مفتاح أمريكي يبتز الفلسطينيين سياسياً
شهارة نت – فلسطين
اضطرت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) إلى تقليص خدماتها، وشل الإضراب الاحتجاجي بعض مرافقها، بعد وقف المساعدات الأميركية للوكالة، تنفيذا لتهديد الرئيس الأميركي، الذي سبق أن لوح بورقة قطع المساعدات عن الفلسطينيين والسلطة الفلسطينية إن لم تعد مرغمة لطاولة التفاوض بعد إعلانه الاعتراف بالقدس عاصمة لكيان الاحتلال.
ورغم أن الجمعية العامة للأمم المتحدة هي من أسست وكالة الأونروا عام 1949م عقب تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين من بلادهم وتوزيعهم على عدة دول، وتفريقهم في مخيمات لجوء كثيرة داخل فلسطين وخارجها، إلا أن الإدارة الأميركية تعود لتذكيرنا اليوم بأنها من تملك مفتاح مثل تلك المؤسسات، حتى لو كان هدفها الظاهر خدماتيا وإغاثيا، وأن لكل مساعدة ثمنها وضريبتها حتى لو كانت تلك المساعدة تعويضا عن إقرار العالم بقيام إسرائيل وسكوته عن مجازرها وجرائم تهجيرها للفلسطينيين من ديارهم.
ورغم أن هذا السلوك معروف للإدارة الأميركية؛ أي توظيف المساعدات والهبات لتحصيل أثمان سياسية، إلا أنها كانت في السابق تنتهج نوعا من الدبلوماسية المتوازنة في إدارة رشاويها المالية للدول والتنظيمات والمؤسسات، ولم تكن تستخدم لغة التهديد والمقايضة العلنية الفجة على نحو ما يفعل ترمب الآن، فمنذ وصوله للسلطة وهو لا ينفك يهدد عبر تغريداته كل المستفيدين من المساعدات الأميركية، وليس الفلسطينيين وحدهم، فقد هدد دولا عديدة قبل تصويت الأمم المتحدة بشأن القدس، بل طال تهديده الجمعية العامة للأمم المتحدة نفسها التي تساهم أميركا في موازنتها، لكنه فيما يخص الفلسطينيين يبدو صارما للغاية، ليس فقط بهدف إرغام السلطة على تقديم تنازلات مجانية والإذعان للواقع الجديد المتعلق بالقدس، بل لتشويه وأمركة كل ما تبقى لدى الفلسطينيين من روح مناهضة للاحتلال. فآخر ما رشح من أخبار في موضوع وقف الدعم عن (الأونروا) أن الإدارة الأميركية اشترطت عليها مقابل استئناف دعمها إجراء تغيير في مناهجها الدراسية في المدارس الفلسطينية، وشطب كل متعلقات حق العودة والقدس ومقاومة الاحتلال، حتى لو كانت تقتصر على تعابير بسيطة أو إشارة لأحداث معروفة في التاريخ الفلسطيني المعاصر؛ كوعد بلفور والنكبة والانتفاضة الفلسطينية، وغيرها.
الأمر ذاته تستخدمه أميركا مع السلطة الفلسطينية منذ إبداء الأخيرة رفضها قرار ترمب حول القدس، ورغم أن الاستجابة لكل ما تطلبه الإدارة الأميركية مقابل مساعداتها مستحيل، حتى مِن أكثر حلفائها والتابعين لها إذعانا، لكن سوء تقدير الإدارة الجديدة في أميركا يدفعها للاعتقاد بأن المزيد من الضغط والتهديد والتلويح بقطع الأموال يمكن أن يحمل من تنازل -سابقا- عن جانب من حقوقه على سلوك مماثل، ونزعة الغطرسة التي تهيمن على ترمب توحي له بإمكانية تحصيل ما يريد من تنازلات حتى لو كان التنازل المطلوب يمثّل شهادة انتحار سياسي لأي نظام أو جهة تستفيد من مساعدات إدارته، وتبذل ما يسعها من ضريبتها.
ورغم أن وقف المساعدات الأميركية لكثير من المؤسسات الخدماتية قد يخلف آثارا كارثية على مجالات الصحة والتعليم والإغاثة، كما سيوقف تمويل جانب من مشاريع البنى التحتية في مناطق السلطة الفلسطينية، إلا أنها فرصة جديدة تتيح لنا أن ندرك بأن المساعدات الأميركية على مختلف مستوياتها لم تكن تقدم مجانا ولا على هامش رعايتها للسلام والاستقرار في المنطقة، ولم تأت لمساعدتنا على بناء المؤسسات وتحقيق التنمية وتمتين قواعد الدولة الفلسطينية المقننة، بل كانت تلك المساعدات باختصار رشوة لإنتاج الفلسطيني الانتهازي الجبان المتخاذل، المنتظر منه أن يبيع كرامته مقابل المنح والهبات ولقمة العيش.
والفلسطيني الجديد، مصطلح أنتجته أميركا أيضا وتردد على لسان مبعوثها الأمني لمناطق السلطة الفلسطينية (كيث دايتون) عام 2007م، حيث كانت أميركا تنفق بسخاء خلال السنوات الأخيرة على الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية، على أمل صناعة هذا الفلسطيني الجديد على عينها، وتحت رعاية ضباطها الأمنيين الذين توفدهم للمراقبة والمتابعة والتقييم.
هكذا نفهم أيضا لماذا تبدو قيادة السلطة الفلسطينية متباطئة ومترددة، وإحجامها يتفوق على إقدامها تجاه اتخاذ موقف سياسي جاد للرد على قرار ترامب وسياساته الأخيرة، فكيف حين نضيف إلى هاجس المساعدات أموال الضرائب الفلسطينية على الاستيراد، التي يحصلها الاحتلال ثم يحولها للسلطة وفق اتفاق باريس الاقتصادي، ونعرف أنها كذلك جزء من منظومة الابتزاز السياسي، كون الاحتلال يجمدها لديه أو يمنحها للسلطة وقت ما يشاء، ووفقا لسخطه أو رضاه عن أدائها الأمني؟
المساعدات الأميركية للفلسطينيين ولغيرهم، ومثلها أي هبة مالية مشروطة ومحل مساومة وابتزاز ليست سوى لعنة كبيرة تحل بمن يقبلها ويستفيد منها، عاجلا أم آجلا، لأنها لا تستمر بتقييد ذراعيه طوال مدة استفادته منها وحسب، بل يمكن في لحظة مفاجئة أن يكشر أصحابها عن نواياهم فيمنعوا تلك الأموال ويتركوا ذراعي آخذيها، ليرتطموا بأزمات صادمة وغير متوقعة، ويواجهوا واقعا جديدا يتركهم أمام خيارين اثنين: إما الموت جوعا، أو الموت ذلا!