العدو، العالق منذ نحو 12 عاماً، والذي نصّبت فيه الولايات المتحدّة الأميركية نفسها وسيطاً و”قاضياً” فاسداً لا يعمل سوى لمصلحة طرف العدو. تطرح رأيها للحل بناء على ما يجده الصهيوني مناسباً، لا بناء على ما يقوله القانون. والمؤسف في العروض التي حملها الأميركيون تلك العروض المعدة كـ”وجبات سريعة” لا مجال فيها للنقاش على قاعدة “take it or leave it”.
وفيما يحط وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو زائراً على أرض لبنان خلال أيام، وسط توقعات بأن يحتل ملف الحدود البحرية الحيز الأكبر من النقاش بينه وبين رئيس مجلس النواب نبيه بري، تؤكّد مصادر لموقع العهد الإخباري أنّ عين التينة ستُسمع الضيف الأميركي ما يجب أن يسمعه لجهة التمسك بحق لبنان الكامل في حدوده البحرية، وعدم التفريط بأي “شبر” من المساحة، وهو الأمر الذي سمعه زملاؤه الذين سبقوه في الوساطة.
وفي هذا الصدد، يُشدّد اللواء عبد الرحمان شحيتلي -الذي تولى رئاسة لجنة التنسيق اللبنانية مع القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان- لسنوات، يُشدّد على أنّ الولايات المتحدة الأميركية لم تكن وسيطاً نزيهاً لجهة المفاوضات الجارية مع كيان العدو في ملف الحدود البحرية. المباحثات مع الجانب الأميركي لم تخرج عن سياق ثلاثة حلول “مبتورة” قدّمتها واشنطن للبنان، يمكن تلخيصها بالآتي:
– القبول بالعرض الأميركي الذي قدم عام 2012 عبر الموفد فريدريك هوف، والذي يقضي برسم خط يقسم المنطقة الاقتصادية المتنازع عليها والتي تبلغ مساحتها 860 كلم مربعاً، يُعطى لبنان 460 كلم مربع، وبقية المساحة لكيان العدو، وفي ذلك تعدٍّ واضح، وفق شحيتلي، على السيادة اللبنانية من قبل الولايات المتحدة التي تتعامل مع الأراضي اللبنانية وكأنها ملك لأجدادها، وتتبرع بالكيلومترات من “كيسها”
-إعادة المحادثات بين لبنان وقبرص وبالتالي الرجوع الى نقطة الصفر، وتمرير الوقت لخمس سنوات إضافية، تمكّن كيان العدو من سرقة مواردنا
-ترك الحرية للشركات الساعية الى الاستكشاف والتنقيب عن الغاز والنفط للاتفاق في ما بينها، ما يعني اللجوء الى تطبيع اقتصادي من حيث ندري أو لا ندري مع كيان العدو عبر خط أنابيب النفط الذي يمر عبر “إسرائيل”-مصر واليونان.
أمام هذه العروضات الأميركية التي كانت في كل مرة تقارب القضية مع الجانب اللبناني على قاعدة “take it or leave it” أي “خذها أو اتركها”، يرسم شحيتلي الذي خاض المفاوضات لسنوات وخبر العقلية الأميركية والغربية في التعاطي مع الملف، يرسم خارطة طريق على لبنان اتباعها لحفظ حقوقه. من وجهة نظره، فإن الوقت لا ينتظر، ولبنان مُطالب بعدم تمرير المزيد من الوقت لمصلحة كيان العدو الذي يغتنم الفرصة، فيواصل اعتداءاته في النهب والسرقة. وعليه، فإنّ لبنان يمتلك ورقة قوية لا بد من استخدامها خلال لقائه وزير الخارجية الأميركي، وهي العودة الى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982، وبالتحديد للمادة 73 التي تنص على أنه اذا لم يتوصل الطرفان المتجاوران الى الحل العادل، فلا بد من تطبيق المادة 15 التي تنص على أن على الجانبين تطبيق معادلة “الخط الوسطي” الذي من المفترض أن يكون متساوي الأبعاد عند النقاط الأساسية على الشاطئين المتجاورين. يُشدد شحيتلي على أن ما سبق هو الحل الأمثل في ظل المراوغة الأميركية، واتباع سياسة تمرير الوقت.
ويلفت شحيتلي الى أنّ باستطاعة لبنان -وفق القانون- إعطاء الضوء الأخضر للشركات للبدء بالتنقيب على أن لا تتعدى “الخط الوسطي”. هذا الأمر يعطي للشركات الغطاء القانوني، وبالتالي يُكسب لبنان الوقت، ولا يسمح لكيان العدو بسرقة ثرواته. ويُشدد شحيتلي على أنّ واشنطن لا يمكنها القول إن “إسرائيل” غير موقعة على الاتفاقية الدولية، لأنّ العدو اعتبرها مرجعاً خلال اتفاقه مع قبرص.
تاريخ الأزمة
يستعرض شحيتلي تاريخ التنازع على المنطقة الاقتصادية، ليُبيّن مدى المراوغة الأميركية، والضغط الذي تمارسه على العديد من الدول حفاظاً على مصلحة “اسرائيل”. فالمحادثات بشأن المنطقة الاقتصادية بدأت عام 2007، حين تألفت لجنة لترسيم حدود المنطقة الاقتصادية التي تُعرّف بأنها المنطقة التي تستفيد منها الدولة حصراً اقتصادياً. المحادثات بدأت مع لجنة من قبرص، وجرى توقيع اتفاقية مع الجانب القبرصي، فيما جرى إبقاء النقطتين “1” و”6″ على أنهما مؤقتتان. “إسرائيل” استغلت هذه الثغرة، خصوصاً أن لبنان أبعد حدوده الى الداخل، فما كان من كيان العدو إلا أن وقع اتفاقية مع قبرص على حين غفلة، وفي ظل ظروف صعبة يعيشها لبنان المقسوم سياسياً. استفادت “إسرائيل” من هذا الأمر، ووضعت حدودها بالمكان الذي بدأ فيه لبنان حدوده مع قبرص. يُذكّر شحيتلي أن لبنان أعلن حدوده بموجب مرسوم وسلمه للأمم المتحدة وتبين بعدها أن “إسرائيل” قضمت 860 كلم من حدود لبنان.
يلفت المتحدث الى أنه وعند ترسيم الحدود اللبنانية اعتمدنا على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، بينما “إسرائيل” لم تعتمد على أي مسوغ قانوني وتقني لرسم ما تسميه “حدودها”، إنما رسمت عشوائياً، وبشكل فاضح أسّس لبروز منطقة متنازع عليها، ما يُحتم بحسب الاتفاقية الدولية إجراء محادثات مباشرة، وهذا أمر مستحيل مع عدو لوطننا. عندها طلب لبنان دخول الأمم المتحدة كوسيط، فكانت الإجابة أن “إسرائيل” لم تطلب ذلك، لتدخل الولايات المتحدة الأميركية كوسيط يتحدّث باسم كيان العدو حصراً، وفق ما بينت السنوات.
وفي معرض حديثه، يوضح شحيتلي أنّ عام 2012، اقترح الوسيط الأميركي آنذاك فريدريك هوف
رسم خط عرف لاحقاً باسم “هوف”، وعرض على شحيتلي حينها إعطاء لبنان 460 كلم من المنطقة المتنازع عليها والبقية لإسرائيل، فرفض الجانب اللبناني، فما كان رد الوسيط الأميركي إلا أن اقتراحه نهائي وغير قابل للبحث. حينها، طلب لبنان من المبعوث أخذ المساحة المذكورة (460 كلم)، وإبقاء المساحة الباقية كمساحة متنازع عليها، واستكمال المفاوضات بشأنها، إلا أن الاقتراح سقط أرضاً. وفي عام 2013، كانت ردة فعل الأميركي إزاء الاصرار اللبناني على حقه إيقاف دور الوساطة، حينها بلغ شحيتلي سن التقاعد، وبدأت “إسرائيل” سياسة المماطلة وإطالة أمد الحل واستغلال النزاع للبدء بالاستكشاف والتنقيب وإبرام العقود لاستخراج الموارد.
توقفت المفاوضات لسنوات، الى أن أعاد وزير الخارجية الأميركي العام الماضي إحياء الحديث عن خط هوف، فرفض لبنان مجدداً على اعتبار أنه غير عادل، فاستغل كيان العدو الفرصة للضغط على الشركات، ومنعها من التعامل مع لبنان، وبقيت الأمور على ما هي عليه حتى العام الحالي. وهنا يُشدد شحيتلي على ضرورة أن يتعامل لبنان بطريقة أكثر جدية مع السياسات الأميركية، ويغتنم الفرصة بالعودة الى الاتفاقية الدولية، بعيداً عن “العنتريات” والاستعراضات، فالوقت لا ينتظر ومواردنا في خطر.