قيلولة أحد خريفي
الفصل الثاني
بعد الظهيرة? تغري الشمس الخريفية بالاسترخاء اللذيذ? والسكون يخيم على حي النجد. الأحد يوم الكسل المقدس.. تتمدد فوق الرمل? تحس بدفئها يتسرب إلى مسامك? والقطة الوديعة تتمسح بساقك? كأنما تشاطرك افتقاد أنيسكما العجوز. ترنو إلى كوخ عبد الله بآجره الرمادي? تستغرب تصميمه على البقاء في “البر?اك?ة” وسقف الطابق الثاني قد قارب البناؤون على الانتهاء منه? بينما بقية العسس اختاروا إحدى الغرف الدافئة بالورش? تفسر الأمر على أنه يفضل السكن في “البر?اك?ات”? التي التهمت عمره.. تحدق في تجاويف سدت بمزق أكياس الإسمنت وأوراق الجرائد اتقاء لشر برد ديسمبر. تتأمل السقف القصديري? الذي رميت فوقه أشياء كثيرة? أغلبها لا يصلح لأي شيء? بيد أن عبد الله يحب “الق?ْـش” مثل الجرذ? كما يقولون عنه? ويقضي سحابة نهاراته في البحث عن سقط المتاع في الجوار.
حين يطلب منهم في فترات استراحتهم مساعدته في ترتيب الكوخ? يعيدون رمي تلك الأشياء التي لا تصلح لأي شيء? متعجبين من وجودها بعد أن تخلى عنها أصحابها? لكنهم لا يندهشون عند اختفاء بعض تلك التحف صبيحة يوم إثنين? فيوقنون أنه أخذها معه إلى البادية? ويتساءلون فيما بينهم : “من يقبل أن يقله معه? وهو مثقل بكل هذا “القش”? فمن يراه من بعيد يظنه معتوها?”? ويشفقون على شيخوخته التي لم يرحمها أبناءه? ملقين عليهم اللوم. يتألمون أكثر لأنه لم يفلح في أن يتعلم المهنة ويصير بناء?ٍ ماهر?ٍا مثلهم أو فلاح?ٍا? وأقرانه صاروا ملاك أراض? لأنهم يعرفون أن من في مثل سنه تلفظه أوراش البناء? بلا رحمة… ويشيرون إلى صلة النسب? التي تربطه بالمقاول? الذي شغله مكتفي?ٍا بحراسة الورش? لأنه لن يتحمل الأعمال الشاقة.. ومن قبل? كان يعمل مياوم?ٍا – نهار?ٍا- في الورش? ويتحمل – ليل?ٍا- مسؤولية كل شيء فيه.
اعتدت منذ أعوام أن تسمع كل من يعرفونه ينادونه بـ “ولد عمي”? وأغلب الظن أن التسمية مستوحاة من أغنية شعبية لمطربة دكالية شهيرة? وكثير?ٍا ما تناديه مثلهم.. بدل “عبد الله خالي”? كما كنت تفعل في طفولتك? على رغم كونه خال أمك. شيء ما مبهم كان يشدك إلى “ولد عمي”.
تعلو شفتيك ابتسامة مغتصبة? حين تستحضره? وهو يحكي لك كيف أن خاله المقاول الراحل ضبطه يغني في الدرج? وهو جالس محتضن?ٍا الكيس? الذي كان يحمل فيه الرمل إلى الطابق العلوي: “ج?ْوج? ب?حالي ي?سيزيو? خالي”. لم يغضب الخال من غناء ابن أخته فرح?ٍا بأن إثنين مثله سيجعلانه مفلس?ٍا.
كثيرون يتغاضون عن أخطائه الصغرى. ومن يعاشره – عن قرب- قد يتقزز من وسادته? التي بلا لون من كثرة الأوساخ? والأردية المهلهلة التي ترك فيها أصدقاؤه الفئران والجرذان ثقوب?ٍا تخلد ذكرياتهم معه? وبعد تناوله ما تبقى من عشائه البائت يرمي أوانيه جانب?ٍا ببقاياها الدسمة? برتقالية اللون? مكتفي?ٍا بصب قليل من الماء فيها? ولن يغسلها إلا ليل?ٍا حين يحتاج إليها…
أفراد عائلتك? كانوا يستغربون لارتباطك به في حين لا أحد يحبه تقريب?ٍا? بينما تعامل باقي العائلة بفظاظة? منغمس?ٍا في عزلتك الفاخرة. تحتمي بالصمت حتى لا تفضح نفاقهم? وتظاهرهم بمحبته في حضرته. تخمن أن انعزاله في أكواخ الأوراش أفسد علاقته بكل من حوله? حتى أبناءه. ففقد احترام الجميع.. الجميع يرونه مخبول?ٍا ومعتوه?ٍا لا يطاق? بسبب مزاجيته…
بيد أن ما يثيرك أكثر قدرته العجيبة على جعل حيوانين على الرغم من العداوة الفطرية بينهما يتآلفان. حين تزوره – في غير أيام الآحاد للسؤال عنه- تجده يسير نحو الخم الصغير المجاور لكوخه? والدجاجات الثلاث والديك اليتيم يتبعونه? وهو يحمل إناء?ٍ به بعض الحبوب التي جلبها من القرية? فتتبع الكلبة – التي تكون حرة طليقة? ويربطها مساء?ٍ حتى لا تبتعد عن المكان أو يغويها أحد الكلاب- والقطة الموكب الصغير? وكأن تلك المخلوقات تغار من بعضها? وكل واحد منها يود أن يستحوذ على حب “ولد عمي”.
تراه بنفس قامته المديدة ويديه المعروقتين بأصابعهما الرفيعة? المتغضنة كوجهه. وجه لفحته الشمس? يكسوه زغب أبيض مهمل? لا تصادق الموسى خديه إلا عندما يقرر السفر إلى القرية? فتسري الهمسات والغمزات بين البنائين? في ظهيرة ذلك السبت? ويدركون بأنه قرر أن يشن غارة على قلاع “التيبارية”? ولا يتضايق إن نطقوا باسم زوجته…
أحيان?ٍا? يقرر السفر دون استشارة المقاول? فيغضب عندما يفاجئه بقراره السفر هذا الأسبوع? مشير?ٍا إلى وجود سلع جديدة قد تتعرض للسرقة في غيابه.. فيصمت عبد الله? على مضض? شاخص?ٍا ببصره ناحية قطيع غنم بعيد? يرعى بالقرب من السكة الحديدية.
هل يحتاج المرء أن يستشير أحد?ٍا عند حلق ذقنه?
سيبدو الأمر مضحك?ٍا? وهو يتوجه ناحية سيارة المقاول في صباح يوم سبت ليبلغه بقراره السفر فجأة? لأنه يعرف أنه في مثل هذه الأوقات يكون متضايق?ٍا? ويعتقد أن ذلك بسبب الأموال التي سيصرفها مساء?ٍ? كأجر للعمال? وسيغضب أكثر إن طلب منه البحث عم?ن