إقتصاد ما بعد الحرب.. التجربة الألمانية نموذجاً
شهارة نت – تحليل :
عند الحديث عن إعادة الإعمار وعودة الحياة الإقتصادية للبلدان التي مزّقتها الحروب والأزمات، لا يمكننا تجاهل التجارب البشرية في هذا الشأن، ولعل أبرز وأنجح تجربة شهدها العالم هي التجربة الألمانية، أو ما عرف بالمعجزة الإقتصادية الألمانية.
ومع إقتراب انخماد النار وأُفول شبح الحرب عن سوريا والحديث عن أشهر للإنتهاء من التنظيم الأكثر دموية في العالم “داعش”، بدأ التداول في ملف إعادة الإعمار وبناء الإقتصاد السوري من جديد، ولمقاربة هذا الملف مع التجارب العالمية التي نجحت سابقاً كالتجربة الألمانية يجب التوقف عند محطات ونقاط أساسية، سنعرّج عليها توالياً.
فألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية تمكنت من إعادة إعمار البلاد بسرعة فائقة جداً، رافق ذلك نهضة إقتصادية ملفتة، رغم أن البلاد كانت قد دمرت مع جميع بناها التحتية ومقدّراتها الإقتصادية. وفلسفة هذه النهضة الكبرى إعتمدت على نوع من النيوليبرالية القائمة على إقتصاد السوق الإجتماعي، وهنا نلفت إلى أن النمسا حذت حذو ألمانيا إقتصادياً في تلك الحقبة.
وبدأ الألمان مسيرة ثورتهم الإقتصادية بالنهوض بالعملة الألمانية أولاً والتي وصلت حدود اللاقيمة بعد الحرب، فألغوا “الرايخ مارك” وإستبدلوه بـ “المارك الألماني”، أما في النمسا فاستُحدث “الشيلينغ”، وهذا الأمر ساعدهم على تخفيض التضخم الحاصل وتسريع النمو الإقتصادي. كان الأب الروحي لهذه النهضة وزير الإقتصاد آنذاك “لودفيغ إيرهارت” الذي عمل تحت إشراف المستشار الألماني “كونراد أديناور”.
في مرحلة لاحقة أقرّ الألمان والنمساويون سلسلة من الممارسات والتصحيحات العمّالية التي ساهمت هي الأخرى في ازدهار الحركة الإقتصادية.
التجربة الألمانية كانت ملهمة للنمساويين واليابانيين، ولو أراد السوريون أخذها كنموذج، هناك نقاط مفصلية يجب الركون إليها للاقتداء بتلك التجربة بشكل فاعل:
_ الخروج من ظل الإشتراكية أو ما يرتبط فيها إقتصادياً تحت عناوين أخرى، وهنا نذكر أن الاقتصاد الاشتراكي هو ممارسة النظم الإقتصادية القائمة على مبدأ الاشتراكية، أي على الملكية العامة أو ملكية تعاونية مستقلة لوسائل الإنتاج. وهذه الخطوة كانت أساسية في نهضة ألمانيا.
_ القيام بالخطوات المناسبة لتعزيز العملة إما بإستبدالها أو بإقرار حقيبة موسعة من الإصلاحات المصرفية التي تحميها في مقابل السوق الخارجي وتفلت الصرف وقيمة السوق أثناء الحرب. فمثلاً يمكن تعزيزها بمخزون إحتياطي من الذهب في البنك المركزي أو بإلغاء صفر منها وغيره من خطوات.
_ بعد إعادة تشكيل العملة يجب محاولة الإنضواء تحت منظومات مالية موسعة، وهنا نشير إلى أن إنضمام ألمانيا إلى برنامج الإنتعاش الأوروبي (مع الإلتفات إلى ضرورة حفظ سيادة وإستقلال قرار البلاد المالي ومكافحة التبعية) ساعدها كثيراً في حماية مشروعاتها ورؤوس أموالها من الهدر أولاً بإعتبار أن الرقابة ستكون “خارجية-داخلية” مشتركة، وثانياً حماها من أطماع الخارج المتمثل بالعقوبات وبازار الوصاية وما يلف لفيفه. وعملياً في سوريا يمكن ذلك بفتح صناديق إقتصادية مشتركة مع الدول الكبرى الحليفة مثلاً.
_ إعتماد إقتصاد السوق الإجتماعي إلى جانب تعديلات إقتصادية رسمية أخرى:
إقتصاد السوق الإجتماعي يقوم بالجمع بين بعض عناصر السوق الحر والعمل على إقتصاد أكثر مركزية، فيما يكون تدخل القطاع العام أو الدولة بنسب متفاوتة بحسب متطلبات السوق. وبهذا يكون إقتصاد السوق الإجتماعي مرتبطاً بالسوق الحرّة من جهة وبالتعويضات الإجتماعية من جهة أخرى.
إقتصاد السوق الإجتماعي سينتج نقاط إيجابية عدة تساهم في إعادة إعمار سوريا، كالحرية الإقتصادية والتقدم التقني المقرون بالمركزية الإقتصادية، وإرتفاع مستوى العمالة وضبط التغيرات وجعلها محدودة عند الطلب. إلّا أن ذلك لا ينفي ضرورة الإنتباه إلى الوجه السلبي لهذه النقطة والذي يتمثل بإساءة إستخدام حرّية السوق مثلاً.
وهذا النوع من إقتصاديات النهوض سيساعد الدولة على لعب دور قوي في الإشتراك بالقرارات الإقتصادية في سبيل المصلحة العامة، كما ستلعب دوراً في التنظيمات الإجتماعية السياسية والإقتصادية، كما سيكون لها دور أساسي في تنسيق السوق وخلق المنافسة الشريفة ومكافحة الإحتكار المحتمل بعد كل أزمة.
ولهذا النوع من الإقتصاد جانب إجتماعي وشخصي ينمّي الروح الوطنية والمساهمة الفردية في إعادة بناء الوطن وإقتصاده، فالفرد لن يكون فرداً فقط بل سيكون عنصراً فاعلاً في مجتمعه بتحمل مسؤولياته إتجاه نفسه وإتجاه الآخرين، والمسؤولية هذه تتمثل في أنه مساهم بشكل مباشر وسيكون شريك الآخرين في الربح والخسارة، والدولة لن تتدخل إلا عند حالات العجز الكبرى ما يلغي مفهوم التبعية.
_ كان إقتصاد سوريا قبل بدء الأزمة ينمو بشكل ثابت، فوصلت سوريا للإكتفاء الذاتي في العديد من المجالات الزراعية والصناعية، وشكلت السياحة قطاعاً فاعلاً في دعم هذا الإقتصاد، حتى بلغت قيمة الناتج المحلي الإجمالي قبل بداية الأزمة ما يقارب الـ 64 مليار دولار.
لذا فإن أي نهضة جديدة ووفقاً للتجربة الألمانية لا بُد فيها من إعادة إحياء هذه القطاعات الإقتصادية وتفعيل دور العمالة الداخلية فيها، ودعم المستثمرين وإعانة صغار وكبار التجار وأصحاب المصانع. كما من الضروري إستعادة السمعة الطيبة التي تحلت بها هذه القطاعات سابقاً في سبيل إحياء التصدير الخارجي من جديد. فهذا أيضاً سيساهم في إدخال إحتياطي من العملات الأجنبية إلى جانب النهوض بالإقتصاد الداخلي، دائماً كما علمتنا التجربة الألمانية الرائدة.