الموقف الأميركي من انقلاب الرياض
شهارة نت – وكالات :
توصيف ما جرى بأنه “انقلاب” في رأس السلطة وبنيتها التقليدية أضحى مسلماَ به، لا سيما وأن المتضررين هم كبار الأمراء والأثرياء والإعلاميين والأجهزة العسكرية والأمنية، أعمدة النفوذ السعودي لحين ليلة السكاكين…
فابن سلمان ركز مفاصل القوة العسكرية بين يديه وتهميش البنى الأخرى من “حرس وطني” ووزارة الداخلية والاستخبارات. من الطبيعي أن يلجأ الطرف المتضرر لاستعادة هيبته مما يمهد الأرضية الموضوعية لاصطفافات جديدة يجمعها العداء لإبن سلمان والقضاء عليه.
برزت مسألة المصير الغامض لرئيس الوزراء اللبناني بعد توجهه للرياض، بطلب منها، الى صدارة الاحداث والاهتمامات، واكبها اعتقال ولي العهد السعودي لمجموعة كبيرة من الأمراء والأثرياء ومالكي وسائل الإعلام بل وبعض رجالات الدين تحت واجهة “محاربة الفساد.” بيد أن التدقيق في آليات المعالجة الأميركية لما جرى تكشف عن جملة قضايا جوهرها العلاقة الوثيقة التي نسجها الرئيس ترامب مع لعاهل السعودي ونجله، وما ترتب عليها من تعهدات باستمرار ضخ الأموال من السعودية باتجاه أميركا.
بعض ردود الأفعال الأميركية حول تصريحات وزير الدولة السعودي ثامر السبهان الخاصة بلبنان، في الآونة الأخيرة وتهديده بشن حرب عليه، متقلّبة نظراً لما يحتله لبنان من مكانة جيوسياسية في القرار الأميركي.
أحد ضباط الاستخبارات الأميركية السابق، دون بيكون، أعرب عن قلقه من “التحولات الجيوسياسية” في المنطقة، والتي “تسير بعكس ما تشتهيه الرياض (تصريحات) السبهان تشي بأن أعمالاً سرية أنجزت ستستهدف حزب الله في لبنان.” (الأول من الشهر الجاري).
وأضاف أن أهمية ومركزية “إيران وحزب الله تضاعفت (اقليمياً) وأدت لخسارة إضافية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بدءاً بالعراق والآن في سوريا ” ومضى موضحاً أن “الحرب آتية إلى لبنان،” ورأس حربتها سيكون “التنظيم الجديد للقاعدة بعد تهيئته كتنظيم معتدل.”
بشأن كيفية تعاطي المواقف الأميركية على الانقلاب، بل تمهيدها لما جرى من اعتقالات ومصادرة ثروات ومقتل أحد الأمراء، منصور بن مقرن، بإسقاط طائرته المروحية بصاروخ حربي من مقاتلة سعودية.
أرسى الصحافي الأميركي المخضرم في واشنطن بوست والمقرب من دوائر صنع القرار السياسي، ديفيد أغناطيوس، أرسى عناصر الرواية المتداولة بالقول إن الأمير محمد بن سلمان “يقوم بعمل قوي جدا ومحفوف بالمخاطر فهو يفكك نظام حكم تقليدي، لكنه متواصل. لقد خرج الأمير الشاب بعيداً عن تقاليد الحكم السعودي …” (7 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري). واستطرد في تبرير دوافعه مؤكداً أن “الفساد في السعودية حقيقة واقعية ويبدو أن ابن سلمان سيسعى لكسب شعبيته من خلال استهداف كبار الأثرياء.”
الصحيفة الأكبر في اميركا نيويورك تايمز، ذات النفوذ البارز، اصطفت لجانب بن سلمان أيضاَ، 7 تشرين الثاني/نوفمبر، لتبرير “حملة تطهير الفساد فالاختلاس والسرقات متفشية لن يوقفها إلا اجراء قريب من التغيير الثوري”
على الشاطيء الأطلسي المقابل، اعتبرت الصحيفة البريطانية ذي غارديان أن ما يجري في السعودية هو بمثابة “ثورة.” (7 تشرين الثاني/نوفمبر).
وكالة بلومبيرغ للأنباء، 25 نيسان/أبريل 2016، أشادت بالأمير محمد بن سلمان وقدرته على مواصلة “العمل المضني لستة عشر ساعة يومياً” والذي جاء بالتطابق مع وصف المعلق الشهير في صحيفة نيويورك تايمز، توماس فريدمان، قائلاً “أمضيت أمسية مع محمد بن سلمان في مكتبه، وقد أتعبني برشقات طاقته النارية المتقطعة.” (20 تشرين الثاني/نوفمبر 2015).
أنصار السعودية في وسائل الإعلام الأميركية، المقروءة والمرئية، اتخذوا قضية الفساد كمنبر للتدليل على “عصرية” الأمير الشاب ونزوعه للإصلاح وتجاوبه مع ما تمثله ظاهرة الفساد الملازمة للتخمة المالية كأكبر هاجس بين المواطنين.
الموقف الأميركي الرسمي تفادى الاشارة لابن سلمان، سلباً أو ايجاباً، لحين مغيب يوم الخميس، 9 تشرين الثاني/ نوفمبر. الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية، هذر ناويرت، اكتفت بسردية لقاء القائم بالأعمال الأميركي في الرياض، كريس هينزل، بسعد الحريري رافضة توضيح مكان اللقاء وأحالت الاستفسارات التفصيلية الى “الحكومة السعودية ومكتب السيد الحريري.”
في العاشر من الشهر الجاري، أصدر وزير الخارجية الأميركية ريكس تيلرسون بياناً يشدد فيه على “تأييد أميركا لاستقلال لبنان واحترام رئيس حكومته سعد الحريري،” ويحذر من تحويل “لبنان إلى ساحة حرب بالوكالة،” مما اعتبر بأنه صيغة ديبلوماسية لمطالبة بن سلمان إنهاء الأزمة الناجمة عن احتجازه الحريري.
الرئيس دونالد ترامب أثنى على الإجراءات التي قام بها بن سلمان كمؤشر “يستهدف الفساد .. وباء استنزف موارد البلاد لسنوات.” كما حث ولي العهد السعودي الاعتماد على أسواق الأسهم الأميركية في نيويورك عند إطلاقه بيع أسهم شركة أرامكو العملاقة.
فإحدى ركائز خطة ابن سلمان التنموية، 2030، تستدعي بيع جزء من أصول شركة أرامكو واكتتابها في أسواق الأسهم العالمية لتوفير سيولة مالية عاجلة. الرئيس ترامب حرص على دعوة الأمير الشاب لطرح الاكتتاب في سوق بورصات نيويورك، بيد أن قانون “جاستا” المسلط على السعودية على خلفية المتضررين من هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 يحول دون المضي قدماً، مما حدا بالحكومة البريطانية تقديم “قرض قيمته 2 مليار دولار،” لتسهيل دخول أرامكو سوق الأسهم البريطانية (فاينانشال تايمز 9 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري).
المفاصل النافذة في القرار الأميركي تبنت تقييم جهاز المخابرات الألمانية، بي أن دي، للأمير الشاب باعتباره “مقامر متهور يحيط نفسه بفائض من القوة.” لكن هذا لم يحول دون التعامل المباشر معه نظراً للعلاقة الخاصة التي أضحت تربطه بالرئيس ترامب وأفراد عائلته، لا سيما في تشاطر رؤاهما في العداء الصارخ ضد إيران.
منذ بروز محمد بن سلمان، في ظل والده ومن ثم تجاوزه، اعتقد أن باستطاعة بلاده تسخير علاقاتها التاريخية مع الولايات المتحدة لتثمر توكيلها دوراً أكبر في الملفات الإقليمية، وتمضي في وضع قدراتها العسكرية تحت تصرف الاستراتيجية الأميركية.
مراكز الأبحاث الأميركية التي لا تتلقى مساعدات وهبات سعودية اعتبرت مسار الأمير الشاب بأنه “يشكل نقطة انعطاف كبرى في دولة قيد التفكك وتجاوزه للبنية القبلية التقليدية،” في طموحه للانتقال الى مرحلة “المملكة الرابعة”.
توصيف ما جرى بأنه “انقلاب” في رأس السلطة وبنيتها التقليدية أضحى مسلماَ به، لا سيما وأن المتضررين هم كبار الأمراء والأثرياء والإعلاميين والأجهزة العسكرية والأمنية، أعمدة النفوذ السعودي لحين ليلة السكاكين. فابن سلمان ركز مفاصل القوة العسكرية بين يديه وتهميش البنى الأخرى من “حرس وطني” ووزارة الداخلية والاستخبارات. من الطبيعي أن يلجأ الطرف المتضرر لاستعادة هيبته مما يمهد الأرضية الموضوعية لاصطفافات جديدة يجمعها العداء لإبن سلمان والقضاء عليه.
كما أن البعد القبلي الذي “كان” يشكل أبرز أعمدة السلطة وأجهزتها المتخمة من أبناء القبائل والعشائر قد أضحى من بين المتضررين في زمن الأمير الشاب، وهو ينصت لنصائح مستشاريه الأجانب بتقويض البنية القبلية والاعتماد على مستشارين وقوى “محترفة” لحمايته ووضعها على رأس الأجهزة التابعة.
لكن فوز ابن سلمان بالعرش لا يعني بالضرورة أن باستطاعته الحفاظ عليه والاستمرار في الحكم وفق الوصفة المعدة.