هل انتهت شرعية ماكرون مع نهاية حركة السترات الصفر؟
بقلم/ أنطوان شاربنتييه
لقد فهمت أغلبية الشعب الفرنسي، أن هناك كثراً يستغلّون الحراك لتصفية الحسابات مع الرئيس ماكرون، ومن ثم قلب الطاولة على الجميع وأخذ الحُكم بالقوّة بعدما خسروه في انتخابات الدورة الماضية. المضحك المبكي في آن معاً هو أن هؤلاء، كما الرئيس ماكرون، يدّعون حب فرنسا، والعمل لمصلحة شعبها. ما يجعلنا نشكّك فعلاً في نواياهم، كما في نوايا الحكّام الفرنسيين، خصوصاً أن فرنسا كادت أن تنزلق في الأيام الأخيرة نحو سيناريو مشابه للربيع العربي، الذي كاد أن يؤدّي إلى حرب أهلية. وللأسف الشديد فإن أرضية المجتمع الفرنسي جاهزة بعض الشيء لذلك. ولا ننسى أن هناك كثراً يحبّذون هذه الفكرة، خارجين بذلك عن جميع الأطر السياسية الحضارية التي تليق بفرنسا وبشعبها.
إن انحراف حركة السترات الصفر عن وجهتها ودخولها معترك الصراع على السلطة، وتقاعس الأحزاب السياسية والحركات النقابية سواء أكانت معارضة أم موالية، زاد الطين بلّة، وأحدث شرخاً كبيراً بين فئات الشعب الواحد.
انتهت حركة السترات الصفر في الجوهر، نعم، رغم أن هناك مَنْ مازال يتظاهر في الشارع ويشدّد على ضرورة البقاء فيه حتى تحقيق كافة المطالب. لكن بعد أكثر من شهر على التظاهر والاحتجاج و ما آلت إليه الحال في فرنسا، فما هي أسباب فشل هذا الحراك؟
أولاً، لأن ماكرون حاول مُجبراً تلبية “نداء الضرورة” للحراك بطريقة سطحية ليمتصّ غضب الشارع الفرنسي الذي قد يظهر مجدّداً بعد الأعياد تحت رايات السترات الصفر أو تحت رايات ومُسمّيات أخرى.
ثانياً، هذا الحراك الذي بدأ شعبياً ومحقّاً لم يعد ينادي بمطالب الشعب المحقّة والنزيهة، بل تمادى وطالب بخروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، واستقالة الرئيس ماكرون. وقلب السلطة. وهنا يجدر بنا التنويه بأن مَن ينادي بخروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي عادة هم بعض الأحزاب السياسية المتطرّفة. فمن منطلق “قل لي ما هو شعارك أقل لك من أنت”، نفهم أكثر فأكثر حقيقة الصراع القائم في أيامنا هذه على السلطة في فرنسا، أما السؤال الذي يجب أن يُطرح هنا فهل تستطيع فرنسا فعلاً الدخول بعملية كالبريكست مثلاً؟ وما هي تداعيات ذلك؟
ثالثاً، فشل الحراك الشعبي الالتزام بالمطالب الشعبية التي قام لأجلها بسبب غياب القيادة الحقيقية الواعية والمثقّفة للحراك، والقادرة على التفاوض مع السلطة، ورغم أن ماكرون وحكومته يحاولان جهدهما الظهور بمظهر المُستجيب لمطالب الشعب إلّا أن هذا لم يحدّ أو يخفّف من غضب الفرنسيين بل ساهم بتشتيت الحراك شيئاً فشيئاً، وبالتالي ضعف تأثيره.
رابعاً هناك مَنْ راهن مِن داخل المنظومة السياسية الفرنسية على حركة المتطرّفين والمُشاغبين في الشارع لفرض أمر واقع جديد على الفرنسيين. لكن هنالك عدّة أسباب ساعدت في الوقت نفسه الرئيس ماكرون وحكومته على تثبيت كراسيهم جيّداً. وأحد أهم هذه الأسباب هو “الاقتراحات” أو الفتات الذي رماه الرئيس ماكرون للشعب الفرنسي بعدما شعر أن كرة النار تقترب من كرسيّه الرئاسي. لكن الرئيس ماكرون المُدافِع الشرس عن الاتحاد الأوروبي، يضع نصب عينيه الانتخابات القادمة للبرلمان الأوروبي. وهذا ما يفسّر بعض الشيء ماهيّة اعتذراه من الشعب الفرنسي. لكن هل فعلاً تغيّر الرئيس ماكرون بين ليلة وضحاها؟ هذا ما ستفسّره الأيام القادمة.
أما بالنسبة لاقتراح الرئيس ماكرون بخصوص زيادة الحد الأدنى للأجور بمبلغ قدره 100 يورو، فهو يوهِم الشعب الفرنسي بتلك الزيادة متبّعاً بذلك مقولة “فرّق تسد”. وهذا قد يؤجّج من جديد غضب الشارع الفرنسي عندما يعي جيّداً الخدعة التي طرحها ماكرون. في الحقيقة، فإن الحكومة الفرنسية لن تزيد الحد الأدنى للأجور بما يعادل 100 يورو، بل سترفع قيمة المكافأة على العمل والتي ستشمل خمسة ملايين عائلة فقط، على شرط أن يتقدّموا بطلب لنيل هذه المكافأة !!.
بالمبدأ هذه المنحة هي بقيمة 100يورو لكن لها شروط عدّة: منها أنه يجب ألا تتقاضى العائلة علاوة الأسرة بقيمة مرتفعة، و ألا يتقاضى أحد الزوجين أكثر من الحد الأدنى للأجور، و لو بشكل بسيط.
وبهذا يكون الرئيس ماكرون قد رمى الفتات للشعب، وأوهم الفرنسيين و الرأي العام العالمي باستجابته لمطالب الحراك الشعبي، لكنه في الواقع لم يلبِ المطلب الأساس للسترات الصفراء بزيادة الحد الأدنى للأجور!!.
أما بالنسبة لاقتراحه بخفض الضريبة على المتقاعدين الذين يتاقضون ما دون الألفين يورو. فهناك بعض الأسئلة التي يجب طرحها. أولاً كيف سيموّل الرئيس ماكرون هذا الاقتراح وهو الذي يردّد دوماً أن حال فرنسا الاقتصادية سيّئة جداً؟ وثانياً، ماذا عن الإصلاحات التي تخصّ التقاعد؟ والتي هي إحدى مطالب السترات الصفر أو بالأحرى إحدى أهم مطالب الشعب الفرنسي كله؟
ناهيك أننا لم نسمع من الرئيس ماكرون أيّ اقتراحٍ على سبيل المثال لخفض أسعار المحروقات التي ما زالت مرتفعةً جداً مقارنةً مع الدخل العام، كما لم يتحدّث عن إلغاء الضريبة الإضافية على السلع اليومية الضرورية، أو إعادة الضريبة على الثروة التي حرمت الخزينة الفرنسية من حوالى خمسة ملايين يورو!! وهذا ما يفسّر نوعاً ما ارتفاع الأسعار وزيادةَ الضرائب الهادفة لتعويض نقص الدخل في الخزينة بعض الشيء.
إن احتمال استقالة الرئيس ماكرون قد يفتح الأبواب لانتخابات رئاسية مُبكرة، ما يعطي فرصة الترشّح للذين خسروا الانتخابات في الدورة الماضية. لكن المشكلة الحقيقية ليست باستقالة الرئيس ماكرون أو عدم استقالته. فأغلبية الفرنسيين ليسوا مُقتنعين بسياسته، ولا مُعجبين بشخصيته، لكنهم صوّتوا له كي لا يصل اليمين المتطرّف أو غيره إلى الحكم، ومَنْ أتى به إلى الحكم عبّد له الطريق جيّداً ليكون في نهاية السباق الرئاسي في مواجهة مع المرشّحة الرئاسية مارين لوبين، مراهنين بذلك على رفض الفرنسيين عموماً لمشروعها السياسي وبهذه الحال ستكون هناك فرصة لإيصال أحد رجالهم إلى سدّة الرئاسة الفرنسية. وحالياً، تشير استطلاعات الرأي الفرنسية إلى تدنيّ شعبية الرئيس ماكرون يوماً بعد يوم ما يبرهن على عدم إجماع الفرنسيين على شخصه و على سياسته.
إن انتشار الإرهاب وتمدّده في فرنسا أتى ليعقّد الأمور أكثر فأكثر. فخرجت السترات الصفر متظاهرةً ضد “المؤامرة” ومتهمةً الدولة بتسهيل عملية الإرهاب في سوق الميلاد في ستراسبورغ”بنيّة ” إخراج السترات الصفر من الشارع وإسكاتها “واتّهامها” بتجاهل مخاطر التهديدات الإرهابية التي تواجهها فرنسا خصوصاً وأوروبا عموماً. أما الحكومة الفرنسية، فحاولت إظهار بعض حُسن النيّة، التي لا تخلو من بعض الشبهات، فطالبت السترات الصفر بوقف التظاهرات جرّاء ما حصل في سوق ستراسبورغ، وذلك تفادياً لمخاطر أعمال إرهابية أخرى وما يرافقها من إخلال بالأمن، عدا عن أن الشرطة الفرنسية ستكون منشغلة بالتظاهرات بدلاً من انشغالها باستتباب الأمن.
بعد كل ما ذكرناه سابقاً، يمكننا القول إن حركة السترات الصفر قد شارفت على نهايتها من ناحية الجوهر، لكن معها أيضاً سينتهي ما تبقّى من شرعية حُكم الرئيس ماكرون. من الوارد جداً أن يُنهي الرئيس ماكرون ولايته الرئاسية الدستورية، لكن مصاعبَ جمّة ستواجهه في المستقبل، خصوصاً في خوضه لانتخابات البرلمان الأوروبي في 26 أيار/ مايو عام 2019 والانتخابات البلدية في عام2020 .
وختاماً، سواء أكانت السترات الصفر أو الرئيس ماكرون وحكومته، فقد شرّعوا أبواب فرنسا على مصراعيها لمستقبل فرنسي غامض قد يكون مليئاً بالأزمات والمُفاجآت التي قد تغيّر وجه فرنسا بشكل خاص وأوروبا بشكل عام.