من يخطف الثورة?
أفهم أن تنشغل القوى السياسية التقليدية بصراعاتها المستمرة منذ نحو نصف قرن. لكن استغرب ولا أفهم أن تعبر السلطة القائمة فى مصر بعد الثورة عن مواقف يبدو منها أنها باتت طرفا فى ذلك الصراع. سأشرح لك كيف ولماذا.
معلوم أنه بين الصراعات التى عرفتها مصر وتأججت فى ظل ثورة يوليو 52 ذلك الذى وقع بين التيارين الإسلامى والعلمانى. خصوصا أن الأخيرين ظلا قابضين على السلطة طول الوقت.
وقد أشرت من قبل إلى أن ذلك الصراع تجدد واشتد بعد ثورة 25 يناير مع اختلاف بسيط فى التفاصيل. ذلك أنه قبل ذلك التاريخ كانت السلطة هى التى تقود الصراع ووراءها العلمانيون باختلاف فصائلهم.
أما بعد الثورة الأخيرة فإن العلمانيين أصبحوا يقودون الصراع ويحاولون بكل ما يملكون من قوة ونفوذ أن يلحقوا السلطة بهم.
أدرى أن بعض الإسلاميين ارتكبوا حماقات لا أدافع عنها ولم أتردد فى انتقادها. لكننى أزعم أن التناول الموضوعى والبرىء ينبغى أن يعطيها حجمها? وأن يفرق فى ذلك بين الاستثناء والقاعدة كما ينبغى أن يعاملها بمثل معاملة حماقات الآخرين.
فإذا صح مثلا أن آحاد الناس رفعوا العلم السعودى فى مليونية 29 يوليو? فى حين ذهب عشرات آخرون قبلهم إلى السفارة الأمريكية طالبين حماية الولايات المتحدة? ورفع غيرهم أعلام الشيوعية الدولية فى ميدان التحرير. فإن إدانة الجميع تصبح واجبة.
أما أن يظل البعض يصرخ تنديدا بالأولين وملتزما الصمت التام إزاء الآخرين? فإن ذلك يعد موقفا لا يمكن افتراض البراءة فيه? حيث فيه من الاصطياد والكيد بأكثر مما فيه من الأمانة والإنصاف.
استطرادا أذكر بأن المجلس العسكرى حين عين واحدا من الإخوان لمهمة مؤقتة فى لجنة تعديل الدستور. وخرج بذلك قليلا عن معادلة الإقصاء والاستئصال فإن الدنيا قامت ولم تقعد فى أوساط العلمانيين? الذين لا يزالون يلومون المجلس ويبتزونه بسبب تلك «السقطة» (!)
أما حين عين فى الوزارة الأخيرة ثلاثة من حزب الوفد وواحد ماركسى من حزب التجمع وثالث من الحزب الديمقراطى الاجتماعى? وكلهم علمانيون بالمناسبة? فقد قرت أعين الجميع ولم يتفوه أحد بكلمة نقد أو مؤاخذة باعتبار أن ذلك استمرار لسياسة الإقصاء التى كانت متبعة قبل الثورة.
وللعلم فإن المجلس العسكرى تعلم الدرس من «خطيئة» تعيين العضو الإخوانى فى لجنة تعديل الدستور? إذ منذ ذلك الحين لم يقع الاختيار على إسلامى واحد فى كل التعيينات التى تمت طوال الأشهر الأربعة الأخيرة.
ما دعانى إلى استدعاء هذه الخلفية أننى لاحظت تطورا نوعيا خلال الأسبوع الأخير فى شكل الاصطفاف الحاصل فى مصر? إذ خلال الأشهر التى تعاقبت بعد الثورة كان المجلس العسكرى والحكومة التى تخيرها تقفان ـ فيما هو معلن على الأقل ـ على مسافة واحدة تقريبا من التيارات العلمانية والإسلامية المشتبكة.
لكن ما صدر من بيانات وتصريحات خلال ذلك الأسبوع الأخير أعطى انطباعا موحيا بأن المجلس العسكرى والحكومة أصبحا يرددان مقولات الطرف العلمانى? ويتبنيان مواقفه وخطابه ــ أقول لك كيف?
إذا قرأت بيان مجلس الوزراء الذى نشر فى 11/8 ستجد أنه يتبنى إلى حد كبير أفكار مشروع ما سمى بالتحالف الديمقراطى الذى تثار أسئلة كثيرة حول هوية ووزن القوى المشاركة فيه وهل هى قوى حقيقية أم شلل مختلفة فى قبيلة سياسية واحدة.
وهو المشروع الذى سعى إلى إضعاف المادة الثانية من الدستور الخاصة بمرجعية الشريعة الإسلامية للقوانين. ودعا إلى إقحام العسكر فى السياسة بحجة الدفاع عن الدولة المدنية.
كما أن المجلس تبنى خطاب العلمانيين الذى ادعى أن تظاهرة 29 يناير كانت محاولة لاختطاف الثورة? ولم ير فى التظاهرة سوى «ظهور أعلام غريبة عن الدولة المصرية»? واعتبر ذلك مصدرا «للقلق البالغ» الذى سجله بيان المجلس.
أيضا إذا دققت فى التصريحات التى نشرتها صحف السبت 13/8 منسوبة إلى اللواء ممدوح شاهين عضو المجلس العسكرى? ستجد أنه يتحدث عن إصدار إعلان دستورى جديد فى وقت قريب لضمان مدنية الدولة? وعن وثيقة مبادئ حاكمة لاختيار الجمعية التأسيسية لإعداد الدستور الجديد.
وظاهر الكلام يوحى بأن السلطة القائمة بضغط من القوى العلمانية التى فرضت نفسها وصية على المجتمع ستصدر وثيقة إضافية لن تضع خريطة طريق لوضع الدستور الجديد فحسب? ولكنها ستحدد أيضا طريقة اختيار الجمعية التأسيسية التى ستضع الدستور. كل ذلك تخوفا من دور الإسلاميين أو من احتمالات حضورهم.
ولا أستبعد إذا ما استمر الاستسلام للضغوط أن تصدر وثيقة لاحقة تحدد مواصفات وهيئة الأشخاص الذين سيشاركون فى وضع الدستور فيستبعد منهم ذوو اللحى والمحجبات لضمان مدنية الدولة المرجوة.
اختم بثلاثة أسئلة هى:
أين ذلك كله من أهداف الثورة?
ومن حقا الذى يريد اختطافها?
ثم هل يمكن أن يقودنا فتح الباب لما سمى بالمواد الحاكمة إلى الإبقاء على العسكر فى السياسة بحجة الحفاظ على دور «المؤسسة الحاكمة»?