حتى لا يظلم رمضان…؟
بقلم/ مصطفى قطبي *
يأتي شهر رمضان هذا العام وقد تعقدت الأوضاع في الوطن العربي ولا أمل يلوح في الأفق لحل أكبر أزمة تمر بها الأمة العربية منذ سنوات الاستقلال، فاشتعال 4 جبهات بدءاً من العراق وسوريا واليمن وليبيا، واضطراب دول مثلها، يعني تراجع هذه الدول إلى قرابة 100 سنة وتأخرها عن التطور والتعليم والبناء والتنمية وتأهيل البشر، وهذا يمثل أزمة فكر وأزمة حكم وإفلاس في الإرادة العربية التي أضحت اليوم منشغلة في همها الداخلي.
اليوم، فمن يفترض أنهم مسلمون يقتلون مسلمين آخرين (والمفروض أن الجميع صائمون) بالتفجيرات والهجمات والعمليات وحروب الميليشيات والكل مقتنع أنه يتقرب إلى الله بقتل الآخرين. من الجزائر وتونس إلى أقصى شرق عالمنا العربي لا تنقطع أخبار الضحايا بشكل يومي، ولا يبدو أن الأشهر الحرم أحدثت فرقاً، فلا غرو أن يستمر القتل في رمضان. وليتنا كنا نحارب عدواً، أو ندافع عن وطن أو ما شابه، إنما هو احتراب على مغانم الدنيا يتم تبريره بمغالاة في الدين لا علاقة لها بالإنسانية أصلا ناهيك عن التدين. يستغل المتسربلون بالدين من المتطرفين والمتشددين شهر رمضان المبارك لتوسيع الفساد في الأرض.
في تلك الأيام المباركة يتصور المغيبة عقولهم أن القتل في رمضان مضاعف الأجر، وينتهز قادتهم (وهم انتهازيون كاذبون بالمطلق) ذلك لحثهم على ما يصورونه لهم أنه ”شهادة في سبيل الله” فيقبل هؤلاء على القتل والتدمير بقوة أكبر. ويحول هؤلاء الظلاميون الحكمة الأساسية من الصيام (وهي انسانية روحية خالصة كما أرادها الخالق سبحانه وتعالى، في الإسلام وفي كل الأديان التي من شعائرها الصيام) إلى بشاعة دموية بالقتل والتدمير. وطبعا يصعب توقع أن يواجه المسلمون المستهدفون تلك الوحشية الإرهابية بالصوم عن القتال. وهكذا تدور المنطقة في دائرة مفرغة من القتل والتدمير والخراب يعتقد أطرافه أنهم ”يحسنون صنعاً”.
ومن عجب يضاف إلى ما في واقعنا المر من عجب، وإلى ما تنتجه حربنا الكريهة المدمرة من دمار وخسران وشقاء وإفلاس روحي ووصَب موجع غاية الوجع: أن اقتتال الفتك حتى الإبادة، والاستعداد لخوض حرب الفتنة الفادحة بهذه الضراوة، عبر زمن مفتوح وتكاليف لا تُحتمل… من عجب أننا لم نشهد عشر معشار في المائة، لمثلها أو لقريب منها، مع العدو الصهيوني المحتل، الذي اغتصب أرضنا، وقتل شعبنا، وشرد منه من شرد وسجن من سجن وحاصر من حاصر، ودنس مقدساتنا، وناصب ثقافتنا وديننا ونبينا ووجودنا العداء، وما زال يمارس العدوان والحصار والتهديد والقتل والاضطهاد والإبادة المنهجية ضد شعبنا الفلسطيني… من دون أن يلقى منا هذا النوع من المواجهات الطويلة الجذرية التي تحقق لنا هدفاً مشروعاً، هو تحرير الأرض وحماية الشعب، وهو مما تقره شرعة الأمم المتحدة، وشرعة حقوق الإنسان، وأعراف الشعوب وتقاليدها، ويقره كل ما يدخل في أبواب الدفاع عن النفس وعن الوجود والأرض والحق والمقدسات؟!
اليوم، يرعد الإعلام ويزبد، بمنطق ساسة، ورجال دين، لا يرون في الناس ناساً، ولا في الأحياء أرواحاً، ومنهم مسلمون نافذون، لا يرعون في الله إلا ولا ذمة، فيذهبون بأمتهم ودينهم وشعوبهم إلى جحيم الوغى، ويُرضون أعداء العروبة والإسلام، بكل فعل وقول، تتهلل له وجوههم، وترقص على إيقاعه قلوبهم في الصدور؟! وأي تفتيت، وتمزيق، وإضعافٍ، ودَس للسم الزعاف في شرايين العرب والمسلمين، وفي أوردتهم… وأيُّ فتك بهم، وهلاك لهم، وإبادة تنهيهم… لا يرضى أولئك الذين يقولون ”الموت للعرب”، ويطاردون الإسلام بالتهم والافتراءات والإساءات والأكاذيب، والمسلمين بالتطرف الإرهاب، وغير ذلك، مما يعملون جاهدين، على إظهار أنه من صلب العقيدة الدينية، ومن جوهر الإسلام؟! أما المصيبة الأكبر فهنالك أكثر من خمسين محطة فضائية تبث سموماً طائفية ومذهبية… بشكل مباشر ومن كل الطوائف. لا تتوقف على مدار الساعة من تسميم المسلمين، ومن التحريض فيما بينهم، ودفع أجيال غير واعية إسلامية وهي تشكل السواد الأعظم إلى ركوب موجة التمذهب تحقيقاً لغايات أبعد من مشروع الممول، أي صاحب الفكرة الأساسية في هذا المشروع وهو الإسرائيلي ومن ورائه.
قبل مدة قرأت تقريراً يقول إن استخبارات عالمية قامت بتخريج أعداد كبيرة وصلت إلى الآلاف من رجال الدين، ودفعتهم ليكونوا خطباء وأصحاب رأي وفتاوى. لا شك أن قسماً من هؤلاء انضم إلى الإرهابيين من أجل التأثير على عقول بحاجة لمن يقدم لها الأفكار التي تلائم بقاءها في هذا التنظيم ”الإسلامي” أو ذاك… ويلعب هؤلاء دور المحرض أيضا، سواء في العمليات الانتحارية أو الانتقالات من بقعة إلى بقعة عبر فتاويهم التي يبثونها، وكلها كاذبة لأنها تصنع الحرام حلالا وهكذا. ويقال إن بعضاً من هذه الأعداد توزع في المنطقة العربية أيضاً، وله بالتالي دور أساسي في تلك الفضائيات التي لا تتوقف عن بث سمومها ضد المسلمين من خلال رفع درجة الحقد بين الطوائف الإسلامية إلى حدها الأقصى…
هذا المشروع المذهبي بأن لا يحتاج شرحاً عن أهدافه، إنه آخر وأكبر ما تفتقت عنه مراكز الدراسات الاستعمارية التآمرية على الإسلام وعلى المنطقة. الذين رسموا هذا الخط الجديد ليكون صراعاً بين المذاهب الإسلامية، وبين الطوائف الإسلامية كلها، فقد أخذوا من التاريخ الإسلامي اجتهادات شخصية مثلت فهماً في وقتها ثم استحضرت لتكون بذرة التأثير التآمري على الإسلام، باعتبار أن الصراع بين المسلمين مطلب من أجل تمزيق الوحدة الإسلامية من جهة عبر صراع المائة سنة كما بشر كيسنجر، ومن ثم تغيير شكل الصراع من أجل فلسطين، ومن ثم القضاء على كل فكر خلاق، وبالتالي إنهاء كل تطلع عربي وإسلامي إلى التمنيات الوطنية، وقتل روح العروبة فيها، وتشتيت شملها بدل أن تفكر بوحدتها، ورقع وتيرة القتال فيما بينها كي تظل العداوة هي المستحكمة، وأبعاد الشعوب عن التفكير بمصائرها في تحديث نفسها بناء على ما يحدث في العالم من تطور وتقدم.
لقد أصبح من الواضح أن ما يجري في المنطقة العربية من صراع دموي بغيض، بات يدور على حافة هاوية حرب إسلامية مذهبية كبرى، وأنه تصاعد إلى حدود فاجعة فلم يعد يشكّل نوعاً من الاستدعاء لزجّ المسلمين في أصقاع العالم في هذا الصراع المتصاعد، بل صار يشكّل تورطاً وتوريطاً أيضاً لعناصر مذهبية في هذا الصراع الذي يجنّد الكثيرين من خارج المنطقة في مشروعه التدميري الإرهابي العبثي القاتل كما في سوريا والعراق… على تقسيم الأمة الإسلامية فرقاً وأحزاباً متناحرة تقاتل بعضها بعضاً باسم الدين، وهو ما يعانيه عدد من أوطاننا اليوم حتى بات مع كل الألم انه يزج بأوطاننا بكل تاريخها الوطني، في بازار طائفي يسيء إلى كرامة أهلنا ومع مهانة العجز عن الإنقاذ أمام ما يجري من عمليات تدمير… حجراً حجراً، حتى أصبحنا ننسى الحجر الذي غمرت شهرته الآفاق في القريب والبعيد.
إنّ أفظع وقائع البؤس والانحطاط البشري تحدث حينما ينغمس أناس في العنصرية، والتطرف، وادعاء احتكار العلم والمعرفة والدين… فيرفعون سلاحهم باسم الله والوطن والحقيقة، وينغمسون في الحقد والدم والكراهية، ويصدرون عن جهل مقيم وكره للآخرين مقيم؟! ويا ما أقسى الكراهية، ويا ما أصعب علاجها… إنها تتجاوز الحماقة بكثير، من حيث أنها تُعيي من يداويها، وإذا ما اقترنت بما يرسخها ويقويها ويغذيها، من عنجهية واندفاع يدفعانها إلى الفعل، فإنها تصبح الطبع الشرير، والعقل الذي يقود إلى الجريمة بكل أنواعها ويستبيح القوانين والناس.
والمؤلم المؤسف، أن السدنة الذين يضرون نار الفتنة، وجلهم من أعداء العروبة والإسلام، يحرصون على استمرارها، وتوقدها، حتى آخر صَبي، وآخر امرأة، وآخر شيخ، وآخر آمن مؤمن، من المسلمين… يدعو الله سبحانه وتعالى، أن يلجم الفتنة وأهلها، وأن يعيد الأمن والوعي والعقل إلى الناس، لا سيما لأهل الحل والعقد منهم، ممن طاشَ حجرُهُ، فذهب في طرق الغيِّ إلى الحد الذي قد لا تكون معه رجعة إلى الدين الحق، والوعي المسؤول، والروح القيادية القادرة على الرؤية في خضم الظلم والظلمات، لتنظر في أمر شعوب باتت ضحايا حمم النار، وتتلظى في حمى الأحقاد، والكراهيات، والثارات، والفتن الماحِقات.
إنه انغلاق العقل والقلب، وعمى البصر والبصيرة… وابتعاد تام عن نور الله وكتابه وسنة رسوله، ونبذ للنهج الإيماني ـ الحضاري ـ والإنساني، الذي يمكن أن يتبعه الإنسان العاقل العارف المتحضر التقي، ليبطل بالمنطق والعلم والفهم والسلوك، حجج غيره من الناس الذين يراهم ضالين مضلين، أو متخلفين غلاة، أو متوحشين بغاة… أو يراهم أقل منه قدرة على فهم الأمور، وتدبر الأحكام، واتباع النهج القويم، لبلوغ الغايات، بما يحفظ الإنسان ويعمق الإيمان… بل ليثبت بالبرهان أنهم العجز عن تطوير أساليب العيش والتعايش… ومن ثم فإنه، بناء على ذلك، هو المؤهل للقيادة والريادة، ولأن يقلده الناس أو يتبعونه بإحسان… وبذلك يتابع مسيرة من قال فيه سبحانه وتعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)…
ويحرص في ذلك كله على أن يصون ما ينبغي أن يُصان من حيوات وقيم وأحكام، ولا يلجأ في أثناء السعي إلى بلوغ غاياته بصدق، إلى الخديعة والمكر، ولا إلى تحريف ما لا يجوز تحريفه، أو إلى تأويل ما لا يحتمل التأويل، وإلى لي عنق الكلام والمنطق ليلائم هواه ومنطقه… اعتماداً منه على حذلقة، وفذلكة، وسحر بيان، وضَرابة لسان… ومن دون أن يعمَد إلى ضرب القرآن بعضه ببعض، مما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال للذين تحاجوا بآيات من القرآن ضد آيات منه، في حديث مرفوع رقمه 288: (حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ، قَالَ : حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ أَبُو هَاشِمٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ, قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْقَاسِمِ, عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَهُمْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْقُرْآنِ، فَغَضِبَ غَضَباً شَدِيداً, حَتَّى كَأَنَّمَا يُصَبُّ عَلَى وَجْهِهِ الْخَلُّ، وَقَالَ: ”لا تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فَإِنَّهُ مَا ضَلَّ قَوْمٌ إِلا أُوتُوا الْجَدَلَ، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) سورة (الزخرف آية 58).
ويدخل في باب المريب والعجيب أن يلقي الإنسان عقله وعلمه وفهمه في سلة المهملات، أو أن يغرق نفسه والآخرين في الدم والجُرم، توهماً منه أنه العقل والإيمان والفضل، وأنه المكلف من الله سبحانه وتعالى بالنهي والأمر، في كل ما يجوز وما لا يجوز فيه الأمر والنهي، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق… ومن باب الغريب والعجيب أيضاً أن يرى شريك في الوجود والمصير، في صنوه الآخر الشريك، أن يرى فيه عدواً لدوداً، وليس موضع ثقة، ولا صاحب نُهَى، وأنه ممن لا يجوز لهم، أو يجوز معهم، تداول وتعاون في أمر يهمهم المواطنين جميعاً، ويصلح لدنياهم، إذ نترك أمر دينهم لمولاهم؟! وأن يحكم على ذلك الشريك بأنه لا يفهم، ولن يفهم، إلا بمنطق القوة والاجتثاث… وليس بمجرد قوة محكومة بالحق والعدل والقانون والشرع والدين، يُلوَّح بها لتردع وتضبط وتخيف، لا سيما مع من هم شركاء في الوطن والمواطَنة والقرار والمصير، وشركاء في الهوية الثقافية والقيم والدين، وفي ضريبة الدم عندما يكون عدوان؟!
ليس القتال في بلاد المسلمين من أجل إقامة دولة العدل والسماحة والإنسانية، وإنما هو صراع على منافع مادية وأرضية ولاعتبارات الزعامة والنفوذ والثروة. وما الشباب المغرر به من انتحاريين ومقاتلين إلا وقود لأمراض الدنيا لدى قادة تلك الميليشيات والتنظيمات. والأمر ذاته، بدرجة أقل عنفا ودموية لدى التنظيمات الأخرى (التي تعمل كأذرع سياسية للتنظيمات المسلحة الإرهابية).
لم نعد ننتظر، من الذين يغلقون على أنفسهم وعلى غيرهم منافذ الخروج من الكارثة، أن يخرجونا منها، ولا أن يخففوا من وقعها ومصابها وانتشارها وأشكال انفجارها علينا.. ومن باب أولى ألا ننتظر من أعداء بلدنا وشعبنا وأمتنا وديننا، أن يخرجونا من جهنم التي نصنعها بأيدينا، ونتزاحم على نارها، تزاحم الفراش على نار المصباح. ولكن، في الوقت ذاته، لم يعد بوسعنا السكوت، ونحن نحترق ونموت وننظر إلى الفتك الوحشي يكتسح كل شيء فينا وفيما حولنا… ولا نستشعر جدوى الكلام، ونحن نعاني ازدواج المرارة تلو المرارة، من جراء الانصراف شبه الكلي عن وقع البلوى ومر الشكوى ومنطق الحكمة… لأن الكلام مهما كان ومهما حمل من معانٍ، لا يمكنه أن يرتفع فوق صوت القنابل والصواريخ وأنواع الأسلحة الفتاكة الأخرى، وعلى رأسها سلاح الحقد الأعمى؟! ولا يجدي، من دعوة المقتتلين إلى تغيير زاوية الرؤية من قِبَل كل طرف منهم، ليرى ما يخفى عليه، أو ما يستجد ويبنى عليه مما يؤثر في قراراتهم وتوجهاتهم.
وقد أصبح في حكم العبث، دعوة الأطراف المعنية إلى الاحتكام لأية مؤسسات سياسية دولية، أو قواعد قانونية أو فقهية، أو إلى مرجعيات من أي نوع، فالكل يتهم الكل، ويرفض الكل، أو كل طرف على الأقل هو لا يثق إلا بمن يعجبه ولا يقبل إلا ما يعجبه ويحقق مطالبه… وفي هذه البيئة الخلافية ـ القتالية ـ المذهبية… كل يقول إنه ”الحق”، وليس فقط إنه على حق… وكل يشد لحاف السياسة ولحاف الدين إليه، ويرى الآخر خارجاً عليه ولا يستحقه بأي حال…؟! وربما في هذا المجال تصح دعوة الأطراف المعنية جميعها، رغم عسر الهضم المزمن لكل دعوات الصلح الروحي ” ورفض التفاهم والتوافق والتعاون، وحتى الحوار وصولا إلى شيء من ذلك… وعلى أرضية ما يدور من اقتتال غدا مذهبياً فاقعاً، وتصفية حسابات تمتد من سقيفة بني ساعدة إلى سقائف المؤتمر الإسلامي، ومن وقعتي الجَمَل وصفين إلى معارك المواقع السورية والعراقية واليمنية… وفي هذا كله ما فيه مما يبكي دماً ويضحك ألماً…
في هذا المجال ربما تصح دعوة الأطراف جميعًا إلى التأمل في الآتي:
ما دمتم تتقاتلون على أيكم أكثر اتباعاً للإسلام وفهمًا له… فلماذا لا تتسابقون في تطبيق أحكامه التي فيها إنقاذ الإنسان وتكريمه وتحريم إراقة دمه، بدلاً من إراقة دماء بعضكم بعضاً ودماء الأبرياء؟! وبهذا يثبت كل فريق منكم للآخر، وللأمتين العربية والإسلامية، وللعالم أجمع: أنه الأكثر إيماناً وفهماً للإسلام، وأنه الأقوى حجة ومنطقاً، فيتغلب على خصمه بالإرادة الخيّرة، وبالحسنى، وبقوة الإيمان وصدق العقيدة، والحرص على الأخلاق، والسلوك الذي يترجم رسالة الإسلام الروحية ويجسدها عملياً… ومن ثم يكشف خصمه ”عدوه؟!”، أو يحيِّده، أو يقنعه ويكسبه… فإذا نجح في أن يجعل الآخر يرى الحق ولا يتبعه فإنه يثبت أنه ليس من الإسلام الصحيح في شيء، بحكم فعله المعبر عما استقر عليه عقله وقلبه، ويبرهن على أن كل ما يدعيه هو باطل، وقبض الريح.
وإذا نجح في أن يجعله يرى الحق ويرتدع نسبياً عن الغلو والكبر، فتراجع عن الغي والشر، من دون أن يسلم لخصمه بتفوق ما مكابرة ومناكفة، فإنه إنما يكون قد حُيِّده، لجهة أنه لن يتابع القتال على الأقل… وأما إذا كان نجح في أن يجعله يرى الحق ويتبعه، ففي ذلك تراجع عن باطل، وانتصار للحق، وعودة إلى الله والناس أهل الحق، وعودة إلى الوعي والإسلام وربما الإيمان بالمعنى الأعم الأعمق. وفي ذلك أيضاً حسنات لا تحصى لمن هداه، أو لمن أنار له طريق الهدى، وأظهر له الحق فاهتدى، وحبب إليه الإيمان.
حري بالمسلمين في شهر الصيام والتقوى استجلاء أسس الدين الحنيف، والاستقواء بعبادة الصوم على مقاومة الجهل والتطرف والتشدد والإرهاب. وما دين الإسلام الذي بعث به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم هداية للعالمين إلا دين إنساني بالأساس يمثل رحمة الخالق بالبشر أجمعين. هذا ما يفترض أن يعيدنا عليه الصيام والقيام، بدلا من التكفير والقتل والتخريب والتدمير.
ولذلك فإن معشر علماء الإسلام وفقهائه يقفون اليوم عند مسؤولية كبرى وأعظم أمام الله في الأخذ بناصية تغيير هذا التشويه المتعمد والإساءة المقصودة، وبذل أقصى درجات الجهد لتوعية المسلمين بخطورة ما يخطط ويراد بهذه الأمة الوسط من مكائد ودمار وحروب وهلاك، وبأيدي أبنائها والمحسوبين عليها للأسف. فشهر رمضان فرصة لهؤلاء العلماء والفقهاء لتحفيز النفس وتبصير الناس بأمور دينهم وإرشادهم إلى طريق الخير والمحبة والألفة والتعاون، وأن مظاهر التطرف والغلو والتكفير والتشدد ليست من الإسلام، وأن قتل النفس بغير حق أو إراقة قطرة دم واحدة بغير حق حرام في الإسلام، بل إنه شدد في العقوبة وغلظها بخاصة إذا كان صاحب هذه النفس وصاحب قطرة الدم من أهل الشهادتين، وأمر بحفظ النفس والعقل والمال والأعراض والأخلاق والدماء، وحرم استحلالها وأوجب العقوبة على مستحلها دون وجه حق، والحق في ذلك أوكل الله تنفيذه إلى أولي الأمر فقط حفظًا للمجتمعات من الفوضى والفتن والكراهية والهلاك.
* كاتب من المغرب