الحكام العرب بين العدالة والمحكمة الثورية
صور حسني مبارك في سرير مرضه? خلف قضبان قفص الاتهام? تثير ردود فعل مركبة. من جهة? ها هو دكتاتور يقدم الى المحاكمة في أعقاب ثورة شعبية ناجحة? أدت الى اسقاطه دون سفك دماء من جانب الثوار.
من جهة اخرى? من بين كل الحكام العرب? فان مبارك بالذات ـ الذي لا بد أنه لم يكن من أكثرهم وحشية ـ هو الذي يقدم الى المحاكمة? بينما بشار الاسد لا يزال يقتل مواطنيه ومعمر القذافي يصمد? ومن يدري? لعل الديمقراطيات الغربية ستدير معهما مفاوضات بعد أن ينجوا في الحكم? وحكام السعودية والجزائر? كلهم? بأشكال مختلفة? أبطال القمع الوحشي لحقوق الانسان الأساس? يجلسون بأمان في كراسيهم وبالذات مبارك يقدم الى المحاكمة?.
فضلا عن ذلك: من هو بالضبط الذين يقدمونه الى المحاكمة? رئيس المجلس العسكري? المشير طنطاوي? الذي كان رعية له على مدى السنين? واعضاء المجلس ـ كلهم من الموالين لمبارك ومن عينهم هو. دون التعرف على قدر أكبر مما ينبغي على القضاة والمدعين? فلن يكون تخمينا غير منطقي القول انهم ليسوا بالضبط من متظاهري التحرير? بل نشأوا وارتفعوا في مراتبهم في زمن نظام مبارك. ولا غرو اذا لم يجد الاحساس الطبيعي بالعدالة مبتغاه تماما في ضوء المشهد الواقع الآن في اكاديمية الشرطة في أطراف القاهرة.
بالذات لانه يوجد ميل لتشبيه الربيع العربي ولا سيما ما جرى في ميدان التحرير بسلسلة الثورات التي أسقطت الانظمة الشيوعية في شرقي اوروبا? لعله يوجد مجال للسؤال كيف تعاطت الانظمة الديمقراطية الجديدة هناك مع الحكام السابقين? الذين بلا ريب كانوا أكثر قمعا واجراما من نظام مبارك. يتبين أن أحد الانجازات الاكثر اثارة للانطباع لهذه الثورات كان حقيقة أنه باستثناء رومانيا? لم تكن هذه الانظمة انتقامية ولم تتخذ طريق المحاكمات التظاهرية أو الاعدامات للحكام السابقين. والشذوذ الروماني بالذات ينسجم مع حقيقة ان النظام ما بعد الشيوعي في رومانيا ليس أكثرها صلاحا فيما يتعلق بالديمقراطية أو انعدام الفساد.
لا ريب أن انعدام الانتقامية في شرقي اوروبا سهل انتقال النظام الديمقراطي بل ومنح الانظمة الجديدة شرعية? مع التشديد على الفارق بين الفكرة الديمقراطية? التي لا تحتاج الى أداة حادة ووحشية احيانا المتعلقة بالمحاكمات السياسية? وبين الانظمة الشمولية التي كانت المحاكمات التظاهرية السياسية من أبرز خصالها غير الرحيمة.
ما حصل بالفعل هناك كان أن من خدم بهذا الشكل أو ذاك في وظائف عليا للنظام السابق ولا سيما اذا كان تبوأ مناصب في اجهزة الامن والاجهزة المتفرعة عنها كان مرفوضا مواصلته مهام منصبه العام أو التنافس في الانتخابات الديمقراطية.
ميزان اشكالي
لو كانوا استخدموا هذا المنطق في مصر? فان المجلس العسكري الحاكم في هذه اللحظة? وكل من حوله ويجب الافتراض بأن القضاة والمدعين في محاكمة مبارك ايضا كانوا سيكونون مرفوضين دون أدنى شك. وحتى في الحالة الشاذة للجنرال يروزلسكي في بولندا? فان القرار لتقديمه الى المحاكمة ات?ْخذ بعد أكثر من عشر سنوات من اسقاطه من الحكم? وهذا ايضا بعد ترددات كثيرة وبلا حماسة? بل انه لم ي?ْزج أبدا في السجن? وبسبب حالته الصحية الهزيلة س?ْمح له ايضا ألا يمثل في معظم جلسات المحكمة. المحاكمة? التي أ?ْديرت على نار هادئة? لم تصبح أبدا بديلا عن جملة الاصلاحات الهامة التي أتاحت انتقال بولندا الى الديمقراطية الثابتة.
كل هذا بالطبع لا يحصل في مصر? وهذا جزء من الميزان الاشكالي للثورة المصرية حتى الآن. فالمجلس العسكري خضع لمطالب المتظاهرين وقدم موعد محاكمة مبارك رغم مرضه? ورغم قراره البقاء في مصر وعدم الفرار? مثل زين العابدين بن علي التونسي? الى السعودية. ولكن ينبغي الاعتراف بأن الثورة المصرية حتى الآن ليست نجاحا كبيرا. صحيح أن قمة الهرم مبارك ونجليه ووزرائه أ?ْسقطوا وهم ي?ْقدمون الآن للمحاكمة? إلا أن حكام الدولة هم طغمة عسكرية كل اعضائها عينهم مبارك.
الانتقال الى الديمقراطية? ناهيك عن تحسين الوضع الاقتصادي لعشرات ملايين المصريين? لا يزالان بعيدين. وليس واضحا على الاطلاق متى ستجرى انتخابات? واذا ما جرت حقا فهل ثمة ضمانة في أن تكون القوى الديمقراطية والليبرالية هي التي ستفوز فيها أم أن مصر ستتدهور الى نوع من الحكم الديني القمعي.
وفي هذه الاثناء? من الصعب أن نرى الجيش يتخلى عن امتيازاته الاقتصادية والاجتماعية. فنزعة الانتقام القضائية ليست بديلا عن الاصلاحات الديمقراطية والاجتماعية الحقيقية.
كما يمكن النظر في هذه المواضيع في سياق أوسع: ليس فقط عنف الثورة السوفييتية وقف أمام ناظر الانشقاقيين في شرقي اوروبا كمثال ينبغي الابتعاد عنه? بل ان أناسا مثل فاتسلاف هافل في تشيكوسلوفاكيا وادم ميكنيك في بولندا? ممن عرفوا جيدا التاريخ الاوروبي? كانوا واعين ايضا لتشويهات الثورة الفرنسية. ثورة 1789 في باريس? والتي بدت في البداية بأنها ستجمع فيها كل آمال التحرر للتنوير الفرنسي والاوروبي? تدهورت في غضون بضع سنوات الى ارهاب