غزة قطاع الأحزان وسجن الأرواح والأبدان
بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي
ليس كمثلها سجنٌ ولا معتقل، ولا مثيل لها في التاريخ حصارٌ ولا حبسٌ، فقد باتت في التاريخ مثلاً وفي العالمين قصةً وحكايةً، وعبرةً وعظةً ورواية، يرويها سكانها ويسرد قصتها جيرانها، ويتحدث عن آلامها أهلها وإخوانها، ويئن من هول الفاجعة سكانها، ومن عمق الأزمة أبناؤها، ويشقى السامعون من مآسيها، وغدت بين الشعوب معروفة ولدى الدول والحكومات معلومة، بأنها السجن الكبير والمعتقل الواسع، الذي لا يسمح لأحدٍ بالدخول إليها ولو كان من أبنائها، ينتظر على أبوابها، أو يسجن في أقبيةِ المطارات منتظراً فتح معبرها، ويكون سعيداً بدخولها ولو كان السبيل إلى العودة إليها ترحيلاً مهيناً، أو سفراً قاسياً صعباً وعراً، كما لا يسمح لأبنائها بالمغادرة ولو كانوا مرضى أو طلبة، أو زواراً إليها وفدوا أو متضامنين معها وصلوا.
قطاع غزة مثال الجريمة الدولية، ونموذج المعايير الظالمة والمفاهيم الفاسدة، وهي أوضح دليلٍ على الشعارات الكاذبة والمبادئ الوهمية والمُثل الشكلية، التي لا تقيم وزناً للعدل، ولا تعير القيم الإنسانية اهتماماً، ولا تهمها الحقوق ولا تعنيها الخروق، ولا تحرك ضمائرها الانتهاكات، ولا تثير غضبها الاعتداءات، إذ يفتخر بهذه الجريمة مرتكبوها، ويباهي بها صنَّاعُها، ويتعاون في تنفيذها أطرافها، ويتفرج عليها الأقوياء، ويسكت عنها مدعوا السلام وحراس العدل، ويشهد بعدالتها المشرعون الدوليون وصناع القانون، الذين ينافقون الظالم، ويغضون الطرف عن المعتدي القاتل، ولا يغضبون من المحاصرين المعذبين، ولا يغارون على المرأة الضعيفة والرجل العجوز أو الطفل الصغير، ولا يحرك ضمائرهم الدماء التي تسيل أو الأرواح التي تزهق وتقتل.
ضحايا قطاع غزة أشكالٌ وألوانٌ، وأنواعٌ وأصنافٌ، فمنهم الشهداءُ والجرحى، والمعتقلون والأسرى، والمعاقون والمرضى، والمشوهون والحزنى، ومنهم أصحاب البيوت المدمرة والمحال المهدمة، والتجارة المعطلة والأعمال المتوقفة والمشاريع المجمدة، والعمال العاطلون والفقراء المهمشون والمساكين المعدمون، والطلاب المحرمون من استكمال دراستهم، والمحاصرون الممنوعون من السفر، والمهددة إقامتهم والضائعة في التعليم فرصتهم، والساعون إلى العلاج والاستشفاء بعد تعذره في غزة واستحالته وفق ظروفه وتجهيزاته، ومنهم المشتتون في الأرض، فلا قطاع يجمعهم ولا شتات يجمع شملهم ويقرب بينهم، ومنهم المرضى المزمنون، والمدمنون اليائسون، والخائفون الحذرون، والقلقون المهمومون، والمجرمون بدافع الحاجة، والمنحرفون بسبب الفاقة، والبائسون لقلة الأمل وبعد الرجاء، وغيرهم كثير ممن يجتمعون على الحزن، ويلتقون على المحنة، وتوحد بينهم المصيبة، ويجمع بينهم الألم والضيق والمعاناة، حيث لا فرج ينتظرونه، ولا أمل يرتقبونه.
لا عيب في حصارٍ يفرضه العدو، ويطبقه المحتل، ويتشدد فيه فرضه الغاصب، فهذه هي طبيعة الأعداء وديدن الخصوم منذ فجر التاريخ، وهو ما اعتادت عليه الشعوب وسار على منواله المحتلون الغاصبون، وقد اعتاد الشعب الفلسطيني على ظلم المحتلين الإسرائيليين، وتعرف على بغيهم، ولكن صبر على اعتداءاتهم، وصمد في مواجهتهم، وما كان ينتظر منهم رحمةً أو صفحاً، ولا رأفةً وعفواً، فهذا عدوٌ مشهودٌ له في التاريخ وبين الأمم أنه دمويٌ قاتل، ومعتدي باغي، يغدر في الحرب، ويفجر في الخصام، ويخون في العهد، وينكث في الوعد، وينقلب على الاتفاق، ولا تعنيه حقوق الآخرين ولا تهمه شجونهم، بل غاية ما يعنيه مصالحه، وأشد ما تحركه غرائزه، وعلى هذا مضى في قطاع غزة قتلاً واعتقالاً، وقصفاً وتدميراً، وحصاراً وتضييقاً، فكان هو سبب كل محنةٍ، وأساس كل مصيبةٍ، وعنوان كل نكبةٍ ونكسةٍ.
أما ما يوجع النفس ويدمي القلب ويحزن الفلسطينيين جميعاً ويؤلمهم، ويقلقهم ويخيفهم، فإنه حصار العرب وظلم الإخوان والأشقاء، وقسوة قلوب ذوي القربى والرحم، الذين يشتركون معنا في الدين واللغة، والأرض والتاريخ والجوار، ولكنهم يقسون علينا كعدو، ويعاقبوننا كخصمٍ، ويحاصروننا بلا رحمةٍ، ويعاملوننا بلا رأفةٍ ولا شفقةٍ، بل يمتنعون عن نجدة أبناء قطاع غزة أو نصرتهم، ويغلقون الأبواب في وجوههم، فلا يسمحون لهم بدخول بلدانهم سياحةً أو عملاً، ودراسةً أو إقامةً، رغم أنهم في العمل مهرة، وفي الدراسة أذكياء ومتفوقين، يحفظون ويتميزون، ويتقدمون غيرهم تفوقاً وإبداعاً، وعطاءً وإنتاجاً، لكنهم يحرمون لجنسيتهم، ويعاقبون على غزيتهم، ويطردون لعصبيتهم لفلسطين وحبهم لقطاع غزة.
لكننا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نسكت على دور القيادة الفلسطينية، سلطتها وفصائلها، وحكومتها وأجهزتها الأمنية، وتنظيماتها وأحزابها، فهم جميعاً شركاءٌ في معاناة أهل غزة وحصارهم، ولهم سهمٌ قذرٌ في معاناتهم وطول ليلهم، ويشتركون وإياهم في قهرهم وإذلالهم، وفي محاولة تجويعهم وحرمانهم، فهم يظلمون شعبهم ويقحمونه رغماً عنه في معاركهم البينية وحساباتهم الداخلية، ويجبرونه على دفع ضريبة اختلافهم وثمن صراعاتهم، ولا يبالون بحجم ما يلاقي بسبب أخطائهم ونتيجة تناقضاتهم، في الوقت الذي ينعمون فيه ويشقى شعبهم، ويزدادون ثراءً ويرتكس أهلهم في حمأة الفقر وأتون الحرب والقتال.
لكم الله يا أهل غزة الأباة، أيها المستضعفون الأبرياء، المظلومون الشرفاء، الصادقون الأنقياء، يا صناع النصر في زمن الهزائم، وأبطال العزة في عالم الحمائم، من أين تتلقون السهام وماذا تفعل بكم، وكيف تصيبكم المحن وتنزل عليكم المصائب، وكيف تتمكنون من مواصلة العيش بين أسوار قطاعكم العالية وخلف أسلاكه الشائكة، والعدو يحيط بكم من كل مكان، يفتك بكم وينهش لحكم وأنتم أحياءٌ تئنون، وجرحى تعانون، ولا من يسمع صراخكم، ويصغي إلى ندائكم، ويلبي دعواتكم، ويكون إلى جنبكم في محنتكم، فما لكم يا أهل غزة غير الله سبحانه وتعالى سنداً وعوناً، ورجاءً وأملاً، فإليه وحده تلجأون ومنه ترجون وفيه تأملون، وهو سبحانه وتعالى سيكون معكم وعداً، وسيقف إلى جانبكم عهداً، وسيكتب لكم النصر على عدوكم بأيديكم، ويومئذٍ ستفرحون بنصر الله الذي ينصر به من عباده من يشاء.