بئر العبد لبنان ومصر القاتل واحدٌ والضحيةُ واحدةٌ
بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي
من لبنان إلى مصر، ومن بيروت إلى سيناء، ومن بئر العبد الضاحية إلى بئر العبد العريش، الجريمةُ واحدةٌ والقاتلُ واحدٌ، والضحية نحنُ لا غيرنا، وأهلنا لا أعداؤنا، وأبناؤنا لا أبناؤهم، وكأن أعداء الأمة قد تعاهدوا فيما بينهم على استهدفها وقتلها في أي مكانٍ، وتآمروا عليها للنيل منها وتركيعها في أي زمانٍ، فعمدوا إلى استهداف خواصرها الضعيفة ومهاجمة أطرافها البعيدة، والمس بحياة أبريائها من المدنيين والنساء والأطفال والشيوخ، ومن المصلين الذين يلجأون إلى المساجد، ويتضرعون إلى الله عز وجل بتبتلٍ وخشوعٍ، ويدعونه سبحانه خشيةً ورهبةً أن يحمي هذه الأمة، وأن يقيها المخاطر والشرور، والفتن والمحن والابتلاءات، ولكن أعداء الأمة يتربصون بها، ويرومون بها شراً، ويريدون أن يلحقوا بها ضرراً.
قديماً في قلب بيروت العاصمة وفي عمق ضاحيتها، وفي محلة بئر العبد، وفي مسجدٍ جامعٍ، وفي يوم جمعةٍ مباركةٍ، قبل سنواتٍ تزيد عن الثلاثين عاماً، استهدف المجرمون مسجد الإمام الكاظم في بئر العبد في بيروت، وفجروا فيه عبوةً ناسفةً شديدة الانفجار، قتلت المئات من الرجال والنساء، وأصابت شظاياها القاتلة مئاتٍ آخرين، في أكبر مجزرةٍ يشهدها لبنان، ويعاني منها ويقاسى هولها مسلموه، وقد ارتكب الجريمة عدوٌ واضحٌ لا يخفي عداوته ولا ينكر جريمته، ولا يتردد أو يخجل من إعلان مسؤوليته عنها، ولا يتورع عن تكرارها والقيام بمثلها وأشد، وقد ارتكب غيرها فعلاً ولم يبالي، وأعلن مسؤوليته عنها ولم يخف، ولكن الله عز وجل أفشل مخططاتهم، ورد كيدهم إلى نحرهم، وأنجى السيد الذي أرادوا قتله، وحمى الرجل الذي خافوا فكره، وأنقذ المرجع الذي كانوا يتحسبون من دوره، وقد قال عنه وليام كيسي مستشار الأمن القومي الأمريكي في حينها، أن سماحة السيد محمد حسين فضل الله يزعج السياسة الأمريكية وكان ينبغي إزاحته.
اليوم تتكرر الحادثة نفسها لكن في مكانٍ وزمانٍ آخر، في مسجد الروضة ببلدة بئر العبد في شمال سيناء بمصر، وفي يوم جمعةٍ مباركةٍ آخر، وبينما المصلون في مسجدهم آمنين، وبين يدي الله سبحانه وتعالى مطمئنين، يؤدون صلاتهم بخشوعٍ، ويقرأن كتاب الله سبحانه وتعالى ويسبحونه بخشيةٍ وسكينةٍ ووقار، عاد ذات المجرمين، ونفس القتلة المتآمرين، وإن كانوا بلباسٍ آخر وثوبٍ مختلفٍ، إلا أنهم ذاتهم الذين فجروا قديماً وما زالوا يفجرون حتى اليوم بين جموع المسلمين وغيرهم، يقتلونهم دون سبب، ويعتدون عليهم دون مبررٍ، ويدعون أنهم مسلمون وهم منه براء، ويتحدثون كالآدميين وهم إلى الدواب والبهائم أقرب، بل لعلها أعقل منهم وأفهم، وأكثر رحمةً منهم ورأفة، فهي لا تقتل ولا تفتك، ولا تعتدي ولا تظلم، ولا تروع ولا ترهب، ولا تنشر الذعر بين الآخرين ولا تخيفهم، بل تتضامن لحماية بعضها، وتتكاثف للدفاع عن صغيرها.
أعداؤنا ليسوا الإسرائيليين وحدهم، والحركة الصهيونية وقوى الاستعمار والاستكبار العالمية، إنهم كل من يتآمر على هذه الأمة ولو كانوا من أبنائها، ويحملون أسماءها ويدينون بدينها، ويتكلمون بلسانها وينطقون بضادها، لكنهم بأفعالهم الشنيعة من الإسلام براء، وإلى العروبة لا ينتمون، وإلينا لا ينتسبون، ولو كان بعضهم ولداً لنا أو بعض أهلنا، فإنهم ليسوا منا ولا تربطنا بهم صلة رحمٍ ولا أواصر قربى ومودة، إنهم بشهادة الله عز وجل عملٌ غير صالح، يتآمرون مع العدو ويشتركون معه في استهداف أمتهم وترويع أهلها وقتل أبنائها، بل إنهم أشد علينا وأخطر من العدو البادي في سواده، والظاهر في عدائه، والبيِّن في كرهه، بينما هم يدخلون مساجدنا ويفجرونها، ويتجولون في أسواقنا ويزرعون فيها العبوات الناسفة، ويعيشون معنا وهم يخططون لقتلنا، فهل يستويان وصفاً، فذاك عدوٌ نعرفه ونحذره وننتصر عليه، وهذا عدوٌ ينافقنا ويعيش معنا فلا نعرفه ولا نستطيع أن نميزه، رغم أنه شيطانٌ في فكره، وشريرٌ في فعله، وغير هيابٍ في جرمه.
ويح هؤلاء المجرمين القتلة ماذا يفعلون وأي جرمٍ يرتكبون، وبأي وجهٍ سيلقون ربهم، وبأي لسانٍ سيخاطبونه يوم القيامة، وكيف سيفسرون جرائمهم يوم الحساب، وبماذا سيبررونها لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، القوي القادر، الجبار القهار.
ماذا سيقولون للطفل الذي ينتظر والده الذي لن يعود إليه وإلى بيته من صلاة الجمعة، وماذا سيقولون للنساء اللواتي فقدن أولادهن أو أزواجهن، أو حرموا من آبائهن وإخوانهن، ماذا سيقولون للشيخ العجوز الذي قصم ظهره فقدُ ابنِه وخسارةُ ولدِه، وكيف سيواصلون حياتهم وبأي وجهٍ سيبتسمون لأهلهم وهم قد قتلوا منهم المئات، وأدموا قلوب الملايين.
إنها دماؤنا التي تسيل، وأرواحنا التي تزهق، ورجالنا الذين يقتلون، وأطفالنا الذين ييتمون، ونساؤونا اللواتي يرملن، ومستقبلنا الذي يضيع وحاضرنا الذي يفسد، وواقعنا الذي يسوء، وأملنا الذي يتبخر وأحلامنا التي تتبدد، فنحن الذين نخسر لا سوانا، وقلوبنا التي تنكأ وتفجع، وصورتنا هي التي تتشوه، وبريقنا الذي ينطفئ، وألقنا الذي يذهب، وشعبنا الذي يقتل أو يفر ويهرب، ويهاجر ويلجأ، وأرضنا هي التي تخلو من أهلها وتتصحر من سكانها، وليس من يبكينا سوانا، ولا من يحزن على أحوالنا غيرنا، ونفوسنا على أحوالنا تتفطر، وقلوبنا تتوجع، ودموعنا من مآقينا تفر وبغزارةٍ تنهمر، ورغم ذلك في سكين الإرهاب ما زالت تحز رقابنا، وسيوفهم تلغ في دمائنا.
يا ويلنا نحن العرب والمسلمين مما يجري في بلادنا، ويقع في أرضنا، ويحل بأمتنا وشعبنا، من ذا الذي يعبث بأمننا ويروع أهلنا ويقتل أبناءنا، هل نلقي باللائمة فقط على عدونا ونحمله ما يقع لنا ويجري علينا، وفق ما تعودنا عليه قديماً من نظرية المؤامرة، أم نتحمل بعض الوزر، ونشارك في جزءٍ من المسؤولية، فهؤلاء الضالون المفسدون، القتلة المجرمون، الإرهابيون المعتدون، إنما هم من بني جلدتنا، ممن تربوا معنا وعاشوا بيننا، لكنهم يحاربون الله ورسوله، ويروعون المؤمنين والآمنين والمطمئنين في بيوتهم ومنازلهم، وفي مساجدهم وصوامعهم، وفي أسواقهم ومدارسهم، فاستحقوا بذلك حد الحرابة الذي نص عليه الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، وهو أشد أنواع الحدود وأكثرها ردعاً وزجراً لعظم ما يرتكبون، وفحش ما يصنعون، فكان لزاماً علينا تنفيذ حد الله فيهم، وألا تأخذنا بهم رأفة ولا رحمة، وألا نخفف من جريمتهم، أو نلقي باللائمة على غيرهم، فهؤلاء أدواتٌ قذرةٌ بأيدي أعداء الأمة، يستعملونهم بخسة، ويشغلونهم بنذالة، ويلقون بهم بعد المهمة كالورقة المهملة، والفضلات القذرة النتنة وهم كذلك نجسٌ نبرأُ منه وركسٌ نتطهر منه.