جدلي?ة المرجعي?ة: إسلامي?ة أم علماني?ة?
منذ بداية الثورة العربية والإسلامية وخصوص?ٍا بعد إسقاط نظام حسني مبارك في مصر? بدأت تدور نقاشات وجدالات حول مرجعية الدولة? هل تكون علمانية أم دينية (إسلامية)? ولا بأس في الجدال والنقاش? فهذا أمر صح?ي وطبيعي? إنما تكمن المشكلة في كيفية تطبيق المبادئ المطروحة على أرض الواقع بالطريقة التي تناسب الظروف المتعددة الخاصة بكل دولة? مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة المجتمع ومدى قبوله لها.
من المعلوم أن العلمانية نشأت في بيئة غربية كانت تحكمها الكنيسة بادعاء أنها ممثلة الله على الأرض? فاستعبدت الناس? ونهبت أموالهم وأرزاقهم? وحاربت تطو?رهم وتقدمهم العلمي باسم الرب. وما كان على المجتمع الغربي آنذاك إلا أن يقوم بفصل هذا العنصر “المعو?ق” عن السلطة – أي فصل الدين عن السياسة – ليكم?ل تطو?ره وتقد?مه الطبيعي. ولقد نجحت هذه العلمانية نسبي?ٍا في الغرب لعد?ة أسباب? منها عدم تدي?ن المجتمع الغربي بغالبيته? واعتقاد الجزء المتدي?ن منه بـ”أعطوا ما لقيصر لقيصر? وما لله لله”.
بعكس المجتمع الغربي? كان المجتمع العربي وما زال متمس?ك?ٍا بدينه – وإن بدرجات متفاوتة – منذ مجيء خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم. فقد نقل الإسلام العرب والعربية إلى مشارق الأرض ومغاربها? وحو?ل العرب – وغير العرب بالطبع – من قبائل متناحرة تحر?كها الحمي?ة الجاهلية? إلى أم?ة صنعت حضارة نو?رت العالم? امتد?ت من بغداد إلى الأندلس. كما أطفأ الإسلام نار الغرائز الحيوانية بمياه الأخلاق الإنسانية? وأمر الناس بطلب العلم? والتدب?ر? والتفك?ر? والتعق?ل? والاجتهاد? وعمل الصالحات? والاستخلاف في الأرض وإعمارها وفق الأوامر الرب?انية? وهذا بعكس ما اد?عاه ويد?عيه فريق “تعطيل العقل وغلق باب الاجتهاد” من المسلمين قديم?ٍا وحديث?ٍا.
وخلاف?ٍا لمقولة “أعطوا ما لقيصر لقيصر? وما لله لله” – مع الاحترام لجميع الأديان – الملك في الإسلام كله لله? والإنسان المسلم مأمور بالتعامل مع الملك الذي هو مستخلف فيه طبق?ٍا للمبادئ الإسلامية وعلى رأسها العدل. وصحيح أن? الإسلام دين ثوابت? ولكنه كذلك دين مرن وينطبق على كل زمان ومكان? مع الأخذ بأسباب ذلك الزمان والمكان? كالتطو?ر والتقد?م البشري الطبيعي وتلبية متطل?بات العصر. وفي الإسلام لا إكراه في الدين? فالحرية العقدية حق لكل إنسان. والدولة في الإسلام دولة كل مواطنيها? فهي مدنية بامتياز? ولا تقصي الآخر ولا تظلمه لدينه أو عرقه أو لونه? بل تحميه? فالحاكم مسؤول أمام الله عن كل أعماله خاصة عندما تتعل?ق بحماية أبناء وطنه? وتاريخنا الإسلامي مليء بالأمثلة فيما يتعلق بالعدل والتسامح? لعل أشهرها موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القبطي الذي ضربه ابن عمرو بن العاص والي مصر آنذاك? فجيء بالمعتدي والمعتدى عليه? وأمر عمر الغلام القبطي بضرب ابن عمرو بن العاص وأبيه الذي كان مسؤولا?ٍ عنه. {لا ي?ِن?ه?ِاك?ْم?ْ الل??ِه?ْ ع?ِن? ال??ِذ?ين?ِ ل?ِم? ي?ْق?ِات?ل?ْوك?ْم? ف?ي الد??ين? و?ِل?ِم? ي?ْخ?ر?ج?ْوك?ْم م??ن د?ي?ِار?ك?ْم? أ?ِن ت?ِب?ِر??ْوه?ْم? و?ِت?ْق?س?ط?ْوا إ?ل?ِي?ه?م? إ?ن??ِ الل??ِه?ِ ي?ْح?ب??ْ ال?م?ْق?س?ط?ين?ِ} (الممتحنة: 8).
وكما أن? في العلم الإسلامي تخص?صات? عقدية وشرعية ولغوية وغيرها? فكذلك في الدولة الإسلامية? يعمل في مجالها السياسي أهل السياسة? وفي مجالها الاقتصادي أهل الاقتصاد? والعسكريون في مجالها العسكري? بغض النظر عن العرق أو الدين? فالأفضل هو الأولى.
لقد ناقش الإمام يوسف القرضاوي في كتابه “الدين والسياسة” بعض ما جاء آنف?ٍا? وأقتبس من الكتاب القي?م الفقرات التالية – مجموعة – نظر?ٍا لأهميتها: “إن? الإسلام الذي شرعه الله لم يدع جانب?ٍا من جوانب الحياة إلا وتعهده بالتشريع والتوجيه? فهو – بطبيعته – شامل لكل نواحي الحياة? مادية وروحية? فردية واجتماعية. وقد خاطب الله تعالى رسوله بقوله: {و?ِن?ِز??ِل?ن?ِا ع?ِل?ِي?ك?ِ ال?ك?ت?ِاب?ِ ت?ب?ي?ِان?ٍا ل??ك?ْل?? ش?ِي?ء?ُ و?ِه?ْد?ٍى و?ِر?ِح?م?ِة?ٍ و?ِب?ْش?ر?ِى ل?ل?م?ْس?ل?م?ين?ِ} (النحل: 89). والقرآن الذي يقول: {ي?ِا أ?ِي??ْه?ِا ال??ِذ?ين?ِ آم?ِن?ْوا? ك?ْت?ب?ِ ع?ِل?ِي?ك?ْم?ْ الص??ي?ِام?ْ…} (البقرة: 183)? هو نفسه الذي يقول في نفس السورة: {ي?ِا أ?ِي??ْه?ِا ال??ِذ?ين?ِ آم?ِن?ْوا? ك?ْت?ب?ِ ع?ِل?ِي?ك?ْم?ْ ال?ق?ص?ِاص?ْ ف?ي ال?ق?ِت?ل?ِى…} (البقرة 178)? وهو الذي يقول فيها: {ك?ْت?ب?ِ ع?ِل?ِي?ك?ْم? إ?ذ?ِا ح?ِض?ِر?ِ أ?ِح?ِد?ِك?ْم?ْ ال?م?ِو?ت?ْ إ?ن ت?ِر?ِك?ِ خ?ِي?ر?ٍا ال?و?ِص?ي??ِة?ْ ل?ل?و?ِال?د?ِي?ن? و?ِالأ?ِق?ر?ِب?ين?ِ ب?ال?م?ِع?ر?ْوف?…} (البقرة: 180)? ويقول في ذات السورة: {ك?ْت?ب?ِ ع?ِل?ِي?ك?ْم?ْ ال?ق?ت?ِال?ْ و?ِه?ْو?ِ ك?ْر?ه?َ ل??ِك?ْم? و?ِع?ِس?ِى أ?ِن ت?ِك?ر?ِه?ْوا? ش?ِي?ئ?ٍا و?ِه?ْو?ِ خ?ِي?ر?َ ل??ِك?ْم?…} (البقرة: 216)? عب?ر القرآن عن فرضية هذه الأمور بعبارة واحدة: {ك?ْت?ب?ِ ع?ِل?ِي?ك?ْم?ْ}. فهذه الأمور كلها مما كتبه الله على المؤمن