أسطورة التياع تضجُّ بنكباتِنا وويْلاتِنا في متاهاتِ الفصول؟!
بقلم: فاطمة يوسف ذياب
عزيزتي الشاعرة آمال عوّاد رضوان؛ المُتيّمة بروحيّةِ النّصّ، والباحثةُ دومًا عن جديدٍ يُعالجُ المُستجدّ فوقَ أديم احتراقِنا، ها أنا أتناولُ قصيدتَكِ (أسطورةُ التياع) العشقيّةِ المُبطّنة برمزيّتِها، وليسَ مِن بابِ صدفةٍ عابرةٍ أراني أتناولُ قصائدَكِ في أكثرَ مِن نصّ، فبينَ حروفي وحروفِكِ نبتَتْ علاقةٌ فكريّةٌ، ظلّتْ في بَحثِها عن عنوانِها المفقود تنتقلُ معَ لوحاتِكِ، ما بينَ واقعٍ عقرَبيٍّ إلى واقعٍ ياسمينيّ منشودٍ، وأتركُ لحبري الّذي يَغلي فوقَ مِرجلِ حرفِكِ فرصةَ القبضِ على مرامي الماوراء، كي أنطلقَ معك!
(أسطورةُ الْتِيَاع) عنوانُ قصيدةٍ تُجَسِّدُ استمراريّةَ لوعةَ العاشقِ الشديدةَ إلى حدّ الالتياع، في تسلسلٍ وتسلُّلٍ ذكيّيْن عبْرَ قنواتِ الزّمنِ الغابر، لتُلاحقَنا برمزيّتِها ومُكوّناتِها النّصّيّةِ، كالطّفولةِ تسلّلتْ مِن براثنِ أوْجاعِنا وبراري عتمتِنا، لتندسَّ في أدَقِّ تفاصيلِنا الحياتيّةِ الزمنيّةِ مِن ماضٍ غابرٍ إلى حاضرٍ قاتل!
طِفْلَةً / تَسَلَّلْتِ فِي بَرَارِي عَتْمَتِي/ وعَقارِبُ نَزَقي.. تَنْمُو بَيْن خُطُواتِكِ
تَغْزِلُ بِرُموشِ حُرُوفِكِ حَريرَ وَجْدٍ/ مِنْ خُيُوطِ مُبْتَدَاي
في براري عتمةِ أبجديّتِكِ طفلةً أتسلّلُ وعقاربُ نزَقي، أحاولُ أن أنموَ بينَ خيوطِ حرفِكِ وخطواتِ أبجديّتِكِ، كي أغزلَ من رموشِ حِبري النّصَّ الآخرَ، مُلتفِعةً بحريرِ وجْدِكِ مِن بدايةِ البداية، مِن الطفولةِ المُتخيّلةِ إلى الطفولةِ المُتّهمةِ بنزَقِها، وبعقربِها الّذي يُلامسُ عقاربَ الزّمنِ بعقربةٍ تَلسعُ الوقتَ، قصيدةً تتورّقُ وتنبثقُ على استحياءٍ، لتتجلّى فتاةً بأحلامِها، حيث تقفُ الحروفُ أمامَ كوخٍ لا يكادُ يتّسعُ لجنونِ أحلامِها.
قصِيدَةً/ قصِيدَةً انْبَثَقْتِ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ/ تَجَلَّيْتِ.. بِكُوخِ أَحْلَامِي/ تَوَّجْتُكِ مَلِكَةً.. عَلَى عَرْشِ جُنُونِي/ وَأَنَا التَّائِهُ فِي زَحْمَةِ أَصْدَائِكِ/ لَمَّا تَزَلْ تَفْجَؤُني.. ثَوْرَةُ جَمَالِكِ!
هكذا نمُرُّ معكِ بقصيدتِكِ (أسطورةُ التِياع)، حيثُ تَتنامى في حرفِها أصداءُ الزّحمةِ، بلوحاتٍ ثرّةٍ مِن لوحاتِ الكَرِّ والفَرِّ والإقبالِ والإدبار، ما بينَ رغبةِ الرّوحِ واهتزازِ العقلِ، وفي حالةٍ مِن التردّدِ العذب تُصوّرُهُ لنا باسمِ نزَقِها ودوَرانِ عقربِها، والجفونُ لمّا تزَلْ تُشاغلُ أزيزَ ثوْرتِها.
ياااااه، كم موجعٌ أن تصبحَ أحلامُنا مُجرّدَ أكواخٍ في مَهبِّ الرّيح، تتحكّمُ بها الأساطيرُ الغابرةُ مِن هيرا وعملاقِها بكلّ كيدِهما ومكائدِهما.
رَائِحَةُ فُصُولِي.. تَخَلَّدَتْ بِك/ بِرَجْعِ أُغْنِيَاتٍ عِذَابٍ.. تَتَرَدَّدُ عِطْرَ عَذَابٍ/ زَوْبَعَتْنِي / فِي رِيبَةِ دَمْعَةٍ .. تُوَارِبُهَا شَكْوَى!/ إِلاَمَ أظَلُّ أتَهَدَّلُ مُوسِيقًا شَاحِبَةً/ عَلَى سُلَّمِ مَائِكِ؟
رائحةُ الفصولِ الزّمنيّةِ تُخلّدُ هيرا، بل تتخلّدُ بها بإشارةٍ مُتعمّدةٍ لحُبٍّ مُعمَّدٍ بكلّ الفصول، يعزفُ لخريفِهِ كما يُراقصُ حبّاتِ المطرِ شهيًّا كثمارِ الصّيف، نديًّا كنَسماتِ الرّبيعِ الزّهرة، والوقتُ هو الوقتُ، يفوحُ بعطرِ عشقٍ نكادُ نصلُ إلى سُلّمِ قداستِهِ، هكذا تأخذُنا القصيدةُ الطفلةُ إلى صورةٍ شعريّةٍ ناضجةٍ ببلوغ ثورتِها، وتُفجّرُ يَقينَها ما بين دلالاتٍ مستوحاةٍ مُنتقاةٍ، حيثُ عقربُ الزّمنِ اللّاسع في أديم العلاقةِ الشّاحبةِ المُتهدّلةِ مِن بين أصابعِهِ، تُحاولُ التّسلّقَ على سُلّمٍ مِن ماء، لتَصلَ ونصلَ إلى الأسطورةِ، لكنّنا ما نلبثُ أن نتوقّفَ أمامَ زوبعتِها، بل زوبعةِ الماء، والسّؤالُ هو السّؤال:
إِلاَمَ نَظَلُّ رَهَائِنَ بَهْلَوَانِيَّةً / يَلْبَسُنَا طُوفَانُ نَعْنَاعٍ لاَ يَنَام؟
عزيزتي الشّاعرة المُتألّقةُ بفيْضِ المعاني والمغازي، كم منّا يَستهويهِ الغرقُ في بحار اللّفظِ المُقنّع! لكنّي أراها حُروفَكِ المُحترقة المُتفجّرة بلوْعتِها والتياعِها تبحثُ في الأساطيرِ القديمةِ عن أسطورةٍ، تُؤكّدُ انبعاثَ الحياةِ مِن بَراثنِ الموتِ الّذي يُكبّلنا بنورانيّتِهِ الموْهومة، وبنيرانِهِ الّتي تحرقُنا، بعدَ أن أتتْ على كلّ ما فينا وما لنا.
يَا مَنْ تَوارَيْتِ فِي حَانَةٍ / دَلِيلُهَا الْهَيْمَنَةُ/ تَسْكُبِينَنِي جَحِيمًا.. فِي كُؤُوسِ الضَّيَاعِ
وَتُرْوِيكِ.. قَوَارِيِرُ هَجْرِي الدَّاغِلِ / فَلاَ تَنْتَفِخِينَ بِآهَاتٍ مُتَشَرِّدَة!
نعم، كنعناعٍ ناعمٍ وكجلدِ أفعى أملس تسلّلتْ إلينا حضاراتُهم، وحينَ تسمّمنا بسُمومِها فقدْنا أدواتِنا، وكالمُغيّبين في حقولها بتنا نأتمرُ بأمْرِها ونستجيرُ بلهيبِها، نحرقُ ونحترقُ، نُفجّرُ ونتفجّر، وهي حيث هي تزدادُ ثعلبة وشماتة وشيطنة، بأساليبَ لامعةٌ ظاهرُها، لكنّ بواطنَها سُمُّ زعاف.
لماذا تستخدم الشّاعرة آمال عوّاد رضوان الأسطورة، وتجعلُها محورًا وأحدَ أهمّ عناصر القصيدةِ وكأني بالشاعرة آمال عوّاد رضوان تقول: إنّنا نعيشُ في زمنِ الأساطير، وقد عُدنا بواقعِنا المُترَدّي فكريًّا إلى تلكَ المتاهاتِ الأسطوريّةِ الّتي سأتجاوزُها، وإن كانتْ صرختُها تُعبّرُ عن زمنٍ مُرتجعٍ يكادُ يقذفُ ذاتَهَ وأدواتِهِ، ليحضنَها هذا الزّمنُ الّذي تداخلتْ بهِ كلُّ المَجرّاتِ الفكريّةِ والوجوديّة، وكأنّ صرخةُ الأسطورةِ تخنقُ حنجرةَ الحاضر، وهذا ما تُؤكّدُهُ الشّاعرةُ في أكثرَ مِن قصيدةٍ، فتتّكئُ على مُفرداتِها وصُوَرِها فتقولُ:
هِيرَا.. أَيَا مَلْجَأَ النِّسَاءِ الْوَالِدَاتِ/ لِمْ تُطَارِدِينَ نِسَاءً يَلِدْنَنِي/ وَمِئَةُ عُيونِكِ.. تُلاَقِحُ عَيْنِي
وَ.. تُلَاحِقُ ظِلِّيَ الْحَافِي؟
نعم، هي هيرا والقصيدةُ تُفجّرانِ زمنًا يتّشحُ بسوادِ ليالينا! هي هيرا في براري عتمتِنا تُعشّشُ وفينا. هي قصيدةٌ انبثقتْ على استحياءٍ، وأحلامُنا لمّا تزلْ في كوخِها تُراوحُ الزّمان والمكان، ونحنُ المُتعَبونَ مِن جنونِها لمّا نزلْ نتفجّرُ ترفًا وإعجابًا بجَمالِها، ورائحةُ احتراقِنا تتمخترُ وتتبعُنا مِن زمنٍ إلى زمنٍ، وكما الفصول تتوالى علينا، وكأنّها استمرَأتْ عذابَنا وموْتَنا بينَ سُمّ عقربها وعقاربها، وعبقريّتِها في اختراعِ شتّى صنوفِ القهرِ والتّعذيب!
إِلَى خَفْقٍ مَجْهُولٍ/ يُهَرْوِلُ عِمْلاقُكِ فِي رِيحِهِ/ يَقْتُلُهُ شِعْرِي الْخَرُّوبِيّ
أَنْثُرُ مِئَةَ عُيونِهِ شُموعًا/ عَلَى قُنْبَرَتِكِ الْمِرْآةِ/ وَعَلَى اخْتِيَاِل ريشِكِ الطَّاؤُوسِيّ
نعم، هيرا مملكةٌ مُتوَّجةٌ على عرش احتراقِنا وعلى سُلّمِ أولويّاتِنا، تُطاردُنا بخيلاءِ طاوسيّتِها، والسّيوف سيّدتي مُعشوْشبة بادحةٌ، وما مِن حيلةٍ ترُدُّ بها سُعفَ العيونِ الشّراريّة، فنحن مُخدَّرون حتى الثّمالة، لا شيءَ يُشبهُنا غيرَ قيْدِنا، وإن كان ذهبيًّا يتبدّى!
هي الشاعرة آمال عوّاد رضوان ما انفكّتْ تُعالجُ بالعشقِ قضايانا برسالةٍ روحيّةٍ تستهوينا، وكأنّي بها تقولُ: إنّ العلاقة الإنسانيّة ما بينَ الجمادِ والمُتحرّكِ، هي ذاتُ العلاقةِ التي ترسمُ مَلامحَ القادمِ مِن بينِ عقاربِ الزّمن، فتغزلُ مِن الإيحاءِ بلاغتَها الصّوريّة، في مطاردةٍ لخفقِ المجهولِ خلفَ الظّلّ الحافي، لتصوغَهُ شِعرًا خرّوبيًّا بلون خرّوب أرضِها، ومَلامحُ وجهِ القصيدةِ حروفٌ مُنتقاةٌ مُستوْحاةٌ، ما بينَ أرضٍ وسماء، وما بين أسطورةٍ وواقعٍ مَعيش، ما بينَ صراعُ الشّرقِ والغرب، فالنّصُّ يَكادُ يُعجزُنا عن مُلاحقتِهِ أو فكِّ رموزه، فمَرّةً تتجسّسُ العيونُ مُشعّةٌ بعبثيّةٍ فوضويّةٍ، ومَرّةً نستمرئُ العذابَ ببَللٍ نتخدّرُهُ حدّ الثّمالة، ونتطوّسُهُ بغرور، وإنْ كنّا نُحاولُ الفَكاكَ من هذه الشرانقِ القابضة على رقابنا باسْم الحُبّ والقداسة!
كَمْ شَفيفَةٌ بِلَّوْراتُ غُرورِكِ/ تَنْفُشينَهَا/ تَفْرُشينَهَا / بِسَيْفِ شَغَبٍ يشعْشِعُنِي
كَيْفَ أَرُدُّ سَطْعَهُ إِلى عَيْنَيْكِ/ وَمَنَابِعُ الْحَذَرِ أَخْمَدَتْهَا نِيرَانُكِ؟
نحن المحترقونُ المُقيّدون بقيودٍ ذهبيّةٍ نتخبّط ما بينَ (نارِ الأديم ونورِ السّديم)، وهنا أضعُ النّقاطَ ويُوقِفُني النّصّ. ترى إلى أيّ الفيافي تذهبُ بنا الشّاعرةُ وآمال عوّاد رضوان، وتجعلُنا نلهثُ وراءَ أسطوريّةِ العشق، فنحسبُنا قد قبضْنا على رموزِ المَغناة، لكن هنا تتزاحمُ الصّورةُ الأخرى لتأخذَنا إلى المَنحى الآخر، فالشاعرةُ تتفجّرُ برمزيّتِها، حيثُ تسحبُنا إلى ما تحتَ العشب وما تحت الرّيش، في تصارُعٍ ذكيٍّ يُجسّدُ صراع الحضارات، ولهاثُنا نحنُ بكلّ ما هو قادمٌ مِن أدواتِها وفِكرِها ولميعِ مَعادنِها، لنرانا كما العبيد نُهادنُ سطْوَتَها، ونستعذبُ موتَنا في حقولِها المُعشوْشبة، بيدَ أنّنا نُشاغلُ خدَرَنا ووجَعَنا وموْتَنا بسُمِّ عقربها اللفظيّ والزمنيّ، نُشاغلهُ بالحنين إلى مَواطنِ جَمالِنا الآخر، حين كنّا نحن الحضارة والرقيّ!
أَيْنَ مِنّي “حَبِيبِي”/ كَوْكَبُ أَلَقٍ.. في سَمَا رُوحِي
يُضِيءُ دَرْبَ إِلْهَامِي إِلَيْكِ/ ويَحُطُّ فَوْقَ مَغارَةٍ تُنْجِبُنِي؟
بإشارةٍ منكِ إلى مدينة المهدِ بيتَ لحم مهدِ وأرضِ النّبوءاتِ والحضاراتِ، كأنّكِ تستنجدينَ بكوكبٍ يُضيءُ دربَنا إلى مغارةِ الحياة؟! نراكِ تُسائلينَ هذهِ العقربةُ السّامّةُ المُتلوّنةُ ببهلوانيّة، ونحنُ المُتلبّسون بإغواءاتِها وإغراءاتِها، نرانا غرْقى في طقوس شيطانيّتِها الناعمة كما النعناع!؟ كم موجعٌ أن تنزفي واقعَنا برمزيّةِ حروفِكِ، حيثُ تُجسّديننا بأحوالِنا المُستديمةِ عبْرَ زحمةِ الأصداءِ الّتي تضجُّ بنكباتِنا ونكساتِنا وويْلاتِنا في متاهاتِ الفصول!
هَا شَرَارَاتُ يَاسَمِينِكِ تَغْسِلُنِي/ بِحَرَائِقِ غُبَارِكِ الْفُسْتُقِيِّ/ أَنَا الْمُحَاصَرُ.. بِزئبقِ مَرَايَاكِ
إِلاَمَ تَبْكِينِي نَايُ زِنْزَانَتِي / وَتَظَلُّ تُلَوِّحُنِي.. مَنَادِيلُ الْوَدَاعِ!
وها نحنُ الحضورُ الأحدبُ في زنزاناتِ بلادِنا المُحاصرَة، كالزّئبقِ في بُؤرِ المَرايا المُقعّرةِ والمُحدَّبةِ، لا نلبثُ نُصطادُ في مواقعِ الموتِ والغربةِ والاغتراب والضّياع، نتلفّتُ، ونتفلّتُ منّا ومِن كلّ ما كان لنا، وتظلّ تلوّحُنا مناديلُ الموتِ والضّياع!
أيْنَ مِنِّي “حَبِيبِي”/ نَغْمَةٌ فِي حُقُولِي
كَمِ انْدَاحَتْ قَطِيعًا/ مِنْ قُبَّراتِ حَيَاةٍ تَرْعَانِي؟
هكذا تستخدمُ الشاعرةُ آمال عوّاد رضوان أبعادَ العشقِ الرّوحيّ المقدّسِ، في دلالاتِها على سقوطِنا المُذِلّ بين أنيابِ الحضاراتِ السّامّةِ، والّتي ما انفكّتْ تُشاغلُنا وتَحبسُنا وتَسحبُنا كالمهووسين إلى حقولِ التشرذُمِ والضّياع، ونحن المسمومونَ المُشرذَمونَ في تَمزُّقِنا، عبثًا نحاولُ التّمسُّكَ بوطننا وبتربتِنا وجذورِنا، بيدَ أنّ الجرْفَ يسحبُنا إلى هيرا مُكبّلينَ مُنصاعين، وكأنّ على رؤوسِنا الطير، نضعُ أقدارَنا ونعيمَنا وكلّ جَمالٍ جميلٍ بينَ خيوطِ أخطبوطِها..
أَحَبِيبَتِي يَشْكُوهَا الْوَجَعُ؟/ أَيْنَ مِنِّي جَمَالُهَا / يُخَلِّصُهُ قُبْحُكَ هِيفَايْسْتْيُوس؟
قَلْبُكِ الْمَكْفُوفُ بِبَرِيقِ الْغَيْرَةِ/ يَخْتَلِسُ لُؤْلُؤَ خَفْقِي
آهٍ مِنْ لَيْلِي.. يُخْفِي وَيْلِي/ يَجْمَعُ ذَاكِرَةَ أَنْفَاسِكِ الْمَبْذُورَةِ/ عَلَى رَمَادِ أَنْفَاسِي!
وأصرخُ: هيرا، لم يعُدْ جَمالُكِ يفتنُني، ما دامَ الجَمالُ لديكِ اختناقٌ وشَرٌّ وبُؤس وشقاء! نعم، يا أسطورةَ الالْتِيَاعِ، فأنتِ كما أنتِ لا جديد، مُعلّقةٌ ما بينَ الأرضِ والسّماءِ، بمليون عينٍ تَرقبينَ وتنقضّين، والطّفولةُ فريستُكِ ومفتاحُ شهيّتِكِ وشهوتِكِ، كأنّ السّماءَ خُلقتْ لأجلِكِ، وكأنّ الأرضَ طُوِّعَتْ لأخطبوطِكِ، فصارَ لكِ في كلِّ زاويةٍ مليونَ يدٍ ومليونَ ناب، تنثرينَ السُّمَّ الزّعافَ حيثُ أقمتِ وتقيمين، ليفنى كلُّ ما حولك وتظلّين هيرا الأسطورة الّتي لا تُقهر، وعملاقُكِ يبسطُ عضلاتِهِ وفكرَهُ وعقلَهُ وقدرتَهُ وقدراتِهِ، (شُبّيك لبّيك عبدك بين إيديك)، يُدغدغُ أحلامَكِ ويَرقصُ رقصتَكِ. نعم هيرا الحاضرةُ فينا، هو الزّمنُ الحاضرُ القادمُ يفتحُ ملفّاتِهِ، ليَضعَكِ أمامَ قبح رسالتِكِ، ويُعلنَ سقوطَكِ وسقوطَ أسطورتِكِ، وإنْ كانَ قبحُ وليدِك هيفايستيوس خلاصًا لكِ يفكُّ قيدَكِ، فهيهات يدومُ في الزّمانِ قبحٌ!
إنّ رغبة الحياةِ تلدُنا مِن رحمِ الوجعِ لنحيا كما أراد الله، لا كما قضَتْ أسطورتُكِ، فأنتِ كما أنت في استفحالِ شرورِك وتَوحُّشِكِ، ونحنُ وإنْ كنّا على أرصفةِ الهوامش، لمّا نَزلْ مُحنّطين، ونحن على أرصفةِ الهوامشِ لمّا نزلْ مُحنّطينَ بفتاتٍ مِن ليتَ وعسى ولوْ، وإلى آخِر حرفٍ مِن حروفِ ولوَلتِنا نشربُنا، بل تشربُنا كؤوسُ الضّياع، لنظلَّ في حرائقِ غبارِكِ الفستقيّ الفوسفوريّ والعنقوديّ مناديلَ وداعٍ للرّاحلين منّا والرّاحلينَ عنّا. هيرا، فقط لو تذكرين وتتذكّرين، أنّ العملاقَ قتلتُهُ، وأنتِ قضيتِ إلى قمقمِكِ كما تقضي كلُّ آلهةِ الأساطير:
بِقَيْدِيَ الذَّهَبِيِّ / بَيْنَ نَارِ الأَدِيمِ وَنُورِ السَّدِيمِ/ مِنْ مِعْصَمَيْكِ
عَ لَّ قْ تُ كِ/ نَجْمَةً تَتَبَهْرَجُ أُسْطُورَةَ الْتِيَاعٍ
وعَرَائِسُ الصُّدُورِ النَّاضِجَةِ/ تُ ثَ رْ ثِ رُ كِ/ جُمُوحَ تَحَدٍّ يُهَدِّدُنِي!
نعم سيدتي آمال، هكذا هيرا كما الأسطورة تسلّلتْ إلينا في ليلِ عتمتِنا، بكامل حاشيتِها وعتادِها وبعيون عملاقِها، لتَحيكَ ثيابَنا برموشِ حروفِ قصيدتِكِ. هي هيرا تُواكبُنا مِن جيلٍ إلى جيل باللفظِ والماوراء، وهي حاضرةٌ فينا ولا تزالُ واثقةَ الخطى، وكأنّها على استحياءٍ تبدو، لكنّها تتجلّى في ثنايا أكواخ أحلامِنا.
نعم، هم هكذا كأسطورةٍ قدِمُوا إلينا.. أتراهم برجْع أغنياتٍ عِذابٍ يَستردّونَ عطورَهُمُ المُشتهاةَ، لتظلّ تتحدّرُ موسيقانا الشّاحبةُ رجْعَ وَجَعٍ على سُلّمِ الماءِ والحياة؟! أتبقى هيرا هي الغائبةُ الحاضرةُ فينا، تستهدفُنا في أرحامِ أمّهاتِنا؟
نعم عزيزتي الشاعرة آمال رضوان، هي هيرا الّتي تسلّلتْ إلى حيواتِنا، وعبرَ نزَقِ حُروفِكِ وعبرَ السّنين، ما انفكّتْ تستهدفُ أرحامَ الأمّهاتِ والطفولةِ البريئة. هي هيرا القابضةُ على أرواح أمانينا وكلِّ ما نملكُ في جُعبتِنا المُتواضعةِ مِن رذاذِ آمالِنا وأحلامنا.
الشاعرة المُتمكّنة مِن أدواتِها تُصوّرُ لنا كيفَ تسلّلتْ تلكَ الغانية في ليلٍ خدر، وكما العقربة تجتازُ عقاربَ الزمن، فنرتمي في ليلها الحريريّ، ونحسبُ أنّنا امتلكناها، فإذا هي تقبضُ على مصائرنا وقدراتِنا وأقدارِنا ومُقدّراتِنا، لنرانا حفاة عراة في حقولها مقيدين الى سمومها تلوحنا مناديل الوداع.
نعم عزيزتي العاصفة لم تهدأ بعد، بل هي تزداد إعصارًا يكادُ يقتلعُنا بكلّ فصولنا، ولسخافاتنا وحماقاتنا بات صوتٌ يُطربنا، بل استعذبناه حتّى صار منّا وصرنا منه.. مُحنّطون ما بين نار الأديم ونور السديم، وأيّ نجمة نرنو إليها وهي النجمة المعلقة في فضاء الأماني تُشاغلنا بطغيانها وجبروتها، وعرائس الصدور الناضجة وغير الناضجة أكلها ومشربها، فهل بعدُ أقسى من هكذا وجع؟
أسْطُورَةُ الْتِيَاع؟/ آمال عوّاد رضوان
طِفْلَةً
تَسَلَّلْتِ فِي بَرَارِي عَتْمَتِي
وعَقارِبُ نَزَقي.. تَنْمُو بَيْن خُطُواتِكِ
تَغْزِلُ بِرُموشِ حُرُوفِكِ حَريرَ وَجْدٍ
مِنْ خُيُوطِ مُبْتَدَاي
*
قصِيدَةً
قصِيدَةً انْبَثَقْتِ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ
تَجَلَّيْتِ.. بِكُوخِ أَحْلَامِي
تَوَّجْتُكِ مَلِكَةً.. عَلَى عَرْشِ جُنُونِي
وَأَنَا التَّائِهُ فِي زَحْمَةِ أَصْدَائِكِ
لَمَّا تَزَلْ تَفْجَؤُني.. ثَوْرَةُ جَمَالِكِ!
*
رَائِحَةُ فُصُولِي.. تَخَلَّدَتْ بِك
بِرَجْعِ أُغْنِيَاتٍ عِذَابٍ.. تَتَرَدَّدُ عِطْرَ عَذَابٍ
زَوْبَعَتْنِي
فِي رِيبَةِ دَمْعَةٍ .. تُوَارِبُهَا شَكْوَى!
إِلاَمَ أظَلُّ أتَهَدَّلُ مُوسِيقًا شَاحِبَةً
عَلَى
سُلَّمِ
مَائِكِ؟
*
هِيرَا.. أَيَا مَلْجَأَ النِّسَاءِ الْوَالِدَاتِ
لِمْ تُطَارِدِينَ نِسَاءً يَلِدْنَنِي
وَمِئَةُ عُيونِكِ.. تُلاَقِحُ عَيْنِي
وَ.. تُلَاحِقُ ظِلِّيَ الْحَافِي؟
*
إِلَى خَفْقٍ مَجْهُولٍ
يُهَرْوِلُ عِمْلاقُكِ فِي رِيحِهِ
يَقْتُلُهُ شِعْرِي الْخَرُّوبِيّ
أَنْثُرُ مِئَةَ عُيونِهِ شُموعًا
عَلَى
قُنْبَرَتِكِ الْمِرْآةِ
وَعَلَى
اخْتِيَاِل ريشِكِ الطَّاؤُوسِيّ
*
كَمْ شَفيفَةٌ بِلَّوْراتُ غُرورِكِ
تَنْفُشينَهَا
تَفْرُشينَهَا
بِسَيْفِ شَغَبٍ يشعْشِعُنِي
كَيْفَ أَرُدُّ سَطْعَهُ إِلى عَيْنَيْكِ
وَمَنَابِعُ الْحَذَرِ أَخْمَدَتْهَا نِيرَانُكِ؟
*
بِقَيْدِيَ الذَّهَبِيِّ
بَيْنَ نَارِ الأَدِيمِ وَنُورِ السَّدِيمِ
مِنْ مِعْصَمَيْكِ
عَ
لَّ
قْ
تُ
كِ
نَجْمَةً تَتَبَهْرَجُ أُسْطُورَةَ الْتِيَاعٍ
وعَرَائِسُ الصُّدُورِ النَّاضِجَةِ
تُ ثَ رْ ثِ رُ كِ
جُمُوحَ تَحَدٍّ يُهَدِّدُنِي!
*
أَحَبِيبَتِي يَشْكُوهَا الْوَجَعُ؟
أَيْنَ مِنِّي جَمَالُهَا
يُخَلِّصُهُ قُبْحُكَ هِيفَايْسْتْيُوس؟
*
قَلْبُكِ الْمَكْفُوفُ بِبَرِيقِ الْغَيْرَةِ
يَخْتَلِسُ لُؤْلُؤَ خَفْقِي
آهٍ مِنْ لَيْلِي.. يُخْفِي وَيْلِي
يَجْمَعُ ذَاكِرَةَ أَنْفَاسِكِ الْمَبْذُورَةِ
عَلَى رَمَادِ أَنْفَاسِي!
*
أيْنَ مِنِّي “حَبِيبِي”
نَغْمَةٌ فِي حُقُولِي
كَمِ انْدَاحَتْ قَطِيعًا
مِنْ قُبَّراتِ حَيَاةٍ تَرْعَانِي؟
*
أَيْنَ مِنّي “حَبِيبِي”
كَوْكَبُ أَلَقٍ.. في سَمَا رُوحِي
يُضِيءُ دَرْبَ إِلْهَامِي إِلَيْكِ
ويَحُطُّ فَوْقَ مَغارَةٍ تُنْجِبُنِي؟
*
يَا مَنْ تَوارَيْتِ فِي حَانَةٍ
دَلِيلُهَا الْهَيْمَنَةُ
تَسْكُبِينَنِي جَحِيمًا.. فِي كُؤُوسِ الضَّيَاعِ
وَتُرْوِيكِ.. قَوَارِيِرُ هَجْرِي الدَّاغِلِ
فَلاَ تَنْتَفِخِينَ بِآهَاتٍ مُتَشَرِّدَة!
*
إِلاَمَ نَظَلُّ رَهَائِنَ بَهْلَوَانِيَّةً
يَلْبَسُنَا طُوفَانُ نَعْنَاعٍ لاَ يَنَام؟
*
ها شَهْوَةُ شَرَائِطِي الطَّاعِنَةُ بِالْعُزْلَةِ
تُزَيِّنُكِ
فَلاَ تَخْتَلُّ إِيقَاعَاتُ أَجْرَاسِكِ النَّرْجِسِيَّة!
*
هَا شَرَارَاتُ يَاسَمِينِكِ تَغْسِلُنِي
بِحَرَائِقِ غُبَارِكِ الْفُسْتُقِيِّ
أَنَا الْمُحَاصَرُ.. بِزئبقِ مَرَايَاكِ
إِلاَمَ تَبْكِينِي نَايُ زِنْزَانَتِي
وَتَظَلُّ تُلَوِّحُنِي.. مَنَادِيلُ الْوَدَاعِ!