امريكا لم تتغير سياساتها فلماذا التقارب معها؟
بقلم / د. سعيد الشهابي
في يوم ما كانت امريكا تمثل للنخبة العربية رمزا للامبريالية العالمية والهيمنة والتدخل والغطرسة. وفي يوم ما كان المثقف العربي يربأ بنفسه عن الاتهام بانه “عميل” لامريكا. وفي يوم ما ايضا كان هناك توجهات “تقدمية” خصوصا لدى النخب تعادي الغرب وما يمثله من تركة استعمارية ثقيلة وانحياز ضد العرب. هذا اليوم ليس تاريخا سحيقا بل حقبة معاصرة لم يمر عليها سوى بضع سنوات.
فجأة، وبدون مقدمات، تغير المشهد، فاصبحت امريكا “صديقة” للبعض، او طرفا سياسيا “يحسن غض الطرف عنه”، او لاعبا اساسيا لا يمكن تجاهل وجوده. الغرب الاستعماري لم يكن يوما صديقا للعرب والمسلمين او لاي من الشعوب التي استعمرها في امريكا اللاتينية وافريقيا وجنوي شرق آسيا. صحيح ان امريكا لم تكن طرفا مباشرا في الاستعمار الغربي الذي سيطر على بلدان عديدة في القرن الماضي، ولكن عودتها القوية للفضاء العالمي بعد الحرب العالمية الثانية بدأت حقبة جديدة اصبحت امريكا فيها تلعب دورا بارزا له أثر مباشر على الوضع العربي، خصوصا بعد حرب 1967. ففي غضون تسعة اعوام فقط انقلب الموقف الامريكي الذي وقف ضد العدوان الثلاثي على مصر في 1956 ليتحالف مع الكيان الاسرائيلي الذي احتل فلسطين وشرد اهلها. اليوم تقف واشنطن مع تل أبيب، ولا تدعمها فحسب، بل تضمن تفوقها العسكري على الدول العربية. ما الذي تغير؟ ثمة حقائق يجدر ذكرها لتوضيح معالم الحقبة الحالية من التاريخ العربي الذي لا يمكن فصله عن اشكالية التحالف الانجلو-امريكي-الاسرائيلي.
ألحقيقة الاولى ان تحولا كبيرا في المزاج العربي العام حدث في السنوات الاخيرة بفعل المال النفطي، وازداد وضوحا بعد قمع ثورات الربيع العربي. هذا المزاج كان “تقدميا” و “ثوريا” و “عروبيا” و “اسلاميا”، لكنه فقد اغلب هذه الخصائص نتيجة هندسة سياسية معقدة بدأت تتبلور بعد حوادث 11 سبتمبر الارهابية. ربما فكر مخططو تلك العمليات انهم سوف يقضون على الهيمنة الامريكية خصوصا على العالم العربي بعد ان ايقنوا بانها احد اسباب شقاء هذه الامة. ويمكن تعميم الادعاء بان اغلب مصلحي القرن الماضي كانت لديهم نظرات سلبية تجاه امريكا.
ولذلك يتم استهداف مفكر اسلامي كبير كالسيد قطب بسبب مواقفه المعادية لامريكا واطروحاته الاسلامية الواعية بعد تجربته كطالب في ذلك البلد في مطلع الخمسينات. وقد عبر الزعيم الايراني، آية الله الخميني، عن ذلك الشعور عندما اعتبر الولايات المتحدة الامريكية “الشيطان الاكبر”. وبرغم التعدد المذهبي الا ان ذلك التوصيف لم يرفض من قبل اغلب العرب والمسلمين. وقد عبر الوجدان العربي عن ذلك برفضه المطلق للتقارب او التعاون مع امريكا. وعندما حدث التدخل العراقي في الكويت في 1990 ادى ذلك الى تجسيد عملي لذلك الرفض. فما ان اعلن قيام “التحالف” الهادف لـ “تحرير الكويت” من القوات العراقية حتى تبلور موقف شعبي غير مسبوق، بالرفض المطلق لذلك التدخل. فخرجت المظاهرات والاحتجاجات في اغلب البلدان العربية، من المغرب الى باكستان. بل ان انظمة محسوبة على الغرب وجدت نفسها، تحت الضغط الشعبي، مضطرة للنأي بنفسها عن الحرب التي كانت تخطط ضد العراق، فقد اعترض على التدخل الاجنبي كل من الاردن بزعامة الملك حسين واليمن برئاسة علي عبد الله صالح ومنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، وكذلك الجزائر. وبرغم وجود الامبراطورية الاعلامية الواسعة الداعمة لذلك التدخل، الا ان الامة كانت لديها حصانة خاصة، فلم تتأثر بذلك الاعلام، بل وجدت الحكومة السعودية نفسها مضطرة لاستحصال “فتوى” دينية لتبرير الاستعانة بالقوات الاجنبية في ازمة الكويت. فحدث الاجتماع الكبير الذي ضم 500 من “العلماء” الذين جمعتهم المملكة في مكة في اكتوبر 1990 واستصدرت منهم الفتوى المطلوبة بجواز الاستعانة بالقوات الاجنبية بقيادة امريكا. وبرغم اختلاف الكثيرين مع سياسات الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، الا ان تلك الازمة اظهرته زعيما مجسدا للموقف الشعبي العربي الرافض للتدخل الامريكي.
الحقيقة الثانية: ان التدخل الانجلو – امريكي في الكويت كان بداية لمرحلة جديدة اتسمت بحالة من الاستقطاب. وهنا يصبح دور ما يسمى “الافغان العرب” محوريا في بلورة تطورات تلك المرحلة التي استمرت عشر سنوات (ما بين الحرب الانجلو امريكية الاولى ضد العراق ومفاعيل حوادث 11 سبتمبر التي اتصلت بتدخل ذلك التحالف مرة اخرى في المنطقة لاسقاط نظام صدام حسين في 2003. عقد كامل كان هو العمر الحقيقي لتنظيم “القاعدة” الذي استهدف الغرب بقيادة امريكا. كان ذلك ردة فعل شديدة على الحرب النوعية التي استهدفت القوات العراقية في الكويت، وجسدت مجزرة “المطلاع” واحدا من ابشع فصولها. وسيظل النقاش متواصلا حول ثنائية القاعدة – امريكا، حول تشكيل التنظيم وبلورة عقيدته السياسية ولماذا استهدف امريكا، وأي الطرفين هو الذي بدأ الحرب على الآخر. فربما كانت الامور ستتخذ منحى آخر لو لم يمارس الامريكيون وحلفاؤهم الاقليميون ضغوطا على حكومة الرئيس برهان الدين رباني في 1992 لطرد “الافغان العرب”، فكان من نتيجة ذلك سقوط حكومته وقيام حركة طالبان وتحول افغانستان الى منطلق لعمل تنظيم “القاعدة” التي كانت تستهدف الولايات المتحدة بشكل اساس، ولم تكن معنية بقضايا الاختلافات المذهبية داخل الجسد الاسلامي. وهذا ما اكدته الوثائق التي حصل عليها الامريكيون بعد قتل زعيم التنظيم، اسامة بن لادن، في 2011، وكذلك في الرسائل التي تبادلها مع الزرقاوي وبقية ممثلي الاقاليم.
الحقيقة الثالثة: ان حوادث 11 سبتمبر الارهابية المنسوبة لتنظيم “القاعدة” كانت نقطة تحول كبيرة، ليس بالنسبة لتنظيم “القاعدة” فحسب بل للعالمين العربي والاسلامي. فقد اتخذ التحاف الانجلو-امريكي –الاسرائيلي مع بعض الاطراف العربية قرارا حاسما بسحق تنظيم “القاعدة”. وهنا استخدمت اساليب عديدة: اولها القوة العسكرية المفرطة التي دكت جبال تورا بورا بالصواريخ والقنابل بشراسة غير مسبوقة، وبذلك قطع رأس التنظيم عن جسده تماما، بالاضافة لاستهداف افرادها بشكل متواصل حتى اليوم، ثانيها التدخل المباشر لاعادة صياغة مشروع التنظيم بعيدا عن استهداف الغرب او حلفائه. وهنا استخدم الدين سلاحا ضد التنظيم، فتعاونت اجهزة استخبارات الدول المعنية لتوجيهه نحو الداخل العربي والاسلامي، واستخدمت التقنيات الفكرية الحديثة لاعادة بلورة الفكر واولويات العمل المؤسس عليه. وبذلك تم القضاء على بقايا “الفكر التقدمي” الذي يدعو للناضال المستمر ضد “الامبريالية ” و “الراسمالية” والذي تبنى قضية فلسطين واعتبرها احدى قضايا الفكر التقدمي. كما استهدف مشروع “الاسلام السياسي” الهادف لتفعيل منظومة سياسية تهدف للبدء بإشاعة اجواء الحرية وإقامة العدل وتفعيل مبدأ الشورى، واعادة الدور لـ “العقل” في التشريع والفقه، واستبدل بمشروع يتبنى البدء بتفعيل احكام الشريعة واقامة الحدود حالما توفرت الفرصة لذلك، ويؤسس على قداسة النص الموروث عن السلف، وينحي العقل عن دائرة التشريع، ويؤسس عقيدته السياسية على “تطهير” الدين من ذوي الاتجاهات المذهبية المخالفة، وينطلق في “الجهاد” بالبدء باستهدف “العدو القريب”. من نتائج هذا المنحى الفكري تأجيل المعركة مع “العدو البعيد”. وهذا يقتضي مهادنة القوى الحكومية او الاقليمية حتى حين. وبذلك بدأت طواحين دونكيشوت تعمل عملها في جسد الامة بتمزيقه وتفتيته وفق مقولة الانتماء المذهبي.
نتيجة ما سبق تقود للاستنتاج بان الحساسية العربية المفرطة ضد الولايات المتحدة وسياساتها قد تراجعت كثيرا، واصبحت الانظمة العربية تسعى للتقارب مع الولايات المتحدة وكسب ودها. وبسقوط جدران المفاصلة بين الانظمة العربية والولايات المتحدة تشعر الشعوب بانكشاف ظهرها، وقد لا تستطيع الصمود طويلا امام تحديات رفض الهيمنة الامريكية على شؤون العال. فحين تتسابق الانظمة لضمان العلاقة مع الولايات المتحدة الامريكية، ويسعى بعضها لتوقيع صفقات عسكرية عملاقة تصل قيمتها الى 300 مليار دولار فهذا يعني ان ماكنة الشر التي ما فتئت تعيث بقيم الامة قد حققت اهدافها، وان الاولويات قد تشوشت في اذهان اصحاب القرار. امريكا لم تتغير في عدائها للعرب، بل ازداد تصهينها في عهد ترامب، فلماذا هذه الصداقة؟ وهذه فلسطين تتضاءل مساحتها بفعل المستوطنات التي لا تعارضها امريكا، فلماذا التطبيع مع تل أبيب وواشنطن؟ تساؤلات مشروعة في زمن الضياع الفكري والهزيمة النفسية وتعميق الصراع مع الاصدقاء والتطبيع مع الاعداء. ألم يحن الوقت لاستعادة هيمنة العقل على المصالح الضيقة؟
٭ كاتب بحريني