تحية للعلم الفلسطيني المقاوم
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
صدَّقت غزة خوف جيش الاحتلال من العلم الفلسطيني، وأكدت له بالدم والبارود وبالعبوة الناسفة والقذيفة الموجهة، أنه جنديٌ يقاتل، وقنبلةٌ تنفجر، وصاروخٌ ينطلق، وطلقةٌ تصيب، وهو أيضاً رمحٌ يطعن وسكينٌ تجرح ورمزٌ يصدح، وأثبت شبان غزة أن علم بلادهم فلسطين سيبقى يخيف سلطات احتلال ويرعبهم، ويزعجهم ويقلقهم، ولو كان فوق ربوةٍ تحركه الرياح، أو على قمة جبلٍ شامخٍ يرفرف، أو فوق بنايةٍ عاليةٍ أو سارية أو عمودٍ للهاتف أو الكهرباء، أو كان بيد شابٍ يقتحم به الأسلاك الشائكة، ويهجم به على العربات العسكرية، ويلوح به في وجه جنود الاحتلال ومستوطنيه، أو يلف به الفلسطينيون شهداءهم ويلونون به جدرانهم، ويزينون به ساحاتهم، فهو يغيظهم حيثما رفع، وكيفما كان وأينما أستخدم، ويرون فيها علماً يهدد علمهم، ويزاحم بشرعيته وأصالته رمز كيانهم.
عملية تلغيم العلم الفلسطيني على الحدود الشرقية لقطاع غزة، والتي أسفرت عن إصابة عددٍ من جنود وضباط جيش الاحتلال، عندما أقدموا على محاولة نزع العلم فانفجر بهم، وكشفت مصادر عسكرية إسرائيلية بعد ذلك عن أن ضابطاً من بين المصابين قد قتل، فيما لم يكشف النقاب عن حالة بقية الجنود الجرحى، حيث اعتادت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية فرض تعتيمٍ إعلامي على نتائج العمليات العسكرية التي يتعرض لها جنودها ودورياتها، علماً أن المجموعة العسكرية التي قامت بإزالة العلم تتبع سلاح الهندسة في جيش الاحتلال، ما يعني أنها فرقة مدربة ومعدة لمثل هذا النوع من العمليات، ورغم تخصصها وتدريباتها العالية، فقد تمكن المقاومون الذين زرعوا العبوة في ماسورة العلم من تحقيق الهدف بدقةٍ.
غضب وزير حرب العدو أفيغودور ليبرمان الذي لم يستيقظ بعد من هول اللغم الأرضي الذي انفجر في دورية لجيش الاحتلال في مدينة أريحا، مما أسفر عن إصابة سبعة جنودٍ بجراحٍ مختلفةٍ، لذا ووسط أجواء الغضب والإحساس بالفشل والوقوع في شراك المقاومة وفخاخها، بدأت قيادة المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال بتوزيع عشرات القناصة على امتداد الحدود الشرقية لقطاع غزة، لمنع أي فلسطيني من الاقتراب من الأسلاك الشائكة الفاصلة، وأصدرت أوامرها إلى جنودها بإطلاق النار على كل الأهداف المتحركة التي تقترب من الحدود، في الوقت الذي أعلن فيه وزير حرب العدو أفيغودور ليبرمان الذي أجرى قبل أيامٍ قليلةٍ جولةً تفقدية في مستوطنات غلاف غزة، وعلى الحدود مع القطاع، عن تغيير قواعد الاشتباك والتظاهر الشعبي على الحدود الشرقية للقطاع، وحذر سكان قطاع غزة من مغبة العودة إلى المظاهرات بالقرب من الحدود الفاصلة.
كانوا يكرهون العلم الفلسطيني ولا يحبون رؤيته، ولا يقبلون بوجوده، ويعتقلون من يحمله، ويحاكمون من يدان بحيازته، ويصادرونه ممن يملكه إذا داهموا بيته أو عثروا عليه خلال عمليات التفتيش أو بالمصادفة، ويحرصون على إنزاله من على السواري أو من على أعمدة الكهرباء العادية وذات التوتر العالي، ويطلقون النار على الشبان الذين يغامرون بحياتهم برفعه، ويضحون بأرواحهم من أجله، إذ استشهد العديد من الشبان أثناء محاولتهم رفع العلم.
غالباً ما يقوم جنود الاحتلال بحرقه أو تمزيقه وتلويثه، أو يدوسونه بأقدامهم ويطأونه بنعالهم إمعاناً في الإساءة إليه كونه الرمز الفلسطيني، والهوية المعبرة عن أهله جميعاً، والعلم الذي يلتفون حوله ويقدرونه، ويتحدون تحت رايته ولا يختلفون على رفعه، فهو علم فلسطين وعلم الوحدة العربية، الذي ورثوه عن آبائهم وقاتل تحت رايته دفاعاً عنه أجدادهم، ولهذا يخاف منه الاحتلال إذا رفعه الفلسطينيون، وينتابهم الفزع إن رفرف عالياً وسما خفاقاً، وكأنه سلاحٌ يتقدم وجبهةٌ تتصدى.
وما زالت سلطات الاحتلال تكره علم فلسطين وتحرض عليه أبناءها وتلاميذ المدارس وطلاب الجامعات، وتحاول تشويهه والإساءة إليه، وقد سنَّت قانوناً خاصاً يجرم رفعه، ويعاقب بالسجن من يخيطه أو يرسمه، ومن يحمله ويصنعه، بل إنها منعت أي أعمالٍ فنيةٍ أو رسوماتٍ جدرانية أو غير ذلك إذا كانت تحمل ألوان العلم الفلسطيني الأربعة، ولو كانت الألوان متباعدة أو غير واضحةٍ في ائتلافها، ولكنها بمجموعها في لوحةٍ واحدةٍ تشكل العلم الفلسطيني، فتزدان اللوحة ويتميز العمل الفني، لهذا تحاربه سلطات الاحتلال أياً كان شكله أو رسمه، وحيثما كان مكانه أو موقعه، وترفض الاعتراف به أحياناً رغم أنه أصبح علم السلطة الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو للسلام عام 1993.
سلمت الأيادي الفلسطينية التي لغمت العلم، وزرعت فيه عبوةً ناسفةً، وموهته بطريقةٍ يصعب اكتشافها، وتكتمت على عمليتها لتنجح، وهنيئاً لمن حمله وتقدم به ونصبه على السياج الفاصل، وجعله رايةً ترفرف ورمزاً يستفز، وسلمت العقول التي فكرت وقدرت وقررت، وعرفت أن علم بلادنا سيكون طعماً لجنود الاحتلال، وسيستدرجهم إلى حتفهم، وسينفجر فيهم وبينهم، وسيوقع بينهم خسائر لا يتوقعونها، وفشلاً يحرجهم وضعفاً يفضحهم، فهذا علمنا المقاوم القديم، الذي رفعناه مطلع القرن العشرين، وحملته الحركة الوطنية الفلسطينية، قبل أن تعترف به جامعة الدول العربية علماً لفلسطين ورايةً لأهلها، حتى جاءت منظمة التحرير الفلسطينية فاعتمدته وأكدت عليه أنه علم دولة فلسطين وشعبها وأدت له التحية.
ما أجمل أن يلتقي الفلسطينيون على علمهم، ويجتمعوا على راية قومهم، ويتصالحوا على رمز بلادهم، ويوحدوا راياتهم فيه فلا يرفعون سواه، ولا يتنافسون على غيره، ولا يسمحون لأي رايةٍ حزبيةٍ أن تعلو عليه أو تتقدم، أو أن تكون لها الأولوية دونه، إذ أن كل الرايات الأخرى حزبيةٌ فئويةٌ ضيقة، لا يجتمع عليها المواطنون، ولا يتفق عليها السكان، بل إنها قد تكون سبباً في اختلافهم، وعاملاً في تفرقهم، وأحياناً قد تتسبب في عراكهم واشتباكهم معاً، الأمر الذي يجعل منها راياتٍ جاهليةٍ، وأدواتٍ غير وطنيةٍ.
فتعالوا بنا أيها الفلسطينيون في الوطن والشتات نلتف حول هذا العلم، ونتحد على ألوانه الأربعة، ونقبل به رمزاً لنا وعنواناً يدل علينا، ننسى أمامه خلافاتنا، ونتجاوز به تناقضاتنا، ونكون أمامه صفاً واحداً وجبهةً مشتركة، ونقف أمامه في المدارس في طوابير الصباح، وفي المؤسسات العلمية ومراكز الشرطة والثكنات العسكرية وكل مرافق الوطن، نقبله ونقدم له التحية، ونعلمه لأطفالنا، ونجعله المظلة التي نحتمي فيها ونلجأ إليها، فها قد أثبت بالبارود والنار من جديدٍ أنه علمٌ مقاومٌ ورايةٌ تناضل ورمزٌ يواجه ويقاتل.