تركيا والإقليم
هل تتذكرون حين طالب أحمد داوود أوغلو أن تنضمّ تركيا إلى جامعة الدول العربية؟ وحين ألقى أردوغان خطبته العصماء في القمّة العربية في سيرت، ليبيا عام 2010؟ وقبلها حين انتفض أردوغان في وجه بيريز في دافوس انتصاراً لفلسطين؟ وحين أرسل سفينة مرمرة لفكّ الحصار عن قطاع غزّة؟ كلّ هذه كانت محاولاتٍ للسيطرة على الإقليم بأساليب ناعمة، ولعودة العثمانية الجديدة إلى وطننا العربي، ولكن بأسلوب يدّعي الحرص والتعاون وفتح الحدود والتبادل والمصالح المشتركة.
وحين فشلت كلّ هذه الأساليب في تحقيق المرتجى، كشف المخلوق عن مخالبه، فكان مؤيداً لاستهداف ليبيا، رغم أن الاستثمارات التركية فيها كانت تحتلّ المرتبة الأولى، وبهذا الموقف الأحمق ساهم في تدمير ليبيا، ولكنّه ساهم أيضاً في تدمير استثماراته هو، والتي كانت موقع امتعاض حتى من دول كبرى. وبعدها أيضاً تمّ استعداء مصر بعد أن هزم الشعب المصري مشروع الإخوان المسلمين، وربما كانت هذه هي اللحظة الفارقة في تراجع المشروع العثماني– الإخواني في المنطقة، وتخلّيه عن أساليبه الناعمة القديمة، ولجوئه إلى أسلوب دعم الإرهاب والعنف لتحقيق أهدافه ومبتغاه.
ومن هنا، فقد كانت السياسة الأردوغانية رأس الحربة في كلّ الإرهاب الذي تعرّضت له سورية، وفي كلّ النهب الذي طال معاملنا ومؤسساتنا وتراثنا الثقافي. وكانت الحدود التركية المعبر شبه الوحيد لآلاف الإرهابيين الذين قدِموا من كلّ أصقاع الأرض ليدنّسوا أرضنا الطاهرة، ويغتصبوا الأمن والأمان في مجتمعنا. وبعد قرابة سبع سنوات من التواطؤ مع قطر والسعودية في تمويل وتمرير وتسليح الإرهاب القادم إلى سورية، وبعد أن بدأت ارتدادات الإرهاب تصل إلى مختلف المناطق في تركيا، يبدو أن العثماني الجديد أعاد النظر في سياساته قبل أن تشتعل ساحة المعركة على مستوى بلاده كلّها. ولكنّ ارتداده هذا رافقه تفكير لا يقلّ شيطانية بتمويل وتحريك الأتراك في أوروبا والعالم.
وقد خصّص ميزانياتٍ ضخمة وآلياتِ عمل واضحة كي يكون الأتراك في أوروبا ورقة يستخدمها هو لإكراه هذه البلدان على الموافقة على سياساته الرّعناء. وبدأ بقضية اللاجئين التي كان هو أحد أسبابها الأساسيين، وحاول إقناع بعض الحكام الأوروبيين بأنّه هو الحلّ وهو المنقذ لهم من هذه الإشكالية التي وصلت أعماق مدنهم وبلدانهم على حين غرّة. ولكنّ الجديد والمهمّ اليوم أن أوروبا وأميركا وصلتا إلى قناعة وهي أن تتساءلا، على الأقلّ، عن نيات هذا التحرّك الأردوغاني المشبوه، كما فعلت قبلهم الصين. ولهذا اتخذ الاتحاد الأوروبي قراراً بأن تركيا لن تكون عضواً في الاتحاد الأوروبي في المستقبل المنظور. والأهمّ اليوم أن هولندا والنمسا وألمانيا تمنع وزير خارجية تركيا من الزيارة خوفاً على أمنها القومي، وهذا عين الصواب، لأن أردوغان ينظّم الجاليات التركية في هذه البلدان ضمن شبكة الإخوان المسلمين التي يديرها ويعتبر نفسه خليفة لها، ويؤكّد على كلّ من هم من أصول تركية، سواء أكانوا في الصين، أم جمهوريات آسيا الوسطى، أو في أوروبا، أن ولاءهم الأول له هو ولعثمانيته الجديدة، وليس للبلدان التي أصبحوا مواطنين شرعيين فيها.
لقد ظنّ العثماني الجديد نفسه أذكى من أميركا وأوروبا وروسيا، وحاول أن يلعب على توازناتٍ يخدع من خلالها كلّ هذه البلدان مجتمعة، ويضاف إليها إيران أيضاً. ولكنّه ربما لم يسمع بالمثل القائل: « يمكن أن تخدع بعض الناس لبعض الوقت، ولكن لا يمكنك أن تخدع كلّ الناس كلّ الوقت». ونتائج سياساته لا تتوقّف عند تراجعه في الملف السوريّ، ولكنها تصل إلى عقر داره في الوضع الأمني والاقتصادي والسياسي، ولذلك، وإذا كان قبل سنوات يطمح إلى أن يسيطر على الإقليم، وأن يبسط عثمانيته الجديدة على وطننا العربيّ، فلا شكّ أن جُلَّ ما يطمح إليه اليوم هو أن يعيد عجلة اقتصاده إلى ما كانت عليه، وأن يحافظ على تركيا كما كانت قبل أن تبدأ مشاريعه الطموحة، والتي تعتمد في أساسها على جنون العظمة الذي أصيب به. سوف تتسع الهوّة بين أردوغان والدول الأوروبية، وسوف تتفاقم مشاكله مع الناتو ومع الولايات المتحدة، ولذلك بدا مقداماً مع الرئيس بوتين خلال زيارته لموسكو بشأن تثبيت مبدأ وحدة الأراضي السورية، وعودة جميع الأراضي إلى سلطة الجمهورية العربية السورية، والجهود المشتركة لمكافحة الإرهاب. ولا ننسى أن الولايات المتحدة قد عزّزت قواتها، ليس فقط لطرد داعش من الرقّة بالتعاون مع الآخرين، ولكن أيضاً في وجه أردوغان، ووجه مشروعه الذي تشدّق به منذ أيام أن قواته ستكمل إلى منبج والرقّة.
مع تصاعد التنسيق الروسي – الأميركي المتوقع في المستقبل القريب، ومع ازدياد القلق حول سياساته في أوروبا والإقليم، سوف يبتلع العثماني الجديد غروره، وينسّق مع الاتحاد الروسي في أستنة وجنيف، ويتراجع عن استعدائه لإيران، ويبتلع القرارات المهينة له بمنعه ومنع وزير خارجيته من زيارة دول أوروبية. علّ كلّ هذا يدفعه لإعادة التفكير بمقدراته وسياساته قبل أن يفوته الأوان، ويصبح ضحية غروره واستكباره وجرائمه بحقّ الأبرياء في سورية وليبيا وغيرها من البلدان.