مجاعة ما بعد الحداثة.. والجهل المفترى عليه
بقلم/ سند الصيادي
فيما كان السياسيون والمثقفون والتقدميون يتحدثون عن ضرورة اجتثاث الجهل من مجتمعنا .. كان اجدادنا الجاهلون كما يصفهم اولئك المثقفون , يزرعون الارض ويحصدون محاصيلها التي كانت تكفي استهلاكهم لاعوام.. ويقومون بتربية الثروه الحيوانية ولا ينتظرون شحنات القمح او الاغنام القادمة من استراليا والحبشة ودول العالم.
وفيما كان يتحدث اولئك عن ضرورة اشراك المرأة في العمل كانت جداتنا ” الجاهلات” يقتسمن ميدان العمل بدون “كوتا” ولا منظمات دفاع .. فيطعمن ابقارهن ليصنعن من حليبهن وزبدتهن وجبة للمواليد وللصغار والكبار. ليكتمل نصف المجتمع العامل .. قبل ان يغزونا حليب النيدو و الاجبان المعلبة وعلب الزبادي المستوردة.
كان اولئك الجهلة بمفهومنا.. وهم لم يدرسوا الاقتصاد ولا كتب التنمية البشرية والاقتصادية.. يعرفون ماذا يعني المستقبل وتحدياته.. فاستعدوا له بتنمية مواردهم المتاحة من زرع ومواشي.. وكيف ينمونها ويدخرونها للسنين القادمة خشية المستقبل الذي لطالما ظلينا نعزف على اوتاره كذبا و ظلما..
اليوم ومع كل حديث حول القضاء على الامية.. وجب ان نحتفل معها ايضا بالقضاء على اخر. مقومات الامن القومي الغذائي .. قضي على القطاع الزراعي و الحيواني و الغذائي الذي كان في زمن الجهل يكفي اولئك الجاهلون الذين لا يرتدون الجينز ولا يتقنون المصطلحات المعربة. شر الجوع والحصار والتسول ..
تعلم الناس الهجاء والكتابة في الريف ..لكنهم باتوا يفتقدون الى فطيرة الذرة البلدية والحليب الطازج والسمن واللحم والعسل .. وحل بدلها منتجات خارجية معلبة ليس لهم فيها جهد ولا يملكون قرار بقائها من عدمه وباتت حياتهم مرهونة بها ولا خيارات ..ولم يعد لهم في الريف من انتاج ذاتي يذكر غير زراعة القات وبيعه ومن ثم شراء كل شي مستورد .. حتى علب مياة الشرب .
اختفت الابقار وقطايع الاغنام.. ومخازن الذرة .. وانعدم مفهوم الامن القومي الغذائي تماما .. وسلمنا انفسنا باسم التعليم المزيف .. لاجبان والبان هولندا وقمح استراليا وعسل امريكا ولحوم افريقيا ..الخ.
خسرنا ما كان لدينا من معطيات للبقاء والعيش .. وانشغلنا بمتابعة اسعار السلع المتصاعدة بقلق و خوف.. فيما زاد الاخرون من تحفيز انتاجهم لتغطية احتياجاتنا.. فتملكونا.. باسم التحديث والتقدم. الذي لم يكن الا نكسة عصفت باجيال مفرغة من مؤهلات العمل والانتاج في كل المجالات..
اين وصل بينا التعليم في زمن نشتاق فيه الى عودة حقبة الجهل التي تجنى عليها احمق الجاهلون فعلا..
وضاعت شعارات من لا يملك الخبز لا يملك القرار في زحمة الانبهار بقشور الاخر .. الذي لم يعلمنا الا كيف نتحدث عن الحرية .ولم يعلمنا ابدا كيف نكون احرارا باعتمادنا على انفسنا..
ولا نزال لم نستوعب الخسائر وننجر بعمى لكل الشعارات والدعوات المعلبة .. فيما المخططات جارية على قدم وساق للقضاء على اخر ما يمكن ان يسد رمقنا ويحفظ كرامتنا من عناء التسول المهين في دهاليز العمالة والارتهان..
ولا نزال نكذب على الاجيال بان الفقر والجهل والمرض من مخلفات الماضي ..فيما هي بكل معانيها حاضرة اليوم .
ولتعرفوا حجم الكذبة و مقدار الانحسار في الوعي والبذل والعطاء والقيم وكل شي .. يكفي ان تقارنوا بين اميا قادم من ذلك الزمن المفترى عليه وبين متعلما متفوها في زمن الحداثة.. وكفى.