استراتيجية إدارة القوة: هاجس حزب الله في العقل الإسرائيلي!
شهارة نت – تحليل / محمد علي جعفر
على وقع التبدُّل في موازين القوة، تخرج الدراسات الإسرائيلية والغربية لتتحدث عن الرعب الذي يعيشه الكيان الإسرائيلي من القوة التي بات يُشكِّلها حزب الله.
وفي الحديث عن القوة، تخرج استراتيجية ادارة القوة التي يعتمدها الحزب، لتتغلَّب على الإستراتيجيات التقليدية. استراتيجية تعتمد تحويل نقاط الضعف الخاصة الى فرص ذات أثر استراتيجي على العدو وإفراغ نقاط قوة العدو من مفاعيلها عبر حصر آثارها بما هو تكتيكي. فما هي العوامل التي تُساهم في تعاظم قوة حزب الله بالمنظور الإسرائيلي؟ وكيف نجح حزب الله في استراتيجية إدارة القوة؟ وما هي ساحات الحرب الخفية القائمة بين الطرفين؟ وكيف يُقارب العقل الإسرائيلي اليوم منظومة حزب الله العسكرية؟
تعاظم قوة حزب الله بين التطور العملي والتخطيط العسكري
عدة عوامل يقف عندها العقل الإسرائيلي اليوم في مقاربته لتعاظم قوة حزب الله. يمكن الإشارة لها كما يلي:
أولاً: التطور الكمي والنوعي لقدرات حزب الله العسكرية. حيث قدَّم معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي خلال بداية العام الحالي وفي مجلته “تقييمات استراتيجية”، دراسة حول تعاظم قوة الحزب تحت عنوان “حزب الله كجيش”. حاول المعهد من خلال دراسته، تقدير التعاظم العسكري لقوة حزب الله، ليس فقط من خلال تطور القدرة العسكرية كماً ونوعاً، بل أيضاً من خلال كيفية تنظيم وتشغيل هذه القدرة وتحويل ذلك الى واقع بنيوي يواكب سلوك الحزب العسكري وكل ما يتفرَّع عنه.
ثانياً: تجربة الحرب السورية. حيث تجري مراقبة التحوُّل في تجربة حزب الله العسكرية والأمنية لا سيما بعد الحرب السورية. والتي تطورت خلالها النظرية القتالية العسكرية التي يستخدمها حزب الله من نظرية حرب العصابات الى نظرية المنظومة المرنة القادرة على ممارسة التكتيكات العسكرية للجيوش الكلاسيكية. وهو ما ينقل عملياً أهداف القتال العسكري من مرحلة تفعيل القوة الى مرحلة إدارة القوة والتحكَّم بها.
ثالثاً: صورة حزب الله التي باتت مطبوعة في العقل الإسرائيلي وقدرته على تثبيت حجم قدراته العسكرية والقناعة الدائمة التي باتت تؤمن بها المؤسسة العسكرية والأمنية في تل أبيب والقائمة على اعتبار أن ما يُعلنه الحزب ليس إلا القليل مما يمتلكه من إمكانات. حيث شكَّلت هذه المسألة نقطة ردع استباقي لمصلحة حزب الله تتناسب مع طبيعته ومسار عمله.
حزب الله واستراتيجية إدارة القوة وساحات الحرب القائمة!
يُدير حزب الله معركة الردع من خلال استراتيجية إدارة القوة بعقلٍ ألمعي. فبحسب الموازين العسكرية الكلاسيكية فإن الجيش الإسرائيلي يتغلب على حزب الله من حيث الإمكانات والسلاح والتكنولوجيا. لكن حزب الله استطاع تحويل أغلب نقاط قوة الجيش الإسرائيلي الى نقاط ضعف. كما استطاع تحويل نقاط الضعف الناشئة لدى الحزب كونه منظومة تقاتل جيشاً الى نقاط قوة. وهنا فإن إثبات ذلك لا يعني انتظار خوض الحرب العسكرية المقبلة، بل إن الحرب بين الحزب والكيان الإسرائيلي قائمة، ولكن ضمن ساحات عديدة قد تختلف عن الساحة العسكرية. تُشكل هذه الساحات بطبيعتها وبحسب ما ينتج عنها، حروباً مُكمِّلة لأي حرب عسكرية إن لم تكن بديلة عنها. وهنا نُشير لساحاتين باختصار:
الحرب الذكية: منذ أن اطلق رونالد ريغان عام 1983 مبادرة الدفاع الإستراتيجي لأمريكا والتي عُرفت حينها بـ “حرب النجوم”، كان في واشنطن من يؤمن بضرورة أن يكون العقل الإسرائيلي شريكاً في صناعة المعدات الأكثر تعقيداً في المجال الالكتروني لما تحتاجه من مواصفات تقنية. هدفت المبادرة الأمريكية لإيجاد واقعٍ عالمي في ظل الحرب الباردة مع الإتحاد السوفياتي، قادرٍ على تأمين الردع الإستباقي ضد الأسلحة الذكية. لم يكن الهدف حينها تأمين الشراكة مع تل أبيب بالمعنى التجاري، بل هدفت الشراكة لتكريس التوأمة المصيرية لساحةٍ من ساحات الحرب المستقبلية، والتي آمن بها العقل الإستراتيجي الأمريكي. هذا في الماضي. في الحاضر القريب وبعد أن تسلَّمت هيلاري كلينتون منصبها وزيرة للخارجية الأمريكية في عهد اوباما، شكَّلت مع خبراء متخصصين في الحرب الذكية، لجنة خاصة بهذه الحرب لدراسة مكامن القوة والضعف العالمية وتحديد وضع الأطراف كافة من الخصوم والحلفاء. حينها أكد تقرير مركز الأمن القومي الأمريكي في قسمه المتعلق بالشرق الأوسط، وجود تسابق في تحقيق القوة حيث تبذل ايران وحزب الله نشاطات لتحقيق اختراقات في مجال الأسلحة العسكرية الذكية لا سيما الصواريخ. وهو ما يضع معادلة التفوق العسكري الإسرائيلي في خطر بحسب التقرير. ما أسهم في تبني أمريكا للخيارات الإستراتيجية القائمة على الدبلوماسية ونصيحتها للقيادة الإسرائيلية بتعزيز هذا الخيار والترويج له في المنطقة، بعد أن باتت التكنولوجيا مشرَّعة أمام الجميع وقد تهدد التفوق العسكري الإسرائيلي. حينها أيضاً نصح الخبير الاستراتيجي الأميركي انطوني كوردسمان إدارة اوباما بتزويد الكيان الإسرائيلي بقاذفات الشبح “اف -35” لتحقيق التفوق او حتى التوازن مقابل القدرات التي تمتلكها إيران والصواريخ التي بات يمتلكها حزب الله. كل ذلك بقي في ظل التوقعات والرهانات حتى خرجت أولى قدرات حزب الله الذكية الى العلن. طائرة أيوب التي اعتُبرت نقطة تحولٍ في الحرب بين حزب الله والجيش الإسرائيلي ليس فقط من الناحية العملية أي التحوُّل من الدفاع الى الهجوم، بل أيضاً من ناحية إدخال الحرب الذكية معادلات الصراع، وبالتالي سلب العدو قدراته الإبتكارية وعنصر المفاجأة.
تتحدث القيادة الإسرائيلية اليوم عن تطوير حزب الله لبنيته الإلكترونية وامتلاكه أدمغة متخصصة قادرة على إدارة الحرب الذكية. وهو ما يُدخل معادلات هذه الحرب ضمن المعادلات الأكبر في الصراع. ما يعني بحسب القراءة الإسرائيلية أن ما يُشار له من قوة يمتلكها حزب الله ليس إلا القليل مما لديه. وهو ما يُعتبر أحد الهواجس لدى القيادة السياسية والعسكرية في تل أبيب.
الحرب النفسية: في دراسة نشرتها جامعة هارفرد خلال العام 2017 حول الكيفية التي يُدير عبرها حزب الله قوته العسكرية أشار الباحث في برنامج الأمن الدولي دانيال سوبلمان في مقاله “معركة الردع بين حزب الله والجيش الإسرائيلي” الى أن الحزب نجح في تحويل نقاط القوة التي يمتلكها الجيش الإسرائيلي الى ضعف. حيث استطاع الحزب إقناع القيادة العسكرية الإسرائيلية بأنه يمتلك قدرات تكتيكية يمكنه استخدامها في أي حرب عسكرية، لها أثر استراتيجي في عملية الردع بين الطرفين ولمصلحة حزب الله. وبرأي الباحث فإن المشكلة الإسرائيلية مع حزب الله لا تقف في كيفية التعاطي مع حجم الترسانة الصاروخية التي يمتلكها الحزب، بل تتعدى ذلك للقدرة الإستراتيجية التي يعتمدها الحزب في استغلال قوته في الحرب النفسية لتحقيق الردع وما يعكسه ذلك على المجتمع الإسرائيلي وعلى أي حرب عسكرية قد تحصل. حيث بات الداخل الإسرائيلي مقتنعاً بقدرة الحزب على تحقيق انجازات نوعية في أي حرب عسكرية على جبهات القتال وفي الجبهة الإسرائيلية الداخلية، بالإضافة الى قدرته على ضرب منشآت محددة قد تُعيد الكيان الإسرائيلي لسنوات الى الوراء. في المقابل تكتفي تل أبيب بإطلاق تهديدات عامة غير واضحة المسار العملي والتأثير الإستراتيجي.
بحسب الباحث فإن قدرة الحزب على إقناع العدو بقدراته واستناده في ذلك الى حقائق، واعتماده إيصال هذه الرسائل عبر خطابات أمينه العام، كل ذلك خلق مادة للحرب النفسية. وبالتالي تعيش القيادة الإسرائيلية حالة من الرعب والعجز معاً. حيث اقتنعت بأن ما تملكه من قوة، سيكون له أثر تكتيكي فقط على حزب الله، على عكس الأثر الإستراتيجي الذي ستتركه قدرات الحزب النوعية.
منظومة حزب الله العسكرية: كيف يُقاربها العقل الإسرائيلي؟
يبدو واضحاً من خلال ما تقدم حجم التفوق النوعي في قدرات حزب الله العسكرية. وهو ما أخرج الخبراء الإستراتيجيين الواضعين للسيناريوهات المستقبلية، من عملية اعتماد المقاربة الكلاسيكية لحجم القوة وموازين الردع، الى عملية اعتماد مقاربة أكثر مرونة وديناميكية، تختلف عن مقاربات العقل التقليدي. فكيف يُقارب العقل الإسرائيلي اليوم، منظومة حزب الله العسكرية؟
تقتنع القيادة العسكرية والأمنية بأن حزب الله بات يُشكل المنظومة العسكرية الأخطر التي تُهدد مستقبل الكيان الإسرائيلي. وهو الأمر الذي وضع التطور النوعي لمنظومة حزب الله تحت المجهر الإسرائيلي. فيما يُلاحَظ الإهتمام الإسرائيلي بالتالي:
أولاً: التطور الكمي والنوعي لمنظومة حزب الله. ينصب الإهتمام الإسرائيلي على مراحل التطور التي مرَّ بها حزب الله وما يتعلق بمساره الإستراتيجي، وبالتالي سلوكه العسكري. التطور الكمي لناحية الموارد البشرية والنوعي لناحية القدرات التشغيلية. فيما يخص التطور الكمي فقد شكَّلت انتصارات حزب الله في الحروب مع الكيان الإسرائيلي نقاط تحولٍ مهمة على هذا الصعيد. فعدد مقاتلي الحزب ارتفع بعد انتصار العام 2000. لكن التحول الأكبر كان بعد انتصار العام 2006. وهو ما يُعتبر مصدر قلقٍ للقيادة الإسرائيلية، يُخالف تماماً وضع الجيش الإسرائيلي الذي يعيش حالة الهرب من التجنيد.
فيما يخص التطور النوعي والقدرات التشغيلية، فقد أحدثت الحروب التي خاضها حزب الله العديد من التغيُّرات النوعية في قدرات الحزب الميدانية. فيما شكَّلت الحرب السورية نقطة التحوُّل الأهم، وجاءت بنتائج عكسية لما خططت له تل أبيب عبر سياسة استنزاف الحزب في معارك وجبهات متعددة. فتطورت عملية قيادة حزب الله للميدان العسكري من قيادة الوحدات الصغيرة الى قيادة الوحدات الكبيرة مع دخول تجربة العمليات المشتركة مع الجيوش وما يعنيه ذلك من قدرةٍ على المواءمة والتنسيق بين قوات الجو والبر وأسلحتهم وعمليات الإسناد كافة. شكَّلت التجربة السورية فرصة لزيادة المرونة القتالية للحزب. وانتقل معها الى بناء مدرسةٍ عسكرية جديدة بعد مدرسته التكتيكية الخاصة بالمقاومة، الى مدرسةٍ تجمع بين تكتيكات الجيوش والعصابات. وأمَّن لذلك بنية تنظيمية يمكن أن تقود بشكلٍ هرميٍ صلب كالجيوش أو بشكلٍ مرنٍ يجمع بين الجيوش والعصابات.
ثانياً: التطور في اسلوب القتال والعقيدة العسكرية. وهو ما يتعلق أيضاً بالتطور الذي تحدثنا عنه في القدرات التشغيلية. حيث يختلف أسلوب الحزب في إدارة الميدان عن الأساليب المعهودة المعتمدة لدى الجيوش. ويمتلك المقاتل هامشاً من الحرية بحسب المعركة وطبيعة مهامه وعدة عوامل أخرى تجعله قادراً على استخدام ثقافته وتجربته العسكرية في المبادرة الميدانية وبشكل ناجح. وبالتالي لا يستخدم حزب الله دائماً الهرمية الصلبة في سلوكه الميداني بقدر ما بات يستخدم الهرمية المرنة. وهو ما يجعل من الميدان ساحة لتنمية قدرات المقاتل وبشكلٍ كبير يختلف عما تخوضه الجيوش في الحروب.
ثالثاً: التطور في إدارة موازين القوة والردع وتحقيق الحسم العسكري للمعركة. وهو ما يتعلق بشكل مباشر بإدارة الحزب للحرب النفسية. في حين يأخذ الطابع العسكري الواقعي الذي بات يعيشه حزب الله مساحة النقاش كافة. فالفارق أصبح شاسعاً بين الحزب والجيش الإسرائيلي. يتطور الحزب وعلى كافة الأصعدة من خلال الميدان الحقيقي والتجارب الواقعية. بينما تمارس القيادة العسكرية الإسرائيلية دور المُتفرِّج الذي لا يمارس سوى المناورات. من جهته فشل العقل الإسرائيلي في محاولاته إقناع العالم بأنه قادرٌ على حسم أي معركة. محاولته اطلاق معادلة الحسم مقابل الردع، لم تنجح. بل انقلبت التوازنات وأصبح حزب الله قادراً على ممارسة هذه اللعبة، مُقنعاً العالم بأسره أنه قادرٌ على تحقيق الردع والحسم معاً.
خلاصات ونتائج
يكفي ما تقدَّم لإيصال الصورة الحقيقية التي تصف واقع رأسي حربة الصراع في المنطقة والعالم. يقود حزب الله صراع محور المقاومة من موقعه الجيوسياسي والجيوعسكري المجاور لفلسطين المحتلة. ومع التعاظم الذي يعيشه حزب الله، تواجه تل أبيب تحديات كبيرة. وأهما أنها تواجه الخبرة العملياتية التي اكتسبها حزب الله في اطر تنفيذية قتالية من خلال مراكمته لتجربة طويلة عبر إدارته المتفرَّدة للميدان في الحرب مع الكيان الإسرائيلي أو إدارته التنسيقية للميدان مع الحلفاء في سوريا. ما يعني أن أي حربٍ عسكرية مقبلة ستبدأ من حيث انتهت حروب حزب الله وكما تُقرر قيادة الحزب. وهنا نقصد بالبداية ما تعنيه المعادلات الميدانية وليس التوقيت. ما يضع الكيان الإسرائيلي أمام معضلة ما يُخبِّئه حزب الله من مفاجآت. فما اختبره العقل العسكري الإسرائيلي ضد الحزب توقَّف مع انتهاء حرب تموز. ولم تكن تل أبيب جزءاً من الميدان السوري على الرغم من مشاركتها الإستخباراتية واللوجستية. لكنها لم تختبر ما اختبره حزب الله فعلياً. في حين باتت تعيش القيادة الإسرائيلية حالة من الرعب أمام التساؤلات التي تطرحها هذه التجربة. ولعل أهمها يكمن في الأسلوب الذي قد يعتمده الحزب في أي حربٍ مقبلة.
من إدارة المعارك كالجيوش الى تعاظم القدرات والخبرات والقوات العسكرية المُدربة، وما يُضاف لها من قدرةٍ على النجاحٍ في عدة ساحات كالحرب النفسية والذكية والأمنية والخ..، طبع حزب الله حتمية الهزيمة الإسرائيلية. يُضاف الى كل ما تقدم، الحقيقة الإسرائيلية التي يغفل عنها الكثيرون والمتعلقة بالقدرة الإسرائيلية على الصمود في الحروب القصيرة فقط. كل ذلك يعني أن الكيان الإسرائيلي يعيش حالياً حرب استنزاف وجودية لا يمكنه سوى أن يلتزم فيها الصمت، عنوانها انتهاء اسطورة قوة جيشٍ تعتمد عليها دولة مزعومة، في ظل ما يعيشه العقل الإسرائيلي من هاجس قوة حزب الله!