المخابرات الأمريكيّة تضع تونس تحت المجهر وتكشف وثائق عن الإسلاميّون و الشيوعيّون و تسييس الجيش و الإرهاب
شهارة نت – تقرير :
أفرجت وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكيّة عن حوالي 13 مليون صفحة من وثائقها السريّة، ونشرتها مؤخرا على موقع الوكالة على شبكة الأنترنت
وتكشف هذه الوثائق أنشطة الوكالة في مختلف مناطق العالم، وتضمّنت آلاف الوثائق المتعلّقة بتونس منذ نهاية الأربعينات من القرن الماضي حتى بداية التسعينات. وراعت عملية النشر ضرورات حذف أسماء المصادر وحجب أجزاء من النصوص والصور.
وتظهر أكثر من 100 وثيقة حول تونس أنّ عمل المخابرات المركزية الأمريكية المتعلق بالشأن التونسي لم يقتصر على البرقيات الإخبارية المختصرة، بل شمل ورقات دراسية وتحليلية حرّرتها مكاتب مختلفة في الوكالة عن الأوضاع الإقتصادية والسياسية والإقليمية تضمنت إستنتاجات وتوصيات، كما أنّ بعض البرقيات هي مقتطعات من صحف أمريكية متابعة للشأن التونسي. وتوفرت ورقات متخصصة مثال وثيقة مطوّلة بعنوان « تسييس الجيش » حررت في جانفي 1986 وورقة بعنوان « الإسلام في شمال إفريقيا قوة ثورية محتملة » وتحليل بعنوان: « آفاق حكم بن علي ».
* برقيات ما قبل الإستقلال:
توجد عديد المعطيات عن الفترة ما قبل الإستقلال متابعة لتحركات قيادات الحركة الوطنية في تونس وفي الخارج، ومتابعة لبعض الأحداث. وبين الوثائق برقية بتاريخ 26 أكتوبر 1948 بعنوان « عبد الكريم الخطابي يتهم بورقيبة ». والملاحظ أنّ نصّ هذه البرقية حجب منه جزء كبير يبدو أنّه يتعلق بالمصدر وبمناسبة تصريح الخطابي. وجاء في الفقرة المتبقية من النص أنّ عبد الكريم الخطابي، الزعيم المغربي ورئيس مكتب المغرب العربي بالقاهرة، إتهم الحبيب بورقيبة بكونه أحد أعوان الأجهزة الفرنسية. وعندما طلب منه إثبات ذلك الإتهام، إمتنع عن الحديث أبعد من ذلك في الموضوع وطلب أن تبقى المعلومة سرّية، وفق نص البرقية.
وتكشف وثيقة أخرى مؤرخة في 16 ماي 1952 بحلب السورية إستنادا إلى مصدر لبناني، أنّ الزعيم الفلسطيني المفتي أمين الحسيني كان محلّ متابعة أمريكية، وأمكن للجهاز الأمريكي الحصول على معلومة تتعلق بتونس، مفادها أنّ الشيخ يسعى إلى تأسيس منظمة سرّية لمساندة الحركة الوطنية التونسية، ويتعاون في ذلك مع صالح بن يوسف الموجود في فرنسا آنذاك. وتلاحظ البرقية أنّ بن يوسف على صلة غير مباشرة مع وزير الفلاحة التونسي عبد العزيز المنشاري، وتضيف أنّ هناك أشخاص يوافون بن يوسف بمتابعة دائمة لأعمال الوزراء التونسيين وقراراتهم.
وقبل شهرين من إغتيال فرحات حشاد تصف وكالة المخابرات المركزية الرجل بكونه يطمح إلى الإنفراد بالزعامة، خاصة في ظلّ الفراغ الحاصل في القيادات الوطنية بسجن البعض ونفي آخرين، وقد عمل على تعطيل المفاوضات بين الباي والإستعمار الفرنسي، وذلك في مسعى لأن يحمل حشاد الملف التونسي إلى الأمم المتحدة، حسب المراسلة المؤرخة في 23 سبتمبر 1952. وفي 30 ديسمبر 1952 تقول المخابرات الأمريكية إنّ هناك 3 إحتمالات في ملف إغتيال حشاد، إمّا ضلوع المتطرفين الفرنسيّين في ذلك وقد سبق تهديدهم له، وإمّا تورّط الشيوعيّين بإعتبار عداء الشهيد لهم وإنفصاله عن النقابات الشيوعية لتأسيس الإتحاد العام التونسي للشغل، وإمّا أن يكون وراء ذلك قيادات من الحركة الوطنية قلقة من صعود زعامة حشاد. وتعلق الوثيقة بأنّ فرنسا هي أكبر الخاسرين من إغتيال حشاد وأنّ الشيوعيّين هم أكبر المستفيدين بإعتباره كان منافسا لهم. لكنّ محرّري البرقية يشيرون إلى أنّ المراقبين يرجّحون ضلوع المتطرفين الفرنسيّين.
وفي تعليقه على الإتهام الموجه إلى الشيوعيّين بالضلوع في إغتيال فرحات حشاد يشير المؤرخ محمد ضيف الله في تصريحه لـ »30 دقيقة » إلى أنّه بالفعل كان رائجا في ذلك الوقت أنّ الشيوعيّين هم أحد الأطراف المتهمة بالإغتيال، وهو ما روّجته بصفة خاصة الصحف الإستعمارية، ولكنّها إدّعاءات كان هدفها صرف الأنظار عن الطرف الفرنسي الذي نفّذ الإغتيال، حسب محمد ضيف الله.
* بورقيبة وعبد الناصر:
ترجّح نشريّة إخباريّة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية بتاريخ 7 مارس 1958 أن تكون معاداة بورقيبة لعبد الناصر يهدف من ورائها إلى كسب ثقة الغرب. وتنقل الوثيقة تهديد تونس بقطع العلاقات مع مصر وإحتجاج بورقيبة على مساعدة عبد الناصر لصالح بن يوسف.
ويرى محرّرو الوثيقة أنّ الدعاية التونسية تسعى للحطّ من شأن الزعيم القومي المصري في أعين التونسيّين، وذلك في ظل تزايد المشاعر المؤيّدة لعبد الناصر داخل تونس. وفي هذه الوثيقة أيضا حذفت أجزاء من النص بموجب السرّية.
* معركة بنزرت:
إعتبر الأمريكيّون أنّ دعوة بورقيبة في شهر أوت 1961 للتظاهر في بنزرت ضد الوجود الفرنسي هدفها حشد تأييد شعبي لطريقته في معالجة هذا الملف ولتقديم نفسه قائدا دون منازع، حسب المراسلة المؤرخة في 19 أوت 1961. وتمضي هذه البرقية في قراءة الأحداث مشيرة إلى أنّ قضية بنزرت تزامنت مع تصاعد الإنتقادات لبورقيبة، وإعتقاد الكثيرين أنّ قدرته على إتخاذ القرار وكسب تأييد الناس أصبحت متداعية.
وهذا الأمر يعيه بورقيبة جيّدا، وفق الأمريكيّين، وهو ما دفع بورقيبة إلى إعتقال أحد الزعماء السياسيّين المرشّحين لقيادة المعارضة، دون أن تذكره الوثيقة، بسبب إنتقاده العلني لسياسة بورقيبة تجاه قضية بنزرت. وتشير الوثيقة أيضا إلى إجراءات عقابية إتخذها بورقيبة ضد هيئة المحامين وتنصيب أخرى محلها، كما سجّل التقرير أنّ إنتقاد الحكومة متداول في أوساط المحامين وبين موظفي وزارة العدل الذين عملوا إبّان تولّي صالح بن يوسف منصب الوزير.
ويؤكّد الأمريكيّون أنّ القوات التونسية لا تملك سوى أسلحة خفيفة وغير قادرة على الصمود أمام الجيش الفرنسي بالمدينة، ورغم ذلك، تلاحظ الوثيقة أنّ بورقيبة هدّد بمواجهة جنوده للقوات الفرنسية إن هي أطلقت النار على المتظاهرين.
* إنشغال لتعاون أمني ألماني تونسي:
أبلغت برقية للمخابرات الأمريكية صادرة من فرنكفورت الألمانية في 6 فيفري 1958 عن قيام ضابط أمني ألماني يدعى Kurtleher بزيارة إلى تونس في جانفي 1958 في إطار مشروع لتدريب الأمن التونسي ضمن برنامج مساعدات تقنية. ويقول المصدر الأمريكي إنّه لم يتعرف، حتى كتابة البرقية، إلى شخصية الضابط الألماني ووعد بمحاولة جمع معلومات عنه، سرّيا.
وتضيف البرقية أنّه لا يوجد في ذلك الحين أمنيّون تونسيّون في المدارس الأمنية الألمانية، ولا برنامج لإرسال تلامذة المدارس الأمنية التونسية إلى ألمانيا. وتنقل الوثيقة نفسها أنّ حسن الصيد مدير الأمن الوطني وممثل تونس لدى الأنتربول لم يقترح عرضا لتدريب الأمن التونسي كما لم يُعرض عليه أي مقترح في هذا الصدد، خلال إجتماعات الأنتربول، خاصة وأنّ هذا الموضوع يطرح عادة في مثل تلك اللقاءات. وتشير البرقية إلى أنّ تونس نالت عضوية منظمة الأنتربول خلال الدورة 26 للمنظمة بلشبونة في جوان 1957.
* الصراع على خلافة بورقيبة:
تناولت عديد البرقيات والتحاليل الصادرة عن المخابرات الأمريكية موضوع خلافة بورقيبة منذ إعلان مرضه سنة 1969 وكذلك النقاشات التي دارت داخل الحزب الإشتراكي الدستوري الحاكم حول تحوير الدستور، وكيف تمت إزاحة الباهي لدغم وصعود الهادي نويرة. وفي عديد المراسلات منذ بداية فترة السبعينات أصبح موضوع مستقبل تونس ما بعد بورقيبة إهتماما رئيسا، وفي نهاية تلك الفترة كتبت عديد التحاليل والدراسات عن السيناريوهات المرتقبة عن هوية خليفة بورقيبة والتساؤل عن إمكانية حدوث ثورة إسلامية أو إنقلاب عسكري، وأشارت بعض المراسلات إلى تأثيرات الدولتين المجاورتين، الجزائر وليبيا، في القيادات والأوضاع داخل تونس.
يجدر الإشارة إلى أنّ وثيقة في 13 صفحة حرّرت في 11 جوان 1985 قبل زيارة الحبيب بورقيبة إلى واشنطن شاركت في إعدادها ثلاثة مكاتب تابعة لوكالة المخابرات المركزية، وهي فرع المغرب العربي وقسم الشؤون العربية الإسرائيلية ومكتب تحاليل شؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا، إضافة إلى طرف رابع حجب إسمه.
تنقل هذه الوثيقة أنّ الحبيب بورقيبة كان يتمنّى توريث الحكم لنجله الحبيب الإبن، غير أنّ هذا الأخير ليست له طموحات في ذلك الإتجاه، وفق تعبير الأمريكيّين. ومن وجهة نظر المخابرات المركزية فإنّ حظوظ محمد مزالي لتولي رئاسة الجمهورية لن تتحقق إلاّ في حالة دستورية وهي محافظته على الوزارة الأولى إلى حدود وفاة بورقيبة، ودون ذلك تقول الدراسة إنّ مزالي لا يحظى بثقة عموم التونسيّين، وترجّح 3 مرشحين لخلافة بورقيبة على المدى القريب وهم: محمد الصياح صديق بورقيبة ووزير التجهيز والإسكان في تلك الفترة، والهادي البكوش مدير الحزب الإشتراكي الدستوري، والباجي قائد السبسي وزير الخارجية المناوئ لمحمد مزالي والمدعوم من وسيلة بورقيبة ويحظى بثقتها.
ومن اللافت للاهتمام أنّ عديد الوثائق التي تناولت تحليل الواقع التونسي واستشراف الوضع لم تعط حيّز اهتمام كبير بالتيارات اليسارية والقومية، وإن حصل ذلك فبإقتضاب شديد.
* المسألة الإسلامية:
وردت وثيقة مطوّلة مؤرخة في 31 ديسمبر 1980 تحت عنوان « الإسلام في شمال إفريقيا قوة ثورية محتملة ». تضمن محتوى هذه الدراسة التجربة العلمانية البورقيبة، وترى أنّ بورقيبة نجح في خلق نخبة ذات توجه علماني وطبقة وسطى تجعل من المجتمع التونسي محصّنا إلى ذلك الزمن من إحتمال « الإختراق الإسلامي ». لكن تتوقع الوثيقة أن يؤدّي إستمرار الصراع على خلافة بورقيبة إلى بروز تيار إسلامي. ثم يتم تدقيق معالجة هذا الموضوع بالمقارنة مع التجربتين الجزائرية والليبية، ففي هذين البلدين أعتُمدت المرجعية الإسلامية بإعتبارها جزءا من الفعل الثوري، ونجح النظامان في البلدين في المزج ثقافيا بين العناصر العلمانية والدينية لضمان حشد الناس لفائدة الأهداف العامّة. لكن في تونس يبقى الإحتمال كبيرا، حسب الوثيقة نفسها، أن يصبح الإسلاميون عاملا في زعزعة النظام، على خلاف بقية دول المنطقة، خاصة وأنّه لا يمكن الحكم على مدى عمق العلمنة في المجتمع التونسي، من وجهة نظر المخابرات الأمريكية، التي إعتبرت أيضا أنّ إستمرارية حكم بورقيبة تبقى هشّة أمام المشاكل الإقتصادية والإنتفاضات العمالية. وتتابع الوثيقة التحليل لتخلص إلى أنّ الصراع خلافة الرئيس العجوز، إضافة إلى سجل النخبة في العلمنة المفرطة، يجعل الحراك الإسلامي أكثر حظوظا في تونس مقارنة بدول المنطقة.
وبعد أقل من شهر على هذه الدراسة، يوم 12 جانفي 1981، تصف المخابرات المركزية الأمريكية حركة الإتجاه الإسلامي بأنّها غير منظمة ولا تملك موارد مالية وغير قادرة على تشكيل قوة ضغط على الحكم. لكن يتم الإستدراك في النص نفسه بالقول إنّه « في صورة حصول فترة إنتقالية أو عدم إستقرار سياسي سيكون الإسلام قوة جاذبة سريعة الإنتشار ».
وتخصص الوثيقة قسما للتعريف بثلاثة رموز إسلامية، وهم راشد الغنوشي ووصفته بالأذكى والأخطر وإعتبرته أفضل نموذج يعبّر عن التيار الإسلامي المعادي للعلمانية وشبهته بآية الله الخميني، وأشارت إلى أنّه يحظى بإحترام كبير في أوساط الإسلاميين. أمّا حسن الغضباني فجاء في شأنه أنّه ماركسي سابق إنضمّ للتيار الإسلامي سنة 1970، وهو راديكالي ومعاد شرس للغرب وللشيوعية، وطموحه أكبر من الصحوة الإسلامية القطرية بل يتعداها إلى الحركة الإسلامية العالمية. ووردت في شأنه أيضا معلومة تتعلق بشبهة إرتباطات أجنبية وقبول تمويلات مصدرها سوريا والعراق.
ووصف عبد الفتاح مورو في نفس النصّ بالمعتدل والقريب من النخبة التونسية، ولوحظ أنّه محل إنتقاد داخلي في التيار الإسلامي لكونه يولي أهمية كبرى لبناء موقعه الإجتماعي على حساب تركيز الحركة الإسلامية.
وتوقعت مراسلة بتاريخ 29 جوان 1987، تعليقا على المواجهة بين النظام التونسي والإسلاميين وحملة الإعتقالات في صفوفهم، أن تزداد شعبية حركة الإتجاه الإسلامي رغم القمع. وإستبعدت المخابرات الأمريكية حصول « ثورة إسلامية » في تونس، لكنّها توقعت أن « يركب » الإسلاميون موجة الغضب على الحكومة، وأضافت أنّ الحالة الإسلامية ستكون أمرا واقعا على المدى الطويل في البلاد.
* تسييس الجيش:
أصبح الجيش التونسي محور إهتمام كبير تضمنته تحاليل مفردة أو قسم من المراسلات والتقارير منذ مطلع الثمانينات. وأشارت ورقة بعنوان « تصاعد الإضطرابات في تونس » يوم 23 ماي 1984 إلى الدور الذي لعبه الجيش التونسي في مواجهة الإضراب العام في جانفي 1978 وكذلك التصدّي للغنتفاضة المندّدة بغلاء سعر الخبز في جانفي 1984. وتتحدث الوثيقة عن تململ بين كبار ضباط الجيش بسبب إستدعائهم لقمع المدنيّين وخشيتهم من تجدد ذلك في تحركات متوقعة. وتنقل الوثيقة أنّ مجموعة من الضباط أبلغت محمد مزالي رئيس الوزراء أنّها لن تستجيب لأي أوامر مستقبلية للتدخل ضد المدنيّين.
وتلاحظ المخابرات الأمريكية أنّ مزالي إتجه إثر ذلك إلى تقوية جهازي الأمن والحرس وعزز العنصر البشري في الحرس الوطني كما تقرر إدماج مئات من العسكريين في هذا السلك في شهر مارس 1984، حسب الوثيقة المذكورة سابقا.
وتواصل الإهتمام بالمؤسسة العسكرية التونسية، وأعدّت بتاريخ 31 جانفي 1986 وثيقة بعنوان « تسييس الجيش »، أشارت في مقدمتها إلى أنّ تاريخ المؤسسة العسكرية في تونس معروف بعدم تدخلها في الشأن السياسي، لكن من اللافت في الفترة التي أعدت فيها الوثيقة تسجيل تنام لاهتمام العسكريين بالقضايا السياسية. وأشير في هذا الصدد إلى تداول معلومات عن محاولة إنقلابية عسكرية تأتي في ظرفية تشهد فقدان الرئيس الحبيب بورقيبة ومن هم معنيون بخلافته للشرعية في نظر الناس، وهو ما قد يشجع العسكريين على إستلام السلطة.
وتنقل المخابرات الأمريكية تذمّر الجنود التونسيين وأصحاب الرتب المتوسطة من الأجور المتدنّية ونقص المعدّات والتدريب، إضافة إلى وجود مظاهر فساد لدى كبار الضباط. وحسب مصدر من السفارة الأمريكية بتونس فإنّ بعض الضباط وجهوا رسالة إلى وزير الدفاع صلاح الدين بالي في أفريل 1985، عبّروا فيها عن إستيائهم من عدم زيادة الرواتب وهددوا الوزير بمقاطعة الاستعراض العسكري خلال الاحتفالات بعيد النصر يوم 1 جوان 1985.
وممّا أثار قلق العسكريّين التونسيّين هو وقوفهم على محدودية التجهيزات والإستعدادات لصدّ أي عدوان ليبي خلال فترة التوتر على الحدود بين البلدين بين أوت ونوفمبر 1985، إضافة إلى ضعف قدرات سلاح الجوّ بما مكّن الإسرائيليين من إختراق الأجواء التونسية وتنفيذ إعتداء حمام الشط في أكتوبر من نفس السنة، وهي إنكسارات يرونها عامل تحقير لصورة الجيش التونسي أمام الرأي العام.
وتتحدث المخابرات الأمريكية في الوثيقة نفسها عن إجهاض محاولة إنقلاب عسكري في ديسمبر 1985 وضلوع ضباط وضباط صف فيها، وقد يكون قائد جيش الطيران على علم بها دون أن يشارك فيها، وفق المصدر نفسه. وتشير الوثيقة إلى أنّ المحاولة الانقلابية المزعومة، تعزز صحتها معلومات عن حركة نقل أو إحالة على التقاعد شملت أربعة من كبار الضباط في ظروف غامضة، وجرت في شهر نوفمبر 1985، حسب الأمريكيين. وفي جانفي 1986 تم حل قيادة تدريب الجيش وإقالة رئيسها وتوزيع تلامذة المدارس العسكرية على وحدات مختلفة من الجيش.
وتتوقع الوثيقة أن يكون للجيش دورا نشطا في الحياة السياسية، وتورد دليلا على ذلك، وهو تعاظم دور الجنرال زين العابدين بن علي وزير الداخلية المعتمد لدى الوزير الأول. ويأتي صعوده مكافأة له على خدماته في منصبه كاتب دولة للداخلية وعلى رأس إدارة الأمن الوطني، وقد تم إستقدامه إستعدادا لقمع أي إضطرابات إجتماعية لاحقة. ويشدد الأمريكيون على « أنّ بن علي في وضع جيّد للطموح إلى السلطة إمّا بالتعاون مع محمد مزالي أو ضدّه ».
* علاقة بن علي بالإسلاميّين:
إعتبرت ورقة عمل للمخابرات المركزية بعنوان « آفاق حكم بن علي » مؤرخة في 16 نوفمبر 1987، أنّ التحدّي الأكبر لبن علي في الحكم هو كيفية التعامل مع الإسلاميين والمحافظة على دعم الحزب الحاكم والجيش. وورد أيضا أنّ بن علي سيعتبر المساعدات الأمنية الأمريكية أمرا حيويا لاستقرار تونس ومن المرجح أن يكون بن علي حذرا في التعامل مع النظام الليبي حيث سيحافظ على علاقات متينة بين البلدين بشرط ضمانات بعد التدخل في الشأن الداخلي. ولاحظت الوثيقة أن زين العابدين بن علي قد لا يكون منفتحا على الولايات المتحدة مثل بورقيبة، وذلك بسبب الاعتقاد السائد بين بعض التونسيين أنّ لديه علاقات وطيدة سابقا بواشنطن.
وحسب محرري هذا التحليل فإنّ توقيت إزاحة بورقيبة مرتبط بإصراره على إعادة محاكمة راشد الغنوشي وبقية قيادات حركة الإتجاه الإسلامي بهدف إصدار أحكام إعدام في حقهم. وتعلق الوثيقة على نوايا بورقيبة بالقول: « نعتقد أنّ هذا الإجراء كان من شأنه التشويش على سمعة تونس دوليا وتأجيج أعمال العنف من قبل الإسلاميين ». ومن أجل طمأنة الخارج وضمان الإستقرار، عيّن بن علي جنرالا عسكريا على رأس وزارة الداخلية وأصدر ترقيات لعدد من ضباط الجيش، وفق ما نقلته الوثيقة. لكن المخابرات الأمريكية لا تتوقع أن يسمح بن علي للإسلاميين بتكوين حزب سياسي، وذلك نظرا إلى مواقفه المتشددة المعروفة عنه في التعامل معهم عندما كان على رأس إدارة الأمن، إلاّ أنّه سيبحث عن أسلوب آخر للتعامل معهم غير القمع، باعتبارهم يمثلون الخطر الأكبر على نظام الحكم آنذاك، حسب المصدر، ومن الإجراءات المحتملة أن يرفع الحظر مثلا عن الحجاب الإسلامي وغير ذلك من المظاهر الإسلامية. وفي ختام وثيقة « آفاق نظام حكم بن علي » توجد صفحة محظورة.
* الإرهاب:
أوردت برقية بعنوان « التهديد الإرهابي في تونس » مؤرخة في 12 جانفي 1987 توضيحات يبدو أنّها جواب عن إستفسار من مركز مكافحة الإرهاب بخصوص إمكانية أن تتحول تونس إلى قاعدة لنشاطات إرهابية في ظل عدم الاستقرار السياسي. يتضح من الجواب أن المجموعات المعنية بشبهة الإرهاب فلسطينية. وتجيب المخابرات الأمريكية: « رغم عدم الإستقرار السياسي، لا يُعتقد أنّ تونس قد توفر الدعم لأيّ مجموعات فلسطينية « إرهابية » قد تجد في تونس ملاذا آمنا أو قاعدة خلفية لعملياتها ».
ويشار إلى أنّ الإدارة الأمريكية كانت مهتمة بتواجد مجموعة كبيرة من الفلسطينيين في تونس خاصة من أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية الذي وصلوا في رحلة جماعية من بيروت سنة 1982. ففي 17 سبتمبر 1982 أرسل من تونس تقرير عن مخيّم منظمة التحرير الفلسطينية في جهة واد الزرقاء بولاية باجة. وتضمّن التقرير صورة عن الموقع، حذفت من الوثيقة المنشورة، وملاحظات تحدد إحداثيات الموقع ومحيطه الجغرافي وعدد المقيمين به. كما تبلغ الوثيقة عن وجود حوالي 150 فلسطينيا يقيمون بنزل « سلوى » في الضاحية الجنوبية لتونس العاصمة.