غزل من نوع خاص
لم يخطر في بال الرجل الذي تجاوز الخمسين بسبع سنوات ونصف السنة أنه سيقع هكذا دون مقدمات? أسير حب طاغ لا يعرف الرحمة أو الشفقة.. ها هو يسلم ويستسلم من النظرة
الأولى.. يقف حائرا?ٍ مأخوذا?ٍ وكأنه يقرأ الفاتحة على روح الهدوء والاستقرار…?
بكل زهو العشرين ربيعا?ٍ تقف.. ملساء? ميساء? أخاذة بالألباب.. عيناها يا سبحان الله? تزفان العسل بإغراء لا يمكن أن يشبهه أي إغراء.. شفتاها.. كفاها.. شعرها?? لا يستطيع أن يصفها كما يجب .صورتها – هذا ما يبدو له – أحلى من أي وصف أو تعبير..?
حتى أبرع الشعراء? لايستطيع – حسب ظنه – إيفاءها حقها مهما أوتي من مقدرة على الوصف..?
قبل أن يراها ..كان كل شيء يسير كما كان من قبل.. يخرج من البيت.. يودع الزوجة بقبلة صارت مع مرور الزمن باردة لا تمثل أي معنى.. تمد رأسها? ويمد رأسه ?? تلامس شفتاه وجنتيها.. أو جبهتها? أو ما تيسر من خدها.. يطبع قبلة كيفما اتفق? ويمضي.. أحيانا?ٍ تتبعه الزوجة حتى الباب.. يودعها بتلويح من يده.. يضحك بافتعال ممجوج.. تضحك بآلية.. وبعد أن تغلق الباب وراءه? تذهب – كما يعرف تمام المعرفة – إلى المطبخ لتبدأ دورة يوم جديد.. تجلي.. تمسح.. تغسل.. تطبخ.. وفي بعض الأيام الاستثنائية ربما? تمشط شعرها? وتضع بعض الزينة.. لكنها في كل الأحوال? تصل إلى آخر النهار منهكة متعبة? لترمي جسدها مثل الخرقة القديمة على الفراش ..?
يضع خطواته على الرصيف.. يلتقي الوجوه التي أصبح يعرفها حق المعرفة? يتخيل أحيانا?ٍ أنها وجوه آلية? ذات ملامح جامدة… يلقي التحية.. يهز رأسه وكأن رقبته متصلة بنابض كهربائي.. نظراته تستطيع أن تقول الأشياء قبل الوصول إليها.. تستطيع – وهذا ليس سرا?ٍ وطنيا?ٍ أو قوميا?ٍ على كل حال – أن تصف كل صغيرة أو كبيرة? بعد أن طال التحديق في كل شيء? حتى صار آليا?ٍ مع الزمن ..?
لا يدري كم من السنوات مرت وهو يسير في هذه الشوارع والحارات ..كم من السنوات انقضت? وهو يلقي التحيات التي لا تتغير.. المفردات هي هي? بموسيقاها? بنبرة الصوت? بصورة الحروف… صحيح أن كثيرين من الذين يعرفهم قد تغيروا? وتبدلوا? من شباب إلى شيوخ? ومن أطفال إلى شباب.. وهناك من ترك هذه الفانية? ورحل.. لكن حين يدقق في المعنى الحقيقي للأشياء? يرى أن الزمن حبيس لحظة واحدة? تعيد الصور وتكررها إلى ما لا نهاية.. يخرج من جيب السترة علبة السجائر.. يسحب واحدة.. حتى نوع سجائره لم يتغير? ولم يتبدل.. يشعلها.. يأخذ نفسا?ٍ طويلا?ٍ.. يشعر بانضغاط صدره.. يرمي سحبا متواصلة من سعال يكاد يقتله.. يأخذ نفسا?ٍ آخر.. ويسعل مرة أخرى.. في المرة الأخيرة? قال له الطبيب ضاحكا?ٍ:” أنت أقدر الناس على الانتحار.. أهنئك” واصل?ِ التدخين والضحك والسخرية من الحياة.. يذكر كيف نظر يومها في عيني الطبيب… هز رأسه المعلق على رقبة متصلة بنابض كهربائي.. ومضى.. يومها قرر أن يترك التردد على هذا الطبيب.. وفعل.. لماذا يذهب لطبيب كهذا.. وما الفائدة?? حضرة الطبيب يكتب له اسم الدواء? وحضرته لا يشتري الدواء ولا يحزنون.. فقط كان يشعر أن عليه أن يذهب إلى العيادة.. يجلس في غرفة الانتظار مع المرضى.. يراقب نظراتهم وحركاتهم القلقة… يضحك في داخله.. وحين يأتي دوره يدخل إلى غرفة الطبيب بآلية ونوع من المحايدة” هل يسعى حقا?ٍ للانتحار وإنهاء حياته المملة “?… سؤال يضرب في رأسه? ولا يجد له أي جواب…????…
يصل إلى الشركة التي يعمل فيها? يدخل بقرف.. المكاتب لم تتغير منذ سنوات عديدة.. ربما كما يطيب له أن يتصور من مئات الأعوام… … يدخل غرفته? يلقي التحية.. يرد بقية الموظفين بفتور وتثاؤب.. كأن? اليوم هو البارحة.. الأيام متشابهة? متطابقة.. يجلس على الكرسي خلف مكتبه.. يسحب الدرج الكبير ..يخرج بعض المعاملات المؤجلة من اليوم السابق.. يضع توقيعه الكريم على هذه الورقة أو تلك? دون أن يقرأ أي شيء.. لا يهم حسب اعتقاده? لأن كل المعاملات متشابهة… يغلق المصنف.. يرمي المعاملة لتحط بأوراقها على المكتب المجاور.. تتناولها الموظفة.. توقع.. وترميها إلى مكتب آخر.. وهكذا.. الساعات تتثاءب.. الجدران باردة.. قهوة الرجل العجوز الذي يعرفه منذ ألف عام كما يقول? باردة.. كل شيء بادر.. جاف… لا يحمل أي معنى ..?
عندما ينتهي الشهر ..يقف بانضباط ونظام في صف طويل.. الموظفون المحترمون تعودوا الوقوف في مثل هذا الصف الشهري.. يوقعون ويأخذون رواتبهم.. عندها تبدأ دورة الشهر الجديد? لتكون مثل دورة الشهر الذي سبق.. يأخذ بيد ليعطي باليد الأخرى….. كأنه مربوط بسلسلة تدور به إلى ما لانهاية.. يستطيع في كثير من الأحيان? أن يتأخر عند الذهاب إلى العمل.. أن يتسكع في الشوارع إذا شاء.. لكنه – والحق يقال – يفضل أن يدخل الشركة في الثامنة تماما?ٍ.. لأن ذلك يشعره بأهمية الروتين والنظام ..?
في مرة من المرات? وهي مرة يتيمة على كل حال? استدعاه المدير العام إلى غرفته وسأله دون مقدمات أو تمهيد :” ألا تشعر بالملل يا سعيد” ??.. يو