فلسطين.. رب ضارة نافعة
بقلم/ د. فيوليت داغر
فعلاً، رب ضارة نافعة. بصيص أمل يتراءى لنا في نهاية نفق التردي الذي بلغناه. واقع جديد سيخرج لا محالة من حالة التعفن المتقدمة التي آل إليها حال الأمة. ليست الحالة مستعصية، وقد لا يكون قرار ترامب الذي أعلنه أخيراً، بالرغم من كل التحذيرات التي أرسلت له، الزلزال الذي سيزلزل الأرض من تحت أقدامنا نحن أبناء هذه المنطقة، مثلما حدث حتى الآن مع “ثورات الربيع العربي” وملحقاتها. بل قد يكون بداية الزلزال الذي سيستأصل من المنطقة الكيان الصهيوني الغاصب. هذا السرطان الذي زرع بين ظهرانينا منذ وعد بلفور وما قبله بالتحضير له وما تبعه من مؤامرات لم تكلّ يوماً أو تهدأ.
من غير المؤكد أن سيد البيت الأبيض قد أسدى خدمة للكيان الصهيوني بجعل القدس عاصمته، وإنما خدم نفسه بصرف الأنظار عن مشاكله الداخلية والتحقيقات مع فريقه. لكن بالتأكيد، ذهب هذا المتجبر بالتحدي مبلغاً لم يسبقه إليه أسلافه، من حيث هو تحد لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وللاتفاقات التي وقعت عليها الولايات المتحدة ودفعت إليها بالقوة أحياناً كثيرة المُحاوِر الفلسطيني لسلبه تدريجياً كل ما يملك. هذا القرار قد يكون وبالاً عليه وبداية النهاية لهذا الكيان. وقد حذر من ذلك بعض المتنورين من اليهود الذين اعتبروا أنه يحمل خطراً على “إسرائيل” وعلى السلم الدولي.
فعلها ترامب رغم أنف الجميع. هذا القرار الأرعن قد يطلق في مرحلة أولى يد الاحتلال تهويداً واستيطاناً وإمعاناً في اغتصاب ما تبقى من أرض. قد يؤدي حتى لترحيل أبناء فلسطين مما يسمى بأراضي 48 لأماكن جديدة. ولا ننسى ما ألحقه من إهانة بملايين المسيحيين والمسلمين في أنحاء الأرض العربية وغير العربية. حتى ولو تم الرجوع عن القرار، يفترض أنه سقط لغير رجعة الرهان على تسويات مع من افتضح أمرهم أمام الملأ وسقطت أقنعتهم وبرزوا بوضوح كرعاة عدوان وليس سلام.
عملية السلام، التي أوغلت بعيداً بعمليات الابتزاز والإخضاع وإهدار الحقوق الفلسطينية، استنفذت جهود سنوات طويلة للإدارات الأمريكية المتعاقبة، بدفع من الصهيونية العالمية وعمالة المتواطئين وأدواتهم التنفيذية. سرق المعتدون من كل الأطياف الحلم واغتصبوا الهوية واستباحوا الكرامة، بعد نهب الأرض وما عليها من خيرات وما في داخلها من ثروات. هم سلبوا حتى أوهام المهرولين للمفاوضات والمطبعين والمتاجرين بالأرض والعرض. مع هذا الإنكشاف، كانت أعراض فقدان المناعة قد بلغت حداً سمح للمرض بالتوغل عميقاً في الجسد المثخن بالجراح، بفعل الأعداء كما من ذوي القربى. أما اليوم، فمسار السلام، الذي راهن عليه وعمل له من سموا برعاته من الخارج وفي الداخل، قد سقط بالضربة القاضية..
لقد كان لي شرف التضامن مع القضية العربية الأم بأشكال عدة منها، وخصوصاً، الانتقال لعين المكان، لأشهد وأكتب وأتكلم وأعلي الصوت وأوصل معاناة من بحت أصواتهم من الشكوى من أوضاعهم في الأراضي المحتلة وفي أراضي 48. كانت الصعوبات والموانع التي واجهتها جمة، خاصة لدى دخول الأراضي الفلسطينية من أي معبر أو حدود كانت ولاسيما في المرة الأخيرة. لكن ما أهميتها مقابل ما يعانيه هذا الشعب وما شهدته على الأرض ونقلته من استهداف يومي له، ليس فقط من المحتل وإنما أيضا وأحياناً ممن اؤتمن على مصالحه؟
عايشت أطفال الحجارة في غزة ونقلت مشاهدات من السجن المفتوح على السماء. حذرت في حينه من مخطط تهويد القدس واستهداف الأقصى، وما استجره من هدم البيوت على رؤوس أصحابها أو وضع اليد عليها بطرد أهاليها منها إلى العراء أو الخيم في أحسن الأحوال، دون كبير سند من السلطات الفلسطينية. تحدثت عن قرار أولياء الأمر بإغلاق الجمعيات الخيرية والتي كانت كل ما تبقى من معين للشعب الفلسطيني. شهدت على وحشية الاحتلال وسادية جنوده تجاه الفلسطينيين والتي تتبدى في كل مشهد وكل لحظة دون احتراز من أي شيء، وكأن لا رقيب ولا حسيب على ما يفعلون. سرت في مواقع وطرقات لم يكن للفلسطيني أن يسلكها ولا حتى منهم من حظي بمجرد رؤيتها وهو إبن البلد. نقلت واقع فلسطينيي الداخل أبناء البلد الفعليين الذين بقوا صامدين في أرضهم والمهددين اليوم بالترحيل عنها. بالمناسبة، كنا لفترة كنشطاء حقوقيين نتجنب بشديد الغباء الاحتكاك بهم في المؤتمرات الدولية، خوفاً من أن تعلق بنا تهمة التطبيع لأنهم يحملون أوراق دولة الاحتلال.
وبهذه المناسبة يجدر بي توجيه تحية كبيرة للمناضل العزيز أمير الذي طلب مني قبل سنوات التضامن مع شعبه بالداخل بكتابة تقرير عن واقعهم حيث كانوا يشعرون بالخطر على وجودهم. إنه يقبع منذ سنوات في المعتقل حيث إحدى التهم التي وجهت له التعامل مع حزب الله. لقد باتت تهمة التعامل مع حزب الله ينطق بها ليس فقط الاحتلال ضد النشطاء الشرفاء، بل أيضا أدواتهم في المنطقة ضد مثقفين في الكويت والبحرين وغيرها ممن أذعنوا لضغوط الأخ الأكبر ونفذوا سياسات الملكة العربية السعودية المتواطئة مع أعداء الأمة. لحسن الحظ، بان اليوم دورها معلناً على رؤوس الأشهاد، بعدما بقي طويلاً يمعن في الخفاء بالانقضاض على جسد الأمة العربية لتذريره. (لمن يهمه الأمر، معظم شهاداتي من فلسطين منشورة على موقعي وعلى موقع اللجنة العربية لحقوق الإنسان).
بعد عودتي من فلسطين في المرة الأخيرة، كان لي أن أصدم بقرار رعاة مؤتمر عن العنصرية عقد في حرم الأمم المتحدة في جنيف، وأن اصطدم بالمنع من إثارة موضوع فلسطين وتهويد القدس في الفعالية الرئيسية التي منحتنا فرصة 25 دقيقة، نحن الممثلين لخمس قارات، للتوجه للحاضرين بعناوين نريد إبلاغها للرأي العام العالمي. بالطبع، لم أدع الفرصة تفوتني وأسلب حقي بالتعبير، حيث طلبت الكلام كممثلة جمعية حقوقية لأبلغ ما أردت. لكن هذه التجربة وغيرها أخرى جعلتني فيما بعد أتساءل، وبالصوت العالي من على منبر الأمم المتحدة نفسها، عن جدوى الاستمرار في هذه اللعبة، بعد أن فقدت هذه المؤسسة المصداقية في الكثير من الامتحانات التي واجهتها. طبعاً، من يعول على التمويل لا يملك إمكانية التصريح بأي شيء من هذا القبيل. والحمد لله أن تعويلي كان على نفسي وعلى حفنة من الشرفاء الذين لم تستهويهم منافع المجتمع المشهدي الاستهلاكي، مقابل مواصلة النضال بمواجهة واقع جائر ومصير شعوب على كف عفريت.
اليوم، وبمناسبة هذه الهبّة الشعبية في الأراضي الفلسطينية إثر القرار الجائر المجرم، والتي تتوافق مع الذكرى الثلاثين للانتفاضة الأولى، نتوجه بالتحية للشعب الغاضب في الشوارع في سائر أرجاء فلسطين، للشباب الهادر في الساحات الذي حمل روحه على كفه وخرج للتعبير عن حقه المشروع في المطالبة باسترداد حقوق شعبه المستباحة. الرحمة لأرواح الشهداء الذين ارتقوا والسلامة للجرحى. كما الرحمة على أرواح كل من قدموا حياتهم وأريقت دماءهم ثمناً للذود عن أرضهم السليبة والذين لم يترك لهم أي خيار آخر سوى خيار المقاومة لاسترجاع الكرامة.
وفي الأخير، ومع الذكرى السبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أتساءل عن مدى احترام المجتمع الدولي لمبادئ هذا الإعلان وما تبعه من مواثيق واتفاقيات ومؤتمرات حولها واحتفاليات بها؟ عندما ما برحت الانتهاكات الفظة والجرائم الفظيعة لسلطات الإحتلال التي تعتدي على حقوق الإنسان الفلسطيني في أرضه هي بمثابة سياسة ممنهجة تستهدف هذه الحقوق، وأولها الحق بالحياة، بالقتل بدم بارد لسبب أو لآخر وبدون سبب، بالإعدامات الميدانية واحتجاز الجثامين وهدم المنازل على رؤوس أصحابها؟ هذا إن لم نذكر سوى بعض هذه الإستهدافات التي لا تتسع لها هذه الورقة من منع حرية التنقل والتعبير، واعتقال حتى للأطفال وتعذيبهم، وعزل القرى، والاستمرار في مصادرة البيوت والأراضي وتوسيع المستوطنات، وتخريب البيئة ونهب الثروات، وفرض حصار جائر على قطاع غزة، واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً، وما عداه الكثير مما ينسف أسس وقواعد القوانين الدولية التي يفترض أنها ناظمة للتجمعات البشرية بدل شريعة الغاب.
إنها مرحلة مفصلية يعيشها مجدداً الشعب الفلسطيني اليوم، بعدما تنقلت الكوارث وزرعت الفتن والدمار وأسيلت الدماء والدموع في أقطار عدة خلال سنوات أفلت. تدحرجت المؤامرة وتوسعت، بحيث بات على الجميع رصّ الصفوف لاستئصال الورم الخبيث من الجسم الذي أصبح عليلاً من الصدمات والفواجع والخيانات المتلاحقة التي عصفت به ردحاً من الزمن. لم يبق من خيارات سوى خيار الكفاح والمقاومة والبناء على أسس جديدة سليمة. لذا، من المنتظر من سلطة أوسلو إسقاط اتفاقية أوسلو وحل نفسها، وبالتالي توقيف كل تعاون أمني وتنسيق مع سلطات الاحتلال. كما يجدر بالفصائل المختلفة إعادة صياغة أدوارها ورسم استراتيجية يتفق حولها الجميع للتوحد حول نهج وفعل المقاومة الذي لا سبيل لغيره لاسترداد الأرض المغتصبة.
لقد اقترب زمن المساءلة والحساب والعقاب لكل من رعى وسهّل وساعد وارتكب الجرائم بحق الإنسانية، عندما استباح حقوق الشعوب واغتصب الأوطان ونهب الثروات وعبث بأملاك البشر. نحن، شعوب هذه المنطقة، الذين نموت في كل يوم بالتدريج، هل يخيفنا الانفجار الكبير ثمناً لإعادة الأمور لنصابها والحق لأصحابه؟
أنهي بالاقتباس من نزار قباني، الذي سأل لؤلؤة الأديان، القدس، عمن ينقذ القرآن والإنجيل والمسيح ممن قتلوا المسيح، ليبشر بأن الليمون سيزهر، وستفرخ السنابل الخضراء والزيتون، وسترجع الحمائم المهاجرة، وسيلتقي الآباء والبنون..