كي نحترِس من نفاق “ربيع عربي” ما برح يدمينا
ثمة عناصر أساسية في ما يُمكن تسميته بمشروع تحصين المجتمعات العربية وتوفير حمايتها الذاتية من خرافات وأكاذيب ونفاق وجرائم “ربيع” آخر ، وأشدّد في هذا المقام المحدود على واحد من أبرزها وأقصد به “التعبير الحر” ، فالمجتعات التي تحكمها قواعد الصمت والخوف والريبة هي الأضعف والأكثر استعداداً للاندفاع نحو الهاوية متوهِّمة أنها خشبة الخلاص.
لم يُصنَّف العلاّمة إبن خلدون مؤسِّساً لعِلم الاجتماع اعتباطاً أو صدفة أو تباهياً رغم وجوب التباهي بهذا العالِم العربي الجليل، فقد بنى استنتاجاته على وقائع ثابتة ومُجرَّبة ولهذا تبدو صالِحة ومُفيدة، جزئياً على الأقل، بعد ستة قرون على وفاته.
أستعيد في هذا النصّ بعضاً من خُلاصاته التي استُعيدَت في أكثر من مناسبة وفي أوقات مختلفة وتُستعاد هذه الأيام بكثرة في وسائل التواصل الاجتماعي. يصف إبن خلدون حال المجتمعات عموماً عندما تُدمَّر الدول أو تضعف بقوله “…عندما تنهار الدول، يكثُر المُنجِّمون والمُنافِقون والكَتَبَة والقوّالون وضاربو المنْدَل وقارِعو الطبول والمدَّاحون والهجَّاؤون والانتهازيون، وتختلط المعاني والكلام ويختلط الصدق بالكذب والجهاد بالقتل ويسود الرّعب ويلوذ الناس بالطوائف وتظهر العجائب وتسود الإشاعة ويتحوّل الصديق إلى عدو ويعلو صوت الباطِل وتشحّ الأحلام ويموت الأمل ويضيع صوت الحُكماء في ضجيج الخطباء ويتقاذف أفراد البيت الواحد تِهمَ الخيانة والعمالة”.
لنتذكّر معاً الظواهر التي انتشرت في البلدان العربية التي انهارت دولها أو ضعفت في سياق ما يُسمَّى ب “الربيع العربي” أو عشيَّته. قال أحد الفُقهاء صراحة “لو كان الرسول حيّاً في أيامنا لما تردّد في التعاون مع حلف الناتو” وذلك قبل أيام من التعبئة العسكرية الأميركية بخاصىة والغربية عموماً لضرب سوريا عام 2013. هكذا يرى شيخنا “الجليل” أن الناتو الذي عيَّن الإسلام عدواً له بعد انهيار الحرب الباردة، جدير بالتحالف وبرخصة نبوية، لضرب دولة سوريا المسلمة. في العراق قال مُثقّف تروتسكي شهير إن القصف الأميركي لبلاده هو امتع على أُذنيه من موسيقى بتهوفن. وفي اليمن وفي مصر قال معارضون للحكومة أن بوسعهم التخابُر مع الأجهزة الغربية ما دامت دولهم تتخابر معها. ونشر معارضون في أكثر من عاصمة ضربها “ربيع الشؤم” صوَراً لمجازر وقعت في بلدان أجنبية بوصفها محلية أصابت أهلهم و أولادهم. وفي ليبيا والعراق وسوريا افتُتحِت أسواق لبيع العبيد، ونُهِبت الخيرات وبيعَت الآثار الوطنية. وفي سوريا أيضاً اغتيل الشيخ الحكيم محمّد سعيد رمضان البوطي وكانت جريمته الوحيدة هي البقاء في بلده والدعوة إلى وقف الحرب. وفي مصر وليبيا وبلدان عربية أخرى دعا مُفكِّر عربي مشهور ــــــ من مُنظِّري الربيع ــــــ إلى استخدام كل الوسائل لإسقاط الأنظمة العربية “وإن فشلتم فستكون أوضاعكم كأوضاع البلدان الأوروبية بعد ربيعها عام 1848 م”.
لقد استُخدِمت الفتنة الطائفية لتحقيق أهداف “ديمقراطية” مزعومة، وصارت بلدان “الربيع العربي” مسارح مفتوحة للمُنافقين و”الضاربين في المنْدَل” ممن لا يتردَّدون في القول إن الشيوخ وأصحاب السموّ يموّلون حركات “الربيع” للإطاحة بالاستبداد وإقامة الديمقراطية، فكان أن سادت في هذه البلدان كل أشكال الانتهاكات والتجاوزات والدعوات المُنافِقة واستدراج التحالف مع إسرائيل، بوصفها القوة العسكرية المؤهِّلة لحماية التفتيت وتوفير الأمن والاستقرار للمُفتّتين والنهّابين والجُبناء ودولهم الضئيلة المُقبلة إن قامت أو استقرَّت.
تظهر هذه الشناعات وكأنها قد سقطت لتوّها من مقدمة إبن خلدون وبالتالي تبيّن إلى أيّ مدى ما زلنا دولاً وبلداناً محكومة بقواعد الدول والبلدان التي عاصرها أو اختبر سيرها بواسطة التاريخ والمؤرّخين، وتفصح أيضاً عن مدى حاجتنا للخروج من هذه الصيرورة إلى نموذج آخر أكثر حصانة ووعياً وثقة بقواه الحيَّة وبقدرته استناداً إلى وسائل العصر وتقنياته وقواعد العيش فيه.
ليست خلاصات إبن خلدون قدَراً محتوماً على أهميتها وعلى انطوائها على تفاسير لما عشناه ونعيشه بأثر من “الربيع العربي”. ذلك أن الثقافة السياسية المُعاصِرة وخلاصة تطوّر المجتمعات والدول خلال القرون الستة الماضية، أتاحت وتتيح مُجابهة ظواهر الخِداع والنِفاق وإثارة الفتن وإشاعة الحروب واللجوء إلى تحكيم العقل لتجنّب الفوضى وسائر المخاطر .
ثمة عناصر أساسية في ما يُمكن تسميته بمشروع تحصين المجتمعات العربية وتوفير حمايتها الذاتية من خرافات وأكاذيب ونفاق وجرائم “ربيع” آخر ، وأشدّد في هذا المقام المحدود على واحد من أبرزها وأقصد به “التعبير الحر” ، فالمجتعات التي تحكمها قواعد الصمت والخوف والريبة هي الأضعف والأكثر استعداداً للاندفاع نحو الهاوية متوهِّمة أنها خشبة الخلاص، ولعلَّ هذا ما عناه جورج واشنطن بقوله “… إذا قدِّر لنا أن نلتزم الصمت والخرس يمكن أن نُؤخذ إلى المسلخ ونُذبَح كالخرفان “.
وفي أصل التعبير الحر تكمن الحرية الشاملة التي توازي الحياة والقوّة والقدرة على اجتراح المُعجزات، ولنا في أسطورة عنترة مثال مُتداوَل حين هجمت قبيلة على أهله في عبس ودعاه والده إلى القتال فأجابه” العبد لا يُقاتِل يا أبي بل يُحسِن الحلاب والصرّ” فردّ أبوه ” كرّ يا عنترة فأنت حر” ، وتفيد الأسطورة أن حريته كانت في أساس قتاله “الملحمي” الذي أنقذ قبيلته.
إن مجتمعات مُستعبَدة لا تُجيد إلا “الصرّ والحلاب” قد تُساق “إلى الذبح” بحسب جورج واشنطن، وهي عُرضة لكل أنواع المخاطر ومن بينها خطر النِفاق الذي لايمكن دفعه إلا بالوعي، وشرطه التعبير الحرّ وتراكُم المعرفة وانتشار العلوم وامتلاك القدرة على التمييز بين الشائعة والحقيقة والكذب والصواب.
وبما إننا نستورد من الغرب كل ما نحتاج إليه، فحريّ بنا أن نستورد المُفيد والحاسِم في تكوين وعينا. ففي الغرب تُناقَش القضايا الوطنية الكبيرة من طرف العارفين والعالمين وكل صاحب رأي، وتُعرَض الآراء والأقوال والأفكار في وسائل التعبير المختلفة، ويدور جدل حولها ومنها يستنتج الحاكم خلاصة ويبني عليها قرارته … ما أحوجنا إلى حكّام مُتنوّرين يعتمدون هذه السيرورة فينتصرون وننتصر معهم على كل صعيد وفي كل حقل ونتجنّب معاً نِفاق “ربيع عربي” أدمانا وما انفكّ يُدمينا.