لاءاتهم الثلاث في شاشاتنا العربية:
ما ينفك الإنسان البدائي الأول-حتى في رحلته الأبدية التي لا عودة له منها- مستغربا أشد استغراب من بني طينته في الزمن الراهن? أو في زمن نهاية التاريخ كما تحرص على وصفه الإمبراطورية الهوليودية? فكيف للدماغ البشري الذي كان يستجدي من الطبيعة بأمس بعيد صخرة تحمل نقوش ذاكرته? أن يصنع لنفسه طبيعة مستحدثة بنقوش متحركة: صوتا وصورة? وباستخدام أحدث التقنيات في مجال صناعة السينماتوغرافيا? لدرجة لم يعد فيها مكان للتخيلات الوهمية التي طبعت أولى نزعات الفكر البشري نحو التفلسف? فكل ما يترائ للخيال الآن يجد له تجسيدا فعليا عبر التطبيقات العلمية? إنه تأريخ حقيقي للواقع في شكل من أشكال بناءه الجديدة ألا وهي بناءات السيناريوهات والتي ما أكثرها? فرهان الصورة الفوتوغرافية المتحركة دفع بالكثيرين إلى اعتبار اللغة السينمائية بزوايا تصويرها ومفردات أدائها س?فرا يحمل في ثناياه صناعة فكرية جديدة لثقافات الأمم? كما لا يجب اغفال نقطة مهمة جدا وهي أن السينما ليست فقط مجرد تقنية أستحدثت ليلة السبت القارص 28 ديسمبر 1895 على يد الإخوة لوميير إنما أصبحت فنا أضافه الناقد الفرنسي ذي الأصل الايطالي (ريتشيوتو كانودو) سنة 1923م? إلى قائمة فنونه الستة كفن سابع أو كبوتقة للفنون: العمارة? الموسيقى? الشعر? الرقص? الرسم? النحت? ويمكن الجزم على ضوء تأثيراتها أن نقول أن السينما أضحت وسيلة تثقيف? لكن تمظهراتها الفاتنة التي تسحر العين المجردة في مستوى أول? تدس في مستوى ثان رسائلا مشفرة إلى جمهور يتدبدب بين أيقونية الصورة وصورة الأيقونية? لذا فبين الدال (الصورة المرئية) والمدلول (الصورة المفهومة) يمكن استحاء مستوى مكمل لسابقيه والذي عبر عنه رولان بارث بالبعد الثالث ألا وهو المرجع? فالسينما أصبحت تعبيرا محضا عن مرجعية أيا كانت صفتها: لغوبة? فكرية? دينية? سياسية…ومن ذلك نخرج بنتيجة مفادها ما أدركه مارشال ماكلوهان أن السينما هي الوسيلة الاتصالية الساخنة التي تخاطب اللاوعي? مسجلة في العقل الواعي نمطا متكاملا من الأفكار والاتجاهات والسلوكات التي تبلور في الختام الإيديولوجية الفكرية? إذن ونخلق للإعلام وظيفة صياغة الثقافة.
إنها تداعيات الإعلام التكنوقراطي التي نتج عنها ما يعرف بخلق البدايات في ظل النهايات? وجوهر الحديث هنا هو نهاية المسافة ما تولد عنه مجتمع ما بعد الحداثة? والذي أحال البشرية قرية صغيرة تدور في فلك لا يرسخ إلا لمبدأ المواطنة العالمية? وهذا يعني إلغاء الانتماء للأرض? وللذاكرة الجمعية? والمصير المشترك أيضا? إنه الرهان المحتوم الذي لابد منه: انسلاخ عن الهوية الثقافية في سبيل الانتماء للثقافة الكونية التي تعتبر منتوجا إعلاميا يفوق حدود الخصوصيات المحلية? ويستبعد أو ل?نق?ْل يدحض هذه الخصوصية? وفي مقدمتها البيئة العربية بمكوناتها الجوهرية: اللغة? الدين أو المعتقد? والنسق القيمي.
إذن هناك اتفاق مبدئي حتى الآن على أن إعلام اليوم -والمرئي منه خصوصا- لا يمت للخريطة المشرقية والمغاربية بصلة? ولكنه رغم ذلك ي?ْصنع لها. كيف يمكن الربط بين هذين النقيضين من خلال حضور ولا حضور الكائن العربي في الإعلام الغربي? ببساطة هناك صناعة إعلامية جبارة للميتافيزيقا? رغم أن مجتمع المعلومات قائم على إلغائها في خضم الاعتراف بمبدأ السببية? فكيف له أن يخلق ماورائيات العرب? من منطلق أن الوظيفة تخلق العضو فإن القوى الإعلامية في العالم سواء الخفية منها: اللوبي الصهيوني? أو الظاهرة للعيان: الإعلام الامريكي? خ?ْلق?ِت لوظيفة واحدة: رسم ملامح هوية جديدة أكثر ملائمة للعولمة الإعلامية? لا لشيء غير أن يحمل المخيال العربي صورة كاريكاتورية واحدة: قارات العالم السبع: (أمريكا الشمالية? أمريكا الجنوبية? أنتاركتيكا? إفريقيا? أروبا? آسيا? أستراليا) بجغرافية واحدة (خريطة الولايات المتحدة الأمريكية فقط) ويمكن تسميتها بأمركنة العالم.
وعلى الأوراق الإعلامية? في كبريات المؤسسات المنادية بأخلاقيات المهنة كل شيء مباح? فالشعارات اللامعة لا تصلح إلا لقانون لم ولن يطبق? تماما كما هو الحال بالنسبة لما سنه رجال الإعلام في أمريكا أين حظروا ثلاث عناصر في المضامين الإعلامية وهي: لا للعنف? لا للسياسة? لا للجنس? ولقبوها باللاءات الثلاث وذلك لتنافيها المطلق مع القيم الإنسانية العليا? لكن وبعد أن اكتشفوا المكان الشاغر الذي يملأه الفراغ في العقول العربية عملوا على إسقاط لاءاتهم على كاميرات تصوير رقيمة تفرز صورا سينمائية متكاملة كمثلث متوارزي الأضلاع? في أعلاه السياسة وفي طرفاه العنف والجنس? وبعد عملية التقلين البارعة? صرنا نحن نصنع بأنفسنا ولأنفسنا على شاشاتنا العربية هذه اللاءات كمظهر من مظاهر العصرنة التي علينا التساءل حقا بشأنها: هل في الهوية العربية الإسلامية نص دال بمشروعية السياسة (الباطلة) العنف (المهلوس) الجنس (الماجن)?
* بوخاري حفيظة: أستاذة محاضرة بجامعة الجزائر.
(كلية العلوم الاجتماعية