دقت ساعة المساواة .. لا تراجع
أضحى الشعب اليمني كنسر بدأ في التماثل للشفاء ونفض عنه الغبار الذي سببه فساد العقود السابقة? كما أن يشبه كمن ي?ْبعث من الحطام الذي آل إليه في العقود الطويلة الماضية على يد نظام سياسي واجتماعي قاهر وقهري? ويتقدم على مسرح التاريخ طامحا?ٍ إلى امتلاك مصيره وصنع قراره بيده بعد أن حبط أمله في ايجاد قدوة واحدة يمكن أن يثق بها أوإصلاحات جادة أو حتى حوار ملتزم. ويعني امتلاك المصير استعادة الحق الأصلي في التصرف والسيادة التي نازعته عليها? قبل أن تنتزعها منها? النخبة الحاكمة الفاسدة في سياق تاريخي استثنائي كسرت فيه إرادة الشعب اليمني? ونجحت فيه قبلها أندونيسيا والفلبين وتونس ومصر في استتباع النخب الحاكمة واستخدام أفضلها للعمل على أجندتها الخاصة.
هذا أيضا هو ما حدث في بعض دول في أوروبا الشرقية في بداية تسعينيات القرن الماضي وفي أميركا اللاتينية وبعض الدول الأفريقية قبل ذلك في السبعينيات وأصبحت اقتصاداتها اليوم قوة يحسب لها احسابها. لكنها ليست كذلك فحسب? ولا تقتصر نتائج ثوراتها على عملية إطلاق الحريات لشعب انتزعت منه.. إنها الثورة العربية الأولى التي قامت بسبب انعدام لقمة الخبز وايجاد تنمية اجتماعية حقيقية. انها أكثر شبها بالثورة الفرنسية التي لم تكن أيضا مجرد إطلاق للحريات أو تغيير نظام سياسي دكتاتوري بنظام ديمقراطي آخر? وإنما كانت ضد حاكم واحد استهتر بأمته المليونية ونصحهم بأكل الحلويات إن لم يجدوا الخبز و أصبح التخلص منه إطارا لولادة جلد جديد لأمة انبعثت من هشيم تاريخ رجال وطوائف وقبائل وطبقات متنابذة ينكر بعضها بعضا.
ومن حيث هي كذلك? كانت في الوقت نفسه ثورة نفسية وأخلاقية وفكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية تستبطن بالضرورة انقلابا جيوستراتيجيا أيضا. فما حدث في هذه البلاد في ثلث القرن الماضي على يد النخبة العائلية والفئوية التي استلمت السلطة في ظروف تاريخية وبوسائل استثنائية? هو الرجوع بالأمة مثل غيرها في بعض الأقطار العربية الى ما قبل ستينات القرن الماضي وإستعادة الملكية المطلقة والتعسفية فيها كما لم يحصل في أي منطقة من مناطق العالم الأخرى? فوضعت الحالة اليمنية بالفعل في حالة شاذة معاكسة لاتجاه حركة التاريخ.
هي إذن في خلاصة الأمر ثورة سياسية عميقة أعادت تشكيل هذا الشعب الصابر الذي صار خلال العقود الماضية في حكم الرعايا والأتباع والموالي المملوكين للسيد والمنقسمين والمتنازعين والمهمشين بل والموقع بين بعضهم البعض واليائسين من مصيرهم ومستقبلهم? والمحتقرين لأنفسهم والمنخلعين عن ذواتهم بسبب عمق المهانة والبطالة والإحباط? وصهرها في أتون الحركة الاحتجاجية والثورة المستمرة على أسياده الزائفين? وتحول إلى أمة محترمة يوحدها التفاهم والعمل المشترك والأمل الجامع في أن يكون لها قوتها الخاصة في تحكم خادمها (الحاكم) بزمام أمورها وثرواتها.
ففي هذه الثورة ومن خلالها اكتشفت هذه الأمة التي طالما د?ْفعت إلى الشك في نفسها وفي قيمها وقيمتها? اكتشفت حقيقة وحدتها وقدراتها ووقع?ت دون أن يستدعي ذلك أي مفاوضات مسبقة أو حوارات سابقة كما اعتادت? على عقدها الوطني الجديد: عهد الولاء للأمة والكرامة والحرية? تماما كما كانت الثورة الفرنسية عام 1789 قد أسست لعهد الديمقراطية الغربية الجديد بشعارات تحولت في ما بعد إلى نموذج لبرنامج ثورات جميع الشعوب الغربية وحتى الشرقية الديمقراطية تلخصت في قيم “الحرية والمساواة والإخاء”.
وحيث عمل الحاكم على توحيد الأرض فقط? فلقد نجح الشعب بأسره وبدون تخطيط مسبق على توحيد قلبه وعقله والانصهار الحقيقي لأعضاء جسده الذي كان ملونا?ٍ ومثخنا في أغلبه بجراح الفرقة والجوع والمهانة فلقد أصبحت هذه الثورة بالتأكيد ثورة المساواة وإلغاء ثقافة تقديس من ينبغي أن يكون هو خادمهم كما وصفها العديد من المحللين. لقد جسد هذا الشعب الصابر إرادته وما تعنيه الديمقراطية من تجاوز نظام السلطة المطلقة أو أشكال الحكم الدكتاتورية? وإقامة نظم سياسية تقوم على فعالية مشاركة جميع الأفراد في القرارات العامة عبر ممثلين ينتخبونهم بحرية حقيقية.
وأقصد بالملكية المطلقة هنا انكار حقوق الشعب في المشاركة في تقرير الشؤون العامة? وتحويله إلى شعب قاصر وخالي من القدوة الحسنة? وتحويل البلد إلى ما يشبه الإقطاعية التي يتحكم فيها فرد وأبنائه ويفرضون سيطرتهم عبر زرع الفتن والفساد في نسيجه العام ويسطون على جميع الحقوق ويتعاملون مع البلاد كما لو كانت ملكية خاصة لهم? ولهم عليها حق التصرف الكامل? لهم ولأبنائهم وأقربائهم? كما أنهم يمنون على تلك الشعوب أنها لا تزال على قيد الحياه ويعتبرون ذلك انجازا?ٍ بينما هم يحولونهم بالجملة إلى عبيد وأتباع.
وربما كانت طرفة توريث الأبناء الحكم من قبل الآباء في هذا الشعب الحر هي أكبر مؤشر على نوعية العلاقة التي نشأت بين أصحاب الحكم وبين الأرض والشعب? وكان من نتيجتها تصفية الإرث الفكري والسياسي الوطني أو العميق الذي تراكم منذ ثلث قرن بأسره وعزز