وعد ألف بلفور وبلفور
المسعى البريطاني لاستيلاء الحركة الصهيونية على فلسطين وتشريد الفلسطينيين من أرضهم، هو في سياق وراثة “الرجل المريض” وتقاسم بلدان المنطقة بين الإمبراطوريتين القديمتين الفرنسية والبريطانية. لكن الإمبراطورية الأميركية وريثة “القارة العجوز” تسعى إلى عصرنة ما تقادم من صياغات أجدادها.
قد لا يكون التفكّر بما جرى لفلسطين قبل مئة عام، سهل المنال في مناخ من استمرار تأجج المأساة الفلسطينية المضنية وانفجار المآسي العربية الدامية، لكن ربما تكون العبَر من المآسي الأكثر إفادة لقراءة ماضينا وحاضرنا هي في لحظتي التذكّر والتفكّر. فبريطانيا التي تبرّعت بفلسطين للحركة الصهيونية بإعلان وعد إلى ليونيل دي روتشيلد، لم تكن تحتل فلسطين التي كانت لا تزال تحت سيطرة الدولة العثمانية. كما أن الحركة الصهيونية كانت ترتجي من محمد الخامس (السلطان بين 1909 و1918) وعداً، ومن ألمانيا رعايةً، كما تشير رسالة هرتزيل إلى قيصر ألمانيا بتاريخ 10/3/1988 يحرّضه فيها على يهود بريطانيا الأغنياء الرافضين للصهيونية. ولم تنتقل الحركة الصهيونية إلى المراهنة على بريطانيا إلا بعد دخول السلطنة إلى الحرب العالمية الأولى العام 1915 ضد بريطانيا وأصبحت وراثة الأمبراطورية العثمانية على قاب قوسين أو أدنى.
الدول الأوروبية الصاعدة في ذلك الحين، كانت بريطانيا وفرنسا والدول الألمانية قبل توحيدها. وقد صعدت هذه الدول على حساب الدول الأخرى في أعقاب الحرب العام 1870 التي آلت إلى تفكيك الأمبراطورية النمساوية – الهنغارية وهبوط إيطاليا ورومانيا وتشيكيا وبولندا وغيرها. لكن الصراع الملتهب بين مثلث الدول الصاعدة يؤكد أن الدول الصاعدة لا تتوقف على أبواب حدودها لبناء ذاتها بنفسها كما تحرص الدول الغربية على إشاعة هذه الثقافة السياسية. بل سرعان ما تتجه للتوسّع والصراع على استحواذ المواد الأولية في العالم واحتلال الأسواق وإحكام سيطرتها السياسية والحربية والجيوسياسية لحماية مصالحها.
تنافست دول المثلث الأوروبي فيما بينها على المستعمرات وعلى الممرات البحرية والطرق والإمدادات. فاتجهت بريطانيا إلى الهند في الشرق الأقصى مروراً بالمنطقة العربية – الإسلامية وممتلكات السلطنة، واتجهت فرنسا إلى الهند الصينية وأفريقيا السمراء وقناة السويس وإلى منافسة بريطانيا في المنطقة.
فهذا الصراع على المستعمرات هو الذي أدى إلى الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) حين تمرّدت ألمانيا على تقسيم الحصص بين بريطانيا وفرنسا ومن بينها معاهدة سايكس – بيكو (1916). وهو ما أدّى أيضاً إلى الحرب العالمية الثانية بسبب التمرّد الألماني مرّة أخرى وطموح النازية إلى احتلال أوروبا والعالم.
وفي هذا السياق قد لا تكون فلسطين ضحية الحركة الصهيونية وحدها، بل تكون أساساً كبش فداء عن بلدان المنطقة العربية – الإسلامية ضحية الصراع بين بريطانيا وفرنسا على التوسع في المستعمرات. وقد لا تكون مأساة فلسطين شلال دم دائم إلاّ بمقدار ما تتوهم بلدان المنطقة العربية – الإسلامية أن التخلّي عن فلسطين يتيح لها الوعود العقوبية الأميركية – الأوروبية بالتنمية والأمن والاستقرار.
المفارقة التاريخية المرّة هي أن الوراثة الأميركية للامبراطوريتين، حاولت تذويق الصياغات الاستعمارية القديمة بأشكال عصرية، لكن لتدعيم الأسس الاستعمارية نفسها. فبينما تميّزت السياسة الأميركية بما سمته “إزالة الاستعمار” المباشر لإتاحة المجال “للتنمية الاقتصادية” (التبعية الاقتصادية مدخلا للتبعية السياسية)، بحسب تعبير روزفلت بعد الحرب العالمية الثانية، وفي خضم إعلان استقلال الدول المستعمرَة، جرى إعلان استعمار فلسطين و”استقلال إسرائيل” في اتجاه معاكس لإزالة الاستعمار المباشر.
وعلى الرغم مما تشير إليه الصلة العضوية بين أميركا والدول الغربية من جهة وبين الحركة الصهيونية والجماعات اليهودية من جهة أخرى، إلا أن ما تصبو إليه الاستراتيجية الأميركية في حماية ورعاية إسرائيل هو استخدام إسرائيل قاعدة عسكرية للسيطرة على بلدان المنطقة.
على إثر الحرب العالمية الثانية اندلعت الحرب الباردة بين المعسكريْن المنتصريْن في الحرب. وقد فرضت إسرائيل بالحرب انجرار معظم الدول العربية نحو أميركا والدول الغربية بدعوى الانفتاح والسلام وغيرهما، وهي تفرض أكثر فأكثر المزيد والمزيد من التبعية إلى واشنطن بدعوى تقاطعها مع بعض الدول ضد “التهديد الإيراني”. فشعوب هذه المنطقة هي بحسب العديد من الدراسات الاستراتيجية المرموقة لديها قابلية عالية للتمرد على الظلم والهيمنة خلافاً لكثير من الشعوب الأخرى. ولعل ما يدلّ على هذه القابلية العالية هو خفوت حركات التحرر الوطني وحركات المقاومة في معظم أصقاع الأرض ونموها في المنطقة بشكل حصري تقريباً.
التمرّد قد تسير بموازاته فوضى عارمة وأهوال وأحوال كثيرة من اليأس أحياناً ومن فقدان الثقة بالذات أحياناً أخرى، لكن التمرّد هو تعبير عن حركة دؤوبة بحثاً عن حلول، أو تعبير عن مقاومة كائن حي يقوى من الضربات التي لا تميت.