شمال العراق وجنوب السودان …انفصال أم انتحار؟
بقلم / محمود الهاشمي
هناك مشتركات كثيرة بين دولة جنوب السودان وكردستان، حيث ان تاريخا طويلا من الحروب مع الحكومات المتعاقبة، طلبا للاستقلال، انتج آلافا من الضحايا، وادى الى نزوح الآلاف ايضا، في وقت اثرت تلك المواجهات في انهاك اقتصاد البلدين (العراق والسودان)..
واذا كان جنوب السودان الذي حصل على استقلاله بعد سلسلة من الاجراءات منها الحكم الذاتي ثم الاستفتاء بعدها باشهر الاستقلال، فان كردستان العراق مازال في مرحلة الاستفتاء. المشترك الآخر للمنطقتين هو انهما دون منفذ مائي فكلاهما محاصر بدول بعضها يملك سواحل واخرى لاتملك مثل اثيوبيا. وفيهما مصادر نفطية، وان كانت في جنوب السودان أقل (150)الف برميل يوميا يقضي ان تضخ بانبوب طوله (1600) كم ليصل الى البحر الاحمر عبر الاراضي السودانية، وقد توقف لان السودان تطالب برفع الرسوم، وبات لايسد سعر استخراجه !!
كلا المنطقتين، قادتا حركات تمرد ضد حكوماتهم الام بدعوى (التهميش) وعدم تقسيم خيرات البلد بصورة متساوية، وان السلطة بيد العرب، واذا ما اصبح قرنق(قائد حركة التمرد) نائبا للرئيس جعفر النميري في السودان فقد اصبح جلال طالباني ومن بعده معصوم رئيسا لدولة العراق !!
ومثلما كانت اسرائيل الدولة الاولى في تشجيع استقلال جنوب السودان كانت اسرائيل الدولة الاولى (والوحيدة) في دعم استفتاء كردستان.
ماهو مشترك ايضا، ان صراعا سياسيا مناطقيا وحزبيا يحكم جمهورية جنوب السودان بين الزعيمين سالفا كير وبين ورياك مشار، اشتد بينها الخلاف بعد الاستقلال بأشهر وانتهى بحرب اهلية خلفت الآلاف من الضحايا ونزوح مليوني مواطن، واضطرار الامم المتحدة الى اقتراح ارسال قوات دولية لفض النزاع، أو قوات من الاتحاد الافريقي!!
كذلك شهد شمال العراق حروبا بين الحزبين المتنافسين (الديمقراطي والاتحاد الكردستانيين) وجرت معارك وحروب امتدت منذ عام 1963م وحتى عام 1996م بينهما!!
حتى في عدد النفوس فان الاعداد متقاربة، فإن جنوب السودان عددهم ثمانية ملايين، وهؤلاء اقل بقليل. وبشأن الاستفتاء فان نسبة المشاركة كانت في جنوب السودان 98% وفي شمال العراق 92% !!
اما الفرق بينهما، فان دولا عديدة دعمت استقلال جنوب السودان بينما لم تدعم كردستان سوى اسرائيل. وان الواقع العمراني والحضاري في كردستان أفضل بكثير.
لنتوقف عند اسباب الدعم الصهيوني لجنوب السودان. حيث تحدث مستشار نتنياهو للشؤون العسكرية، عميدرور عن الرؤى السياسية والإستراتيجية المشتركة التي ترسخت على مدى عقدين ونيّف من التعاون الذي كان يتم بعيدا عن الأضواء والإشهار مع الحركة الشعبية لتحرير جنوب السودان. وذهب إلى أكثر من ذلك عندما قال: “ستكون دولة الجنوب حليفا إستراتيجيا في مواجهة الأعداء والمخاطر والتهديدات التي تواجهها كل من إسرائيل ودولة الجنوب، بل إنهما ستكونان حليفتين طبيعيتين نظرا لقوة الوشائج التي تربط بينهما السياسية والثقافية والتاريخية بالإضافة إلى الوشائج الأخرى”.
هذه الاقوال لم يطبق منها شيء فبعد التحريض المتواصل لاسرائيل لاهالي الجنوب على الاستقلال، لم تدفع درهما واحدا، وكل الذي فعلته، حزمة من المساعدات التي أزيح الستار عنها تقديم أسلحة ووسائل قتال متطورة من صنع إسرائيلي، وتولي قيادات عسكرية إسرائيلية لإعادة بناء جيش الدولة الوليدة على نفس الأسس التي بني عليها الجيش الإسرائيلي، وكذلك نسج العقيدة العسكرية الإسرائيلية وتبنيها من قبل جيش جنوب السودان وهي عقيدة “عدوانية اقتحامية”. وقد استفادت الاطراف المتصارعة في الجنوب من هذه الاسلحة في القتال فيما بينها !!
في الجانب الاخر، فان علاقة اسرائيل بأقليم كردستان، بدأت مع اهتمام الكيان الصهيوني ودعمه للحركات الكردية منذ منتصف القرن الماضي مع الملا مصطفى البارزاني، لكنه لم يكن شيئاً خاصاً بالأكراد بقدر ما كان ينبع عن رؤية “إٍسرائيلية” للتعامل مع “الأقليات” في العالم العربي والمنطقة عموماً عبر تفتيت المنطقة وإضعاف الدول العربية الكبيرة والمركزية، بحيث تبقى دولة الاحتلال هي الأقوى. وكذلك تشجيع الأقليات على تأسيس دول/دويلات لها بحيث تبقى أسباب الصراع البينية في العالم العربي -الإسلامي على المدى البعيد، وتفعيل صراعات صفرية على أسس مذهبية وقومية تستنزف جميع الأطراف المتورطة دون نتيجة.
والهدف الاكبر ايضا، من خلف الدعم الصهيوني لمشروع استقلال كردستان العراق (وسوريا لاحقاً) إضافة لما سبق، وهو حصار إيران وتركيا والفصل بينهما وبين العالم العربي جغرافياً وسياسياً، ومضاعفة إمكانيات التجسس عليهما والتعاون ضدهما، ومحاولات توتير الملفات الداخلية وخصوصاً الملف الكردي في كليهما ما أمكن ذلك.
حتى هذه اللحظة لم نتعرف على نوع الدعم الذي يمكن ان تقدمه اسرائيل الى اقليم كردستان، لكنها في ظل الدعوة الى الاستفتاء فقد جاء في عدة أشكال منها الدعم الإعلامي وعبر إرسال وفود تضامن إلى أربيل وغيرها من مناطق الإقليم، وعبر فعاليات كثيرة رفع فيها علم الكيان جنباً إلى جنب مع علم كردستان العراق. لكن الموقف الأبرز كان على لسان النائب السابق لرئيس هيئة أركان الجيش الصهيوني “يائير غولان” الذي دعا لدعم انفصال الإقليم كمصلحة “إسرائيلية” قبل أن يؤكد نتنياهو نفس المعنى. ناهيك عن المنظمات الصهيونية التي باتت تنتشر في اربيل، وكيف تحولت الى مناطق نفوذ للصهيونية، وسط تنسيق مع قادة الاقليم وقواهم الامنية، والا ما الذي دفع احد قادة البيشمركة بالقول (انا اتشرف باسرائيل).
هذه تقريبا اهم المشتركات بين جنوب السودان وشمال العراق، والسؤال الاهم:-هل استفادت كلا (المنطقتين ) من عملية الانفصال التي دعت لها؟
الجواب كلا، حتى ان أغلب شعب جنوب السودان قد ندم على فكرة الاستقلال، وهم اللذين صوتوا بكلمة (نعم) للاستفتاء والاستقلال وبنسبة 98%، ففي عام 2016 م أكدت المنظمات الدولية أن جنوب السودان تعتبر اكثر دولة (هشة) في العالم. بحيث ان الشركات النفطية فرت عنهم، وتركت ممتلكاتها
كما ان المعارك والحروب الاهلية قد تضاعفت وتواصلت الحرب مع الحكومة الاتحادية وتحول قادتها من رجال سياسة الى قادة حرب والضحية هو الشعب وخاصة فقراءه، اما امريكا التي دعمتهم، فراح ممثلهم في الجنوب السوداني، جورج كلوني، يجمع معلومات عن القيادات السياسية والعسكرية ويتهمهم بانهم قد اثروا على حساب الشعب ويجب ان يحالوا للمحاكم. بالجانب الاخر فان الاقليم وبعد اصراره على الاستقلال وتعرضه الى حزمة عقوبات وشعوره بجدية الاجراءات الحكومية ودول الجوار راح يبحث عن الحوار من اجل ان لاينقض الشعب على المسؤولين الذين أكرهوا الناس على الاستفتاء دون حسابات تذكر واستعدادات لمواجهة التحديات التي يتعرض لها الاقليم.
ورغم كل المقارنات التي اوردناها، فأن فرصة شمال العراق، هي الاضعف بين كل المناطق (الحالمة بالاستقلال) بما في ذلك الصحراء الغربية، فبالرغم من التشابه بين حال كردستان العراق وحال جنوب السودان، تبدو حال كردستان أصعب وأسوأ من حال جنوب السودان، وبالتأكيد أصعب وأسوأ من الصحراء الغربية ضمناً، فالذي يختلف جذرياً بين كردستان وتجربتي الصحراء الغربية وجنوب السودان، هو حجم الاستعداد للإعتراف بالدولة الجديدة وإقامةعلاقات تجارية ودبلوماسية معها، بصورة عامة، وعلاقتها بدول الجوار وموقفها ودرجة توترها واستنفارها ضد قيام دولة الانفصال خصوصاً، ومكانة هذه الدول وشبكة تأثيرها والمجال الرادع الذي تنشئه مواقفها بوجه فرص الانفتاح على دولة الانفصال. فالسودان كمعني أول ومعه منظمة الوحدة الإفريقية كمعني إقليمي، ومن خلفهما الأمم المتحدة، كانوا في طليعة المرحبين بدولة الانفصال الجنوبية، وموريتانيا والجزائر الجارين الأقرب لجمهورية الصحراء كانا الداعمين الرئيسيين لقيام دولة الانفصال، ومن خلفهما منظمة الوحدة الإفريقية، كمعني إقليمي، وأكثر من ثمانين دولة بادرت للاعتراف فوراً بالدولة الناشئة، بينما في حال كردستان نحن أمام حدود مغلقة لأربع دول مهمة وفاعلة وحساسة ووازنة، هي تركيا وسوريا والعراق وإيران، تعارض بقوة وجودياً قيام دولة الانفصال، ومن خلفها لا رابطة إقليمية ولا إطار دولي سيجرؤ على التعامل مع دولة الانفصال، وحجم الحصار الذي يفرضه الجوار خانق ووجودي لكيانها.اذن فالحركة الانفصالية الكردية ستبقى مجرد مشروع انتحار سياسي لاغير.