السعيدة
بقلم/ مجدي محفوظ *
حين تطأ قدماك أرضها، تتنسّم روحاً من نفحات فيضها وأريج أنفاسها، ووجه صبوح ما زال في ريعان شبابه، التفّ بغيمة بيضاء تقطر عطراً نرجسياً، تغني به الشعراء عبر أزمان وأزمان، وأنشدها المادحون حين شاهدوها كعذراء لبست ثوباً فضياً, من وادي بنا، توج بعقيق أحمر, وعيون اكتحلت من ثميد , وخضبت من لحج وحضرموت، لتبدو خضراء في إب، تهديك أعواداً لقاتٍ شامي، وشجرة بُنٍّ شاهقة ملفوفة بأعلام العروبة الشامخة، تتمايل في انسكاب بين مروج الوديان الصافية في سبأ وميفعة، لتنشد عطراً فواحاً في سقطرة، فالعشق فيك للمتيمن ترنم، فأنت السعيدة.
كان اللقاء بك حلماً، لكن ما زال للأحلام فيك وجه آخر، وحين أنشدت شعرك بين الكتب، حملته في ثنايا عقلي تحت قبة المتوكل، أقرأ ثم أقرأ، وإذا بالمقالح شامخاً يهدي الزبير كلمات من النغم، وها هو البردوني ينشد أبا العلاء أنشودة حب تعزف لحناً شجياً على أوتار عود يمني خالد، كيف لا وقد أنشدك امرؤ القيس، وعمرو وطرفة والنابغة يتبارزون في حبك! لبيت حاتمي،
نعم أنت السعيدة حين مررت بأبوابك وتجولت بسوق الملح، لأرى القُلّيس مهدمة، وجدت هامات مرفوعة، وتخيلت صولات وجولات بين دروبك ليشدو أيوب والسنيدار وبلفقيه ليرد القمندان مهلل, نعم يا صنعاء، فلْيَزْهُ حاضرك وماضيك.. هامات مرفوعة شامخة كشموخ عيبان وصبر وسمارة لقمة النبي شعيب، وعند قصر الحجر، حين يطوف بي الركب للساحل الذهبي، وعبر أمواجه الدافئة لخور مكسر، أرتمي في حضنك أنشد قصائدي في شبام وناطحات تواجه الأعاصير والأمطار مضاءة بنورة بيضاء، وحين اشتدت حرارة الشمس فردت خيمتي في جبل صبر، فكان الغمام لي ظلاً فارهاً، شربت قهوتي لأجد بلقيس تنادي من قمة جبل عالٍ صعدت على صبر لعلها تشاهدني، أرسلت لي طائراً جميلاً يغرد من حولي على أنغام مزمار يمني، تنفست الصعداء، كان الطائر دليلي والأنغام أنيسي، وبالقرب من رمال الصحراء التي أضاءت المكان كأنها تبر يتلألأ، وجدت عرشاً وأعمدة، وحرساً، عدت للخلف فابتسم الجميع، وقيل لي: تفضل، لقد أعد ما يليق بك، تقدمتُ وإذا بالجميع ينشدون لحنا واحداً، تردده الجبال، وحين حان وقت الرحيل ذهبوا بي لأرتوي ماءً عذباً رقراقاً من سد مأرب، لأجلس في مصيف بلقيس العظيمة …. هنا قصر صرواح ، لأقول في نفسي: يمن المحاسن هل مثلك في الوجود بلاد؟ اختلجتني المشاعر النبيلة من مودتكم والعطاء، وحينما تملكني الشوق لوطني، ذهبت أستنشق رحيق الجند لألتمس خُطى رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نعم؛ هنا طال الشوق وخيمت ظلال الإيمان على بلد الحكمة والإيمان، لأحتسيَ نخب الحياة الموت, ليقودني الشجن لعدن، وفي المكلا حيث يطيب السمر، ويا ….. جنات عدن الجميلة يغمرك الغناء والطرب، ويتدفق الماء عبر صهاريجها وعلى بحرها الجميل وساحلها الذهبي، لأستمع للشعراء ينشدون الغناء على أوتار عود صنعاني من نهل القمندان والسيندار، وعلى رقصات ارتجالية من لحج وبريق الجنابي، يتلألأ مع ضوء القمر يخطف الأبصار، لوحة فنية جميلة لم أنسَها يوماً.
يمن الحكمة مهما هبت عليك عواصف الأزمنة، ومهما عبث بك العابثون، ستلظي في شموخ جبالك الشامخة، وناطحات شبام وقصر الحجر.
وحين قررت المغادرة، التفَّ من حولي الكثير، كأنهم لا يريدون أن أتركهم. ابتسمت، فقالوا: لمَ تغادر؟ هل تترك قهوتنا؟!! قلت: شربت منها الكثير. ذهبوا بي لجنات المحويت حيث يعانق الضباب والسحاب جبالها وثمرات البن تنير الأشجار بلون أحمر قرمزي، قلت: بسم الله ما شاء الله! هذه الجنة؟ قالوا: الجنتان، هلا عرفت سبأ؟ ألم تسمع بها؟ قلت: كيف وأنتم أهلها؟ وإذا بسلسبيل من المياه يمخر في الحبال, لتخرج أنهاراً من الماء الصافي. ما أسعدك يا يمن الحكمة والايمان! وحين راودني النعاس لم أجد إلا وسادة من الديباج خطت بأنامل تعزف ألحاناً، فيطير منك النعاس. كيف تنام وتترك سهرات الليل الجميل في حضرموت، وعلى ساحل المكلا؟ حيث الصبايا والحور ينشدن أناشيد الحياة، وكأنك في سراب أرجواني يتدفق منه البياض وأصوات العصافير تغرد مع الألحان.
غلبني النعاس، واستيقظت على أصوات صدى الموتى ينشدون الحياة والعودة وتمزيق أستار الحزن، التي أسدلت على ربوعها، حاولت الخلاص منها، مزقت الكثير لأجد مخرجاً لي، فلم أجد نفسي إلا على ساحل البحر, لأستمع لنداء من بعيد: أيها الناس عليكم باليمن إذا اشتد بكم الكرب! واذا بي أنادي بأعلى صوتي: هل يا صنعاء ……… حقاً طال السفر؟!
*كاتب وأديب مصري