بين الكوميديا السوداء وكوميديا الفوضى: هل يصلح «سوتشي» ما أفسده الزمن؟
بقلم/ فراس عزيز ديب
على وقعِ ارتفاع حرارةِ المواجهات العسكرية والدبلوماسية في الشمال السوري، يُفتتح يوم غدٍ مؤتمر سوتشي للحوار الوطني بين السوريين.
كان لافتاً أن هذا المؤتمر سبقهُ الكثير من الصخبِ الإعلامي، تحديداً أن الروس يعولون عليهِ كثيراً لتشكيلِ انطلاقةٍ ما للحل السياسي عبر استقطابِ نحو 1600 شخصيةٍ سورية تمثل تيارات وأحزاباً ومستقلين من التوجهات السياسية كافة، كما أنه من الممكن أن يكونَ طوق نجاةٍ للمعارضاتِ السورية المتنوعة التي جرى تجاهلها في سلسلة مؤتمرات جنيف، إما لتغريدها خارج السرب الأميركي والخليجي كما هو الحال مع بعض المعارضين في الداخل السوري، أو تلك المرفوع بوجهها بطاقة حمراء من هذه الدولة أو تلك كما هو الحال مع ممثلي الأحزاب الانفصالية الكردية، أما باقي المعارضات السورية التي تحظى بغطاءٍ أميركي فهي تجاوزت هذا الأمر ورفضت المشاركة وهذا الأمر ربما كان متوقعاً، تحديداً أن هذه المعارضات لا يمكن لها أن تذهب لهذا المؤتمر بسقوفها المرتفعة كما يطلب منها عادةً رُعاتها، كذلك الأمر هي تدرك أنها في سوتشي لن تكونَ الطفل المدلل لأنها ليست ممثلاً وحيداً للشعب السوري كما يسوق لها رُعاتها، لكن في ظل وضوح الشكل النهائي الذي سيبدو عليهِ المؤتمر يبقى السؤال المطروح: ما المطلوب من سوتشي؟
أحسن الروس اختيارَ توصيفٍ للمؤتمر يُخرجه من التوصيفات السابقة للمؤتمرات التي عُقدت بين السوريين لإيجاد ما يسمى حلاً سياسياً لما يجري في سورية، تحديداً أن المؤتمر لا يبدو في الشكل حواراً بين سلطة ومعارضة، أي ليس لدينا ما يمكننا تصنيفهُ وفداً يمثل الحكومة السورية، بوجهِ من يمثلون المعارضة ولو صورياً، الأمر هنا مرتبط بحوارٍ بين أطياف الشعب السوري؛ بل يبدو هذا المؤتمر كأكبرِ تجمعٍ للأطياف السورية تحت سقفٍ واحد منذ بداية الحرب حتى الآن.
وقد يكون هذا المؤتمر فرصةً مناسبة لطرح جميع الآراء بواقعيةٍ تامة، تحديداً أن كل الأفكار تبدو قابلة للنقاش من دون تحفظ، هذا مع الأخذِ بعينِ الاعتبار أن من قرر الذهاب فعلياً والموافقة على حضور المؤتمر فإنه قطع شوطاً كبيراً في التحرر من تبعيةٍ قيدت غيره، أي إن إمكانية الوصول لأرضيةٍ مشتركة تحدد الثوابت العامة التي تحملها عادةً مقدمات الدساتير في الدول لا يبدو بعيداً، تحديداً أنها ثوابت لا يمكنها أن تستفز أحداً، كأن نقول مثلاً إن سورية وطنٌ لكلِّ السوريين، وصفة المواطنة أسمى من كل التوصيفات التي يحملها المواطن؛ إن كانت دينية أم قومية.
من ناحية أخرى يبدو أن هناك قضايا جوهرية قد لا تسبب انفجاراً للنقاشات التي لا يمكن أن يكون عليها خلاف كحق السوريين باستعادةِ أراضيهم المحتلة والاتفاق على تعريفٍ محدد للإرهاب ليكون بمنزلة «الكود» الذي ستسير عليه سورية المتجددة، مع الأخذ بعين الاعتبار شكل سورية المتجددة، هل نريدها دولة نصف دينية تستمد تشريعاتها من المصادر الدينية أو أننا نريد قانوناً وضعياً يستند بالحد الأدنى إلى بعض التشريعات الدينية، كل هذه الأمور قد تبدو قابلة للنقاش والوصول فيها لنقطة مشتركة بل إن الوصول إلى تفاهماتٍ حولها قد يكون فعلياً انطلاقة حقيقية لما سيأتي بعد ذلك، لكن ما فرص نجاح المؤتمر؟
للحديث عن هذه الفرص علينا أن نتحدث عن الأمر بمستويين: المستوى الأول، وهو إرادة المؤتمرين والدول الراعية للمؤتمر: هنا علينا الاعتراف بأن الولايات المتحدة الأميركية وإن كانت شبهَ غائبةٍ عن حضورِ هذا المؤتمر، لكن هذا لا يعني بأي حالٍ من الأحوال أن تأثيرها سيغيب، بل قد يكون الأمر مرتبطاً بإعادة الأمر لنقطةِ الصفر فيما لو أعاد بعض المؤتمرين عبارة «رحيل الأسد»، النقطة الثانية وهي مرتبطة أساساً بمدة المؤتمر وعدد الحاضرين، والمفارقة هنا واضحة:
هل كان الروس يبحثون عن الكم وليس النوع عند توجيه الدعوات لهذا العدد الهائل والذي وصل لـ1600 شخص، وإذا كان الجواب لا، بل هم يبحثون عن أكبر مشاركة لضمان أكبر تمثيل لجميع الأطياف، عندها يكون الجواب ببساطة أن وقت المؤتمر الممتد ليومين فقط كان يجب تعديله وإلا كان عليهم العودة للفكرة الأنسب وهي البحث عن النوع وليس الكم.
النقطة الأخيرة وهي المعضلة المرتبطة بالدول الراعية للمؤتمر، ولتتضح الفكرة، لنتذكر مثلاً أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف منذ أسبوعين وهو يكرر عبارة أن «التحالف الدولي» الذي تقوده الولايات المتحدة لا يقاتل تنظيم جبهة النصرة الإرهابي في سورية رغم أنه مصنف دولياً كجماعة إرهابية.
طبعاً نؤيد هذا الكلام وبشدة، لكن وبواقعيةٍ تامة ماذا عن تركيا؟ إذا كانت الولايات المتحدة ترفض أن تقاتل فإن الأتراك يدعمون ويمولون ويستضيفون قيادات هذه الجماعة، بل إن صوراً بثتها إحدى الصفحات التابعة لجبهة النصرة الإرهابية قبل أمس تُظهر الإرهابي أبو محمد الجولاني مشاركاً في الهجوم على عفرين، ربما أن انتقائية كهذه قد تكون حجر عثرة في نجاح رعاية أي مؤتمر، قد نتفهم فكرة أن الأتراك يسيطرون على جماعات إرهابية تعمل على الأرض لكن بالنهاية لا يمكن أن يكون الشخص هو الخصم والحكم، هذه المجاملات المتكررة للنظام التركي بما فيها قبول اعتراضه على أسماء متعلقة بوفد ممثلي الأحزاب الكردية هي بالنهاية نقطة ضعف في جسم المؤتمر وليس نقطة قوة، ولو كان كل من يمتلك نفوذاً على الجماعات الإرهابية فعليه أن يكون راعياً عندها ندعو كل من يمول ويسلح الإرهابيين من دولٍ ومشيخات ويكون اسمه حواراً تشارك برعايته الدول الراعية للتنظيمات الإرهابية.
المستوى الثاني وهو المستوى الدولي: من الواضح أن الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية لم يهضم بعد فكرةَ أن تكونَ عملية الحل السياسي بإرادةٍ روسية كاملة، فلم يكن غريباً مثلاً أن يربط وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان مشاركة بلاده بإعادة الإعمار، وما أسماه الاستفراد الروسي بالحل السياسي، بالتأكيد فإن الكلام الفرنسي بشقهِ المتعلق بإعادة الإعمار يدخل في نطاق الهرطقة السياسية لأن ما من أحد دعاهم أساساً، على العكس هم ما زالوا يحاولون فتحَ ثغراتٍ في جدار العلاقات مع سورية للولوج عبرها بدواعي الرغبة في التنسيق الأمني لتكون بادرة لإعادة تطبيع العلاقات، لكنهم كانوا دائماً يصطدمون بالرفض السوري الذي يشترط إعادة العلاقات قبل التنسيق، وهو ما يعني أن السوريين ليسوا مكترثين أساساً إن شارك الفرنسيون أم لم يشاركوا في إعادة الإعمار، لكن الكلام الفرنسي عن «الاستفراد الروسي بالحل» يعطينا مؤشراً بأن هناك محاولة لتطويق أي نجاحٍ ممكن أن يحققه المؤتمر، هم لم يكتفوا فقط بمنع وفد معارضة الرياض من الحضور، لكنهم في الوقت ذاته أخرجوا للعلن الورقة غير الرسمية بشأن إحياء العملية السياسية في جنيف حول سورية، والتي تبدو فعلياً كما وصفها سفير سورية في الأمم المتحدة بشار الجعفري لا تستحق الحبر الذي كُتبت به، لكنها في الوقت ذاته بدت وكأنها مؤشر على موقفهم من أي نتيجة ستصدر عن سوتشي، فماذا ينتظرنا؟
في الإطار العام إن أي فرصةٍ لالتقاء السوريين وحوارهم هي دفعةٌ نحو الأمام؛ لكن هذا في حال لو كانت المشكلة بين السوريين أنفسهم، وليست حرباً عالمية على الأرض السورية، أما فيما يتعلق بمؤتمر سوتشي فإننا وإن كنا نقدر الاستماتة الروسية لترسيخ الحوار بين السوريين، لكن يبدو واضحاً أن جُلَّ ما سيفضي إليه الحوار تشكيلَ لجان متابعة، لندخل من جديد في دوامة لانهاية لها تحديداً إذا ما سلمنا جدلاً أن الطرف الآخر لن يصمت، بل إن الورقة غير الرسمية بشأن إحياء العملية السياسية في جنيف حول سورية والتي تم تسريبها، هي ليست مجرد وثيقة ولا يجب الاستهانة بالتعاطي معها، بل قد يكون موعد تسريبها معطوفاً على الكلام الأميركي قبل أسبوع عن الهدف من بقاء قوات الاحتلال الأميركي في الشمال السوري والذي ربطه وزير الخارجية الأميركي بما أسماه «انتهاء الحرب وحدوث الانتقال السياسي»، وعبر هذه الوثيقة أرادت الولايات المتحدة ببساطة أن تقول: هذه رؤيتي للحل.
هي ليست مجرد «كوميديا سوداء» الأدق هي «كوميديا الفوضى»، تلك اللعبة التي تتقنها الولايات المتحدة، وعليه إما أن ينجح مؤتمر سوتشي بتقديم وثيقة مقابلة عن الرؤية المتعلقة بالحل السياسي يواجه فيها الأميركي ومن معه، أو أنه سيتحول لرقمٍ من أرقام المؤتمرات التي ماتت بالتقادم، لكن بكل الأحوال واهم من يظن أن الصمود السوري سيضيع بين «كوميديا سوداء» و«كوميديا الفوضى»، فما لم تحصلوا عليه بالحرب لن تأخذوه بالسياسة.