منبج “كعب آخيل” واشنطن
بقلم/ سمير صالحة
أعلن وزير الخارجية التركي، مولود شاووش أوغلو، أن بلاده اتفقت مع الولايات المتحدةالأميركية على تسوية أزمة منبج السورية، وأنه بعد انسحاب “وحدات حماية الشعب”الكردية من غرب الفرات، ستتولى قوات عسكرية تركية وأميركية حفظ الأمن هناك.
وكتب مولود أن الخطة المشتركة المتفق عليها مع وزير الخارجية الأميركي (المقال لاحقا)، ريكس تيلرسون، ستشمل مناطق شرق الفرات أيضا.
هل من المحتمل أن تكون معركة منبج قد حسمت سياسياً، قبل أن تحسم عسكرياً على الأرض، من خلال تفاهمات وضمانات أميركية ـ تركية متبادلة، تقلب المعايير الجيوستراتيجية في الشمال السوري، وهل قبلت واشنطن الاقتراح التركي المقدّم إلى الوزير تيلرسون خلال زيارته أخيرا العاصمة التركية؟
تمتنع واشنطن من ناحيتها عن الإدلاء بأي تصريح حول تفاهماتها مع أنقرة، فهل ستغير حقا سياستها الكردية في سورية، وتنهي علاقتها بحليفها حزب الاتحاد الديمقراطي، وتقبل بإدراجه على لائحة التنظيمات الإرهابية، أم أن لرحيل تيلرسون، علاقة بالصفقة التي عقدها مع الأتراك، على حساب ما يقوله ويريده البيت الأبيض، ومن دون موافقته؟
كانت واشنطن تقول إن العملية العسكرية التركية في عفرين ضد قوات كردية متحالفة معها أدت إلى “حرف مسار” معركة التحالف الدولي ضد تنظيم داعش في سورية، فاكتشفت أن مشكلتها في سورية هي خسارتها الرهان على استحالة تحريك أنقرة قواتها العسكرية باتجاه عفرين من دون موافقتها، وباتت اليوم تقلق لعمل مشابه باتجاه منبج هذه المرة، يهدد ما بقي في يدها من نفوذٍ حصدته نتيجة التردد والتخبط التركي في سورية منذ سبع سنوات.
على الرغم من محاولات وزير الخارجية التركي نشر روح التفاؤل، وإعلانه عن حصول تركيا على ما تريده من الإدارة الأميركية في موضوع منبج، فإن التعتيم الكلي على نتائج مباحثات لجان العمل التركية الأميركية المشتركة يتركنا أمام احتمالين: فشل ذريع لا يريد أحد أن يتحدث عنه، بانتظار وصول شاووش أوغلو إلى واشنطن، لإنقاذ الموقف أو نجاح ينتظر إعلان تفاصيله من مبنى الخارجية الأميركية، وهو الاحتمال الأضعف أمام حرمان تيلرسون من تقاسم الفرحة.
تقول أنقرة إن عملية عفرين ستنتهي خلال شهر مايو/ أيار المقبل، لكن الواضح أن تركيا لن تتريث لحسم موضوع عفرين، قبل التحرك نحو منبج، وأنها ستبدأ عملياتها العسكرية على ضوء نتائج أعمال اللجان وفرق العمل التركية الأميركية المشتركة. وقد تمسك المتحدث باسم البنتاغون بالإشادة بالتنسيق الأميركي مع “الجنرال مظلوم”، فرحات عبدي شاهين، أحد قياديي المجموعات الكردية في شمال سورية، في إطار خطط الحرب على “داعش”، مع أن أنقرة تتهمه بالوقوف وراء هجمات إرهابية استهدفت المدن التركية في الأعوام الأخيرة، وما يقال عن اجتماعات مغلقة، يعقدها الكونغرس لبحث استراتيجية مواجهة السياسة التركية في شمال سورية، والتنسيق المتزايد مع روسيا وعدم التخلي عن صفقة صواريخ إس – 400 وقرار فرض عقوبات على تركيا، أو مقاطعتها في بعض المسائل، يقابله انتقاد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، المتواصل للحليف الأطلسي وعدم دعمه الجيش التركي في عملية عفرين مع أن الجميع يعرف هنا أن هدف الرئيس التركي هو ليس الحصول على هذا الدعم في عملية منبج، بل قطع الطريق على أية محاولة من الحلف والعواصم الغربية، للتصدي لهذه العملية، في حال وصول المفاوضات الأميركية التركية إلى طريق مسدود.
هناك حتما ما يقلق أنقرة، لكنها تتجنب التفكير فيه، وهو احتمال حدوث التفاهمات الأميركية الروسية، بعيدا عنها لرسم مسار التسويات السياسية والدستورية في شمال سورية، بالاتفاق مع الأكراد والنظام وإيران، إذا ما توصلا إلى قناعة أن الأتراك يحاولون أخذ كل شيء من دون أن يقدموا أي شيء، فهل يحدث ذلك؟
سؤال محوري آخر لا بد منه: هل تقبل موسكو بتفاهم تركي أميركي من هذا النوع، من دون أن تحفظ حصتها هناك؟ هل ستترك روسيا الساحة السورية في الشمال والشرق للأتراك والأميركيين، وتقبل بصيغة تفاهماتٍ لا يؤخذ رأيها فيها، مع أنها هي من ساهمت في إعداد طبخة مسودة الدستور السوري الجديد الذي يمنح أكراد سورية الحكم الذاتي في إطار صيغة فيدرالية أو كونفدرالية، توازن من خلالها الوضع مع أميركا على خط سورية – العراق؟
رسالة وزير الدفاع التركي نور الدين جانقلي إلى أميركا، من دون أن يسميها، تقول إن بعضهم يشعر بالندامة، بسبب تسريع عملية القضاء على مجموعات “داعش” في شمال شرق سورية، قبل إنجاز تفاصيل خطته البديلة هناك. ترحيل تيلرسون بهذه السرعة وهذا الشكل قد يكون الرد الأميركي للخروج من حالة الارتباك والتردّد التي يعيشها على ضفتي الفرات في مدينة منبج، ومحاصرته بخيار قبول المطالب التركية، أو المغامرة بلعب الورقة الكردية في سورية حتى النهاية، أو التنسيق مع الروس، مهما كان الثمن.
فيما كان وزير الخارجية التركي يتبضع لاختيار الهدايا لأصدقائه الروس في الاجتماع الاستراتيجي المرتقب المقرّر في موسكو، ارتفعت علامات الاستفهام بشأن احتمال إرجاء زيارته المقررة إلى واشنطن، لمنح الأخيرة فرصة اطلاع نظيره الجديد على حصيلة المباحثات التركية الأميركية بشأن مسألة منبج. جرعة الشجاعة التي سيمنحها الروس لشاووش أوغلو، قبل توجهه إلى العاصمة الأميركية، قد تغضب الإدارة الأميركية أكثر فأكثر، وتدفعها إلى ارتكاب مزيد من الأخطاء في منبج، وتبعد سيناريو التفاهم الأميركي الروسي على حساب تركيا.
في المقابل، هناك من يرى أن الضغط العسكري التركي في منبج سيكون مختلفا تماما عما يدور في عفرين، وهو سيطاول مباشرة النفوذ والمصالح الروسية والأميركية في شمال سورية، ويعني حرمانهما الورقة الكردية لصالح أنقرة، كما جرى أخيرا في شمال العراق، حيث خرجت تركيا الرابح الأول من سقوط مشروع فصل الإقليم عن الدولة العراقية المركزية. سقوط أنقرة في مصيدة التفاهمات الأميركية الروسية التي ترفض التخلي عن مشروع الكيان الكردي المستقل في سورية بين الاحتمالات إذا.
هناك من يرى أن المواجهة الحقيقة في منبج قد لا تكون بين أنقرة وواشنطن، بل بين أنقرة وموسكو نفسها التي لا تريد التفريط بخطة بناء كيان كردي بحكم ذاتي مستقل، يتحول إلى ورقة ضغط استراتيجي إقليمي بيدها، حتى ولو كان الثمن التحاصص وتقاسم الغنائم مع البيت الأبيض.
وقرّرت الإدارة الأميركية، وبعد تعديل جذري في أسماء فريق العمل الرئاسي المحيط بترامب العام المنصرم التدخّلَ العسكري المباشر في سورية لتوجيه أكثر من رسالة إلى أكثر من طرفٍ بينها عدم تركِ روسيا وحدها هناك وإلزام حليفها التركي بقبول ما تقوله وتريده في سورية. اختارت أنقرة وموسكو مواجهة المشروع الأميركي، مهما كان الثمن لذلك، يمكننا القول أيضا إن واشنطن تعرف أن تركيا لن تلتزم بما ستقوله الإدارة الأميركية التي ورّطتها في ملف غرب الفرات، وحرَمتها سنوات من تحريك ملف المنطقة الآمنة، ولذلك أيضا هي جاهزة للاستماع إلى ما تقوله موسكو. احتمال التفاهم الأميركي الروسي على حساب أنقرة يتراجع هنا مرة أخرى.