الجانب المظلم في السياسة الأمريكية
بقلم/ د.سهام محمد
ما الذي نعرفه عن تحالف المال والسلاح والإعلام في السياسة الأمريكية؟ وما الذي نلمسه من سياستها غير التصريحات والمؤتمرات والإتفاقيات ؟وما الذي نعرفه عن الحروب التي تخوضها غير العراق وإفغانستان؟
يرى الكثير من المهتمين بالشأن الأمريكي،أن الجانب المعلن من سياستها لا يعبر عن حقيقة الولايات المتحدة،بقدر ما يعبر عما ترغب الولايات المتحدة لنا في أن نعرفه عنها. ويبقى هناك جانب مظلم في السياسة الأمريكية لا يعرفه الكثيرون، من إغراق متعمد للبلاد في الديون، نهب للثروات ،تدبير للانقلابات ،فرق اغتيالات حول العالم، مداهمات ليلية ،قوائم للتخلص ،هجمات موسعة للطائرات بدون طيار ،إمبراطورية تجسس ،وعمليات أخرى تقوم بها سى أي إيه ووكالة الأمن القومي لا تُنشر في الصحافة ولا تتناولها وسائل الإعلام ،وحتى المواطنون الأمريكيون لا يعرفون عنها كثيرًا.
نشرت مجموعة من الكتب فى أسرار الحرب القذرة والجانب المظلم الذي لا نعرفه عن الولايات المتحدة. ما يعزز مصداقيتها ،أن مؤلفيها معروفون بالاسم، وهم إما صحفيون بارزون أو أكاديميون مرموقون أوموظفون سابقون لدى هذه الجهات ومعظمهم لا يزال على قيد الحياة. ظهر كتاب بعنوان” الحروب القذرة”مؤلفه هو الصحفي الأمريكي جيمي سكاهيل، الذي جاب العالم ليتتبّع العمليات الأمريكية تحت إطار ما يسمى الحرب على الإرهاب فى أفغانستان واليمن ومالي والصومال، والتي وصفها سكاهيل بأنها تحولت من حرب على الإرهاب إلى حرب للإرهاب ساحتها العالم بأكمله، وأن ما تمارسه إدارة أوباما هو ذاته ما مارسته إدارة بوش، فقط إختلفت الأسماء والوجوه. ويروي سكاهيل قصصًا تستحق الإهتمام حول الحرب في أفغانستان ،ففي حين تبث وسائل الإعلام قصصًا للجنود الأمريكيين وهم يجلسون مع شيوخ القبائل الأفغانية ،يروي سكاهيل قصصًا مرعبة حول المداهمات الليلية التي تقوم بها القوات الأمريكية لمجرد الإشتباه كقصة قتل القوات الأمريكية لعائلة أفغانية مكونة من 5 أفراد منهم امرأتين حوامل لمجرد بلاغ من الشرطة الأفغانية بشأن إيوائها لإرهابيين، قبل أن تنكشف حقيقة الأمر، فتقوم القوات الأمريكية بانتزاع طلقات الرصاص من أجساد الضحايا وتصوير الأمر وتصديره للإعلام باعتباره قضية من قضايا الشرف. ويروي سكاهيل كذلك قصصًا كثيرة من اليمن أبرزها قصة قتل الأمريكي أنور العولقي أحد أهم المطلوبين في أحداث الحادى عشر من سبتمبر الذي قُتِلَ بقصف أمريكي في اليمن، وأجرى سكاهيل مقابلة مع عائلة العولقي التي حكت قصة تحوله من التعاطف الشديد مع الضحايا الأمريكيين بعد أحداث 11 سبتمبر، إلى معاد للإدارة الأمريكية بعدما رأى الإرهاب الذي تنشره الولايات المتحدة حول العالم. ولا يكتفي سكاهيل بذلك بل يعمد إلى التحقيق فى مقتل عبدالرحمن العولقي ابن أنور وعمره 16 عامًا، بعد أسابيع فقط من اغتيال والده. ويتساءل عما إذا كان حقًّا من قبيل المصادفة أن نجل أنور قُتِلَ بعد أسابيع من مصرع والده؟ خاصة بعد أن شاهد الأفلام المنزلية الخاصة بعبد الرحمن، الذي رآه سكاهيل مشابهًا لقرنائه الأمريكيين، ليخرج بافتراض أن عبدالرحمن قد قُتِلَ بسبب ما قد يصبح عليه في يوم من الأيام.
تعتبر فرق الإغتيالات حول العالم، أحد أهم الملفات التي تناولها سكاهيل في كتابه، التي كان عددها لا يتجاوز 5 آلاف في عهد بوش، ولكن في عهد أوباما أصبحت 25 ألفًا تعمل في مختلف دول العالم على قائمة مطولة تضم مواطنين أمريكيين، وكانت العمليات تتم بموافقة شخصية من أوباما ،قبل أن يوكل الأمر إلى سي آي إيه بعد توسع القائمة بشكل كبير. كما حكى عن الجنرال الأمريكي جون برانون، العقل المدبر لبرنامج القصف باستخدام الطائرات دون طيار، الذي كان يعقد إجتماعات في البيت الأبيض كل ثلاثاء في لقاء يطلق عليه «ثلاثاء الإرهاب»، يتم من خلاله تقرير من يعيش ومن يموت على كوكب الأرض عبر كتابة أسماء المستهدفين على كرات البيسبول فى لعبة أشبه ما تكون بلعبة الموت.
ظهر كتاب آخر حول الجرائم الإقتصادية وقراصنة الإقتصاد، مؤلف الكتاب هو هوجون بركنز، المستشار السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية أو قرصان الاقتصاد كما يطلق هو على نفسه. يقول في كتابه، إذا كنت تريد أن تعرف المزيد عن الكوربوقراطية وكيف تستغل الشركات العالمية في تركيع الأمم اقتصاديًّا، فهذا الكتاب هو طريقك الأمثل. يدعو بركنز القارئ أو المتابع أن يتساءل عن المعنى الأعمق لكل ما تبثه وسائل الإعلام، التي يراها بأكملها غير محايدة، فهي تتبع إمبراطوريات اقتصادية كبرى أنشأتها من أجل الترويج لمصالح الكوربوقراطية أي “الشركات المتعددة الجنسيات”. من كولومبيا إلى بنما إلى الشرق الأوسط والسعودية، يحكي بركنز قصته عن كيفية إستغلال الولايات المتحدة للشركات المتعددة الجنسيات لنهب ثروات الشعوب عبر عقود الإعمار والبنى التحتية المبالغ فيها، مما يُبقي هذه الدول بشكل دائم خاضعة للهيمنة الأمريكية. كما يحكي بركنز عن الضغوط التي تعرض لها من أجل أن يوقف كتابه سواء بالرشوة أو التهديد، قبل أن يقرر أخيرًا أن يكتب بعد أن رأى أن الأمر لا يمكن السكوت عليه خاصة بعد الحرب الموسعة التي تخوضها الولايات المتحدة عبر العالم بعد أحداث 11 سبتمبر. ويعتبر بركنز كتابه تكريمًا لرئيسي دولتين في أمريكا الجنوبية هما جايمي رودولس رئيس الإكوادور، وعمر توريخوس رئيس بنما، اللذين رفضا الخضوع للابتزاز الأمريكي وتسليم بلادهما للشركات العالمية، قبل أن تتدخل المخابرات الأمريكية من أجل التخلص منهما بطرقها الخاصة.
من هم قراصنة الاقتصاد؟
إنهم رجال محترفون يتقاضون أجورًا باهظة، ووظيفتهم هي أن يسلبوا بالغش والخداع ملايين الدولارات من دول عديدة في سائر أنحاء العالم.. يأخذون المال من البنك الدولي؛الذي يحكي بركنز قصته وتاريخ رئيسه روبرت ماكنمار فى العمل مع الكوربوقراطية؛ ليصبوه في صناديق الشركات الكبرى وجيوب حفنة من العائلات الحاكمة الثرية، بينما يتم ترك البلاد المنهوبة غارقة فى الديون ورهينة لقرارات المؤسسات الإقتصادية التي تتحكم فيها الولايات المتحدة. ظاهريًّا تحقق البلاد فائضًا إقتصاديًّا، وواقعيًّا ترزح في الفقر والديون. وعندما يفشل القراصنة فى عملهم تكون الحروب هي البديل كما حدث فى العراق، حيث يتخذ قراصنة اليوم، كما يرى بيركنز، أشكالا مختلفة أكثر أناقة وينتشرون فى الشركات مثل مونسانتو، وجنرال إلكتريك، نايكي، جنرال موتورز، وول مارت وتقريبًا في مكاتب جميع الإحتكارات الكبيرة بالعالم. في الستينات، وضعت وكالة المخابرات المركزية خطة لغزو كوبا سمتها “نورث وودز”، ولكي يكون الغزو مبررًا كان لابد من التمهيد للعملية عبر عمل إرهابي يقوم به إرهابيون كوبيون يسقط خلاله عدد من المدنيين الأمريكيين،صحيح أنه لم يتم تنفيذ الخطة لإعتراض الرئيس جون كيندي عليها حينها،ولكن تم تسريبها فيما بعد من أرشيف المخابرات.السؤال الذي طرحه المؤلف “كينيون غيبسون” في كتابه “أوكار الشر دراسة حول آل بوش والمخابرات المركزية وهجمات 11سبتمبر”،هو هل يمكن أن تكون 11 سبتمبر عملية من ذات القبيل؟
ينتمي المؤلف إلى عائلة عسكرية أمريكية، خدم في الإستخبارات الأمريكية، ويصف نفسه بكونه يعرف جيدًا كيف تستغل المشاعر الدينية والتعصب الأعمى لأجل تحقيق أهداف سياسية. ويحاول من خلال كتابه تقديم تفسير حول نشأة اليمين الديني وتطور نفوذه في الولايات المتحدة. أنا أتهم بوش وإدارته”، بتلك الجملة يصدر غيبسون مقدمة كتابه الذي يحاول من خلاله تقديم سردية مختلفة للأحداث والملابسات المتعلقة بأحداث 11 سبتمبر، وكيف تم توظيف الأحداث لخدمة مصالح النخبة اليمينية من السياسيين والرأسمالييين الإقتصاديين المسيطرين على قطاعات النفط وتجارة السلاح حول العالم. إنها الإمبراطوريات الخفية التي يعتبرها غيبسون أوكار الشر التي تحكم العالم.
ظهرت بلاك ووتر، أكبر شركة مرتزقة في العالم، لتقدم خدمات أمنية وعسكرية للدول الأجنبية وفقًا للقانون الأمريكي الذي يسمح للشركات الخاصة بتقديم الخدمات الأمنية والعسكرية. بدأ استخدام بلاك ووتر بشكل موسع في الحروب الأمريكية بعد 11 سبتمبر، حين كان وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد، الذي أبدى رغبته أكثر من مرة بإجراء تعديلات موسعة في البنتاجون والاعتماد بشكل أكبر على القطاع الخاص والمقاولين “المرتزقة” الذين لا يخضعون بشكل كبير للمحاسبة. ووفقًا للمؤلف “جيمي سكاهيل” في كتابه ” بلاك واتر أخطر منظمة سرية في العالم”فإن لبلاك ووتر أكثر من 2700 جندي منتشرين في 9 بلدان، وتحتفظ بقوائم إحتياطية لعملاء مدربين يفوق عددهم 20000 شخص، وتملك أسطولاً خاصًّا من 20 طائرة متطورة، ويقع مقرها في ولاية كارولينا الشمالية، تدرب فيها آلاف المقاتلين من مختلف دول العالم. وبذلك تكون أكبر منشأة عسكرية في العالم، إذ يبلغ إجمالي صفقاتها المكشوفة في السنوات العشر الأخيرة 500 مليون دولار بخلاف صندوقها الأسود الذى يبلغ قطعًا أضعاف هذا الرقم. عام 2001 وقّعت بلاك ووتر أول عقودها مع الإف بي آي لتدريب المسؤولين في شبكات مكافحة الجرائم المالية. ثم بدأت أنشطتها رسميًّا في العراق عام 2003 بعد توقيعها عقدًا مع الإدارة الأمريكية لحماية كبار المسؤولين الأمريكيين وعلى رأسهم بول بريمر، مقابل رواتب ضخمة قدرتها مجلة فورتشين بـ600 دولار يوميًّا للرجل الواحد،إضافة إلى امتيازات مالية كبيرة للمنظمة.وقبل أن يغادر بريمر العراق عام 2004 أصدر قرارًا بتحصين المقاولين الأمنيين “المرتزقة” من الملاحقة القضائية عن أي جرائم يمكن أن يرتكبوها. وتحتوي بلاك ووتر على مقاتلين محترفين من جنسيات مختلفة كالفلبين وشيلي وبنما والإكوادور والسلفادور، وترفع في عملياتها القتالية شعار “اقتل ثم تأكد إن كان هو العدو” خاصة وأن القتل دون محاسبة. ففي مايو 2004 وأثناء تأمين مهمة خروج المتحدث باسم السفارة الأمريكية في بغداد قام حراس بلاك ووتر بإطلاق النار على سيارة أوبل تقل 3 مدنيين تسببت في قتل 2 منهم وإصابة الثالث، وهي الحادثة التي عقب عليها مسؤول أمريكي بأن عناصر بلاك ووتر أطلقوا النار قبل فوات الأوان. وفي اقتحام الفلوجة في 4 أبريل عام 2004 انتقامًا للكمين الذي أُعِدّ لرجال بلاك ووتر الأربعة في 31 مارس، شنت القوات الأمريكية الجوية على المدينة نحو سبعمائة غارة جوية متسببة في تدمير 18 ألف من أبنية الفلوجة، قبل أن تدخل قوات المرتزقة إلى المدينة، وتقوم بذبح حوالى 900 عراقي في خلال أيام معدودة، قبل أن يكتبوا على الجدران شعار “هذا من أجل أمريكيو بلاك ووتر الذين قتلوا هنا”.
إذا كان البعض يظن أن الولايات المتحدة دولة ديمقراطية، بمعنى أن سياساتها تبنى على الإختيارات الحرة للشعب الأمريكي، فهم مدعون لمطالعة كتاب ” الإعلام والسيطرة على العقول”وغيره لمفكر اللسانيات الأمريكي البارز نعوم تشومسكي، الذي يرى ببساطة أن الشعب الأمريكي يتم تغييبه إعلاميًّا شأنه شأن شعوب العالم الثالث، وأن الديمقراطية ليست إلا شكلاً من أشكال الديكتاتورية يتم عبرها إقناع الناس بأنهم يملكون حرية الإختيار. فبحسب تشومسكي، فإن الديمقراطية أمر مختلف تمامًا عن فكرة الإختيار الحر، بل هي النقيض تمامًا لهذا. فالمقصود فعليًّا، هو أن يُمنع العامة من إدارة شؤونهم عبر إدارة وسائل الإعلام التي يجب أن تظل تحت السيطرة المتشددة. ووفقًا لتشومسكي، فإن وجهة النظر تلك ليست جديدة، ففي حقيقة الأمر هي مطابقة لمبدأ لينين القائل بأن طلائع المفكرين الثوريين لابد وأن تستولي على السلطة عن طريق توظيف ثورات شعبية،من شأنها أن تدفع بهم إلى سدة الحكم. ثم تدفع الجماهير تجاه مستقبل ترسمه طلائع المفكرين الثوريين،ل أنهم ببساطة لا يملكون اللياقة أو القابلية لفهمه. ويرى تشومسكي الإنتخابات بمنظور مختلف فهناك “وظيفتان”في النظم الديمقراطية. الوظيفة الأولى، منوط بها الطبقة المتخصصة، يعني الرجال المسؤولون الذين يقومون بالتفكير وفهم التخطيط للمصالح العامة. ثم هناك أيضًا القطيع الضال ،الذى يُسمح له من وقت لآخر بتأييد أحد أفراد الطبقة المتخصصة، بمعنى آخر يُسمح لهم بالقول “نحن نريدك قائدًا لنا”، تلك هي الديمقراطية وهذه هي الانتخابات. ويركز تشومسكي بشكل كبير على التناقض بين السياسات الأمريكية ، وبين الصورة التي تصدرها للمجتمع الأمريكي. فقبل أن تخوض الولايات المتحدة حربها الأولى ضد العراق ،عندما كان صدام حسين زعيمًا لها، كان المعارضون العراقيون يملأون العالم صياحًا عن انتهاكات صدام حسين فى العراق، بينما لم تلتفت السياسة الأمريكية لذلك إلا حين وافق الأمر هواها وتماشى مع مصالحها. حينها فقط قررت أن تخوض حربها الإعلامية ضد نظام صدام، حيث كان التغييب الإعلامي قرينًا للعمليات العسكرية ومزامنًا لها.