لصوصٌ يتباكون ما سرقوا وملاكٌ يبكون ما فقدوا
بقلم / د. مصطفى يوسف اللداوي
باستغرابٍ شديدٍ نراقب ما يجري في أرضنا الفلسطينية العزيزة الغالية، في الشمال الخصيب الجميل، وفي القدس الشريف والنقب الأصيل وجبال الضفة الغربية، ونحن نرى حدائقنا الجميلة وغاباتنا الكثيفة وبساتيننا الخضراء وهي تحترق وتلتهب، وتتحول إلى فحمٍ ورمادٍ أسودٍ، وسماءنا وهي تتلبد بالسواد، ويغطيها الدخان المنبعث من الحرائق الضخمة التي عمت فلسطين كلها، ولم تستثن منها مكاناً إلا ووصلته.
هذه الأرض التي تحترق وتشتعل هي أرضنا الفلسطينية، وترابنا الوطني المقدس، ونحن أصحابها وملاكها، ونحن سكانها وعمارها، نحزن لما يصيبها، ونتألم لما تتعرض له، لأننا نحن أم الأم الشرعية للولد، أما الكيان الصهيوني الغاصب اللقيط فعلام يحزن ويتألم، ولماذا يغضب ويستشيط، فالأرض التي تلتهب ليست أرضه، والأشجار الوارفة الباسقة التي تتحول إلى فحمٍ ورمادٍ ليست أشجاره، ولا الغابات الكثيفة والأجمات الخضراء والحدائق الغناء له، بل هي حقوقٌ مسروقةٌ، وممتلكاتٌ مغتصبة، وما هو إلا لصٌ سارقٌ قد هرب بغنيمته، فعلام يحزن إن حرق بعضها، أو أصابتها النيران كلها، فغاية الأمر عنده أن يرحل من حيث أتى، وأن يعود إلى البلاد التي جاء وآباؤه منها إلينا، لأن هذه الأرض لا تخصه ولا تعنيه، وهو لا يملكها وليس له الحق فيها.
قد يظن البعض خاطئاً أننا نحن العرب والفلسطينيين شامتين للحرائق التي عمت أرضنا وخربت الزروع والحقول والورود والأشجار، وأننا فرحين لهذا الخراب، إذ كيف نفرح وأرضنا هي التي تحترق، وكيف نبتهج وبلادنا الجميلة تتحول إلى ركامٍ من رمادٍ أسودٍ قاتم، وهل يفرح عاقلٌ بحرق أرضه أو بتمزق وطنه، وهل تشمت أمٌ بموت ولدها أو بمرض فلذة كبدها، أو بالنار تنهش لحمه وتذيب عظمه، فالولد عند أمه يبقى ولدها وفلذة كبدها، سواء كان في حضنها أو سكن بعيداً عنها، أو اغترب في المنافي والشتات ولم تعد تراه عيونها.
نحن لا نشمت بأرضنا إذا احترقت، ولا بطبيعتنا الخضراء إذا أصابها التلف، وحل بها الخراب، بل نشمت بالعدو الذي يقتلنا، ونفرح بانتقام الله لنا منهم، وحاخامات اليهود أنفسهم يقولون “إن الرب ينتقم منا كما انتقم منا في سيناء، فالرياح تشتد في مناطقنا وتخف في المناطق العربية، إنه غضب الله ينزل علينا”، فهل يسمي العدو فرحتنا في قتلة أبنائنا ومغتصبي حقوقنا، والذين يحتلون أرضنا ويطردوننا من ديارنا شماتة، ألا يدركون أن ما يصيبهم إنما هو مما كسبته أيديهم.
إنهم لا يستطيعون أن يمنعوا أماً فلسطينية تفطر قلبها على ولدها من أن تفرح على ما أصابهم، ولا أن يجبروا أباً ابيضت عيناه من الحزن على ألا يبتسم لما نزل بهم، ولا أن يحولوا دون امرأةٍ رفعت أكفها قبلة السماء تدعو الله عليهم، ولا يستطيعون منع أطفالٍ قد بكت عيونهم واحمرت وجناتهم، وكادت أن تختنق أرواحهم بسبب قنابل الغاز الخانق أو المسيلة للدموع التي يطلقونها عليهم، من أن يتذكروا ما حل ببيوتهم التي كانت عامرة، وأن يفتقدوا في هذه الأيام آباءهم.
لكن الغريب والمستنكر أن يحزن اللصوص على فقدان ما سرقوا، وخسارة ما اغتصبوا، وأن يتحول وهمهم إلى واقع، وخرافتهم إلى حقيقة، وأن يعتقدوا أنهم أصحاب الحق وأهل الأرض وسكان البلاد، فتعلوا أصواتهم مستغيثين يطلبون العون والنصرة، والغوث والمساعدة، لإنقاذهم وبلادهم، ومساعدتهم وسكانهم، بينما هم الذين يقومون بحرق الأرض على سكانها الأصليين، ويشعلون أوراها حولهم وفي بيوتهم، ويحرقون زروعهم ويشعلون النار في سوق وجذوع أشجارهم على اختلافها وزيتونهم على وجه الخصوص منها، ويمنعون العالم كله من نصرة الفلسطينيين ومساعدتهم، ويحولون دون تقديم العون لهم، أو إغاثة المتضررين منهم، بل إنهم يحرقون الغوث، ويشعلون النار في المساعدات.
ماذا يقول الإسرائيليون لأنفسهم اليوم وهم يحترقون وبيوتهم عندما قاموا بحرق بيت سعد دوابشة، وحرقوه فيه مع زوجته وأبنائه، وكيف يبررون ما قام به مستوطنوهم عندما سكبوا البنزين في جوف الفتى محمد أبو خضير وحرقوه حياً، وتحلقوا حوله يرقصون فرحاً وطرباً وهم يرونه يذوي أمامهم، والنار تأكل جسده بفعل أيديهم الماكرة ونفوسهم الخبيثة، ولعل حكومتهم قد دافعت عن جريمة مستوطنيها، وبعض وزرائهم برروا لأبنائهم فعلتهم، واعتبروا أن ما قاموا به ليس إلا تنفيساً عن حالة الاحتقان والكبت التي يعيشها المستوطنون جراء إجراءات الحكومة الضابطة التي تكبل أيديهم وتحول دون حريتهم في مصادرة الأراضي وبناء المزيد من المستوطنات عليها.
الإسرائيليون يعتقدون أن الفلسطينيين هم الذين أشعلوا النيران في الحرش والحدائق والمنتزهات العامة، فهدد رئيس حكومة كيانهم بملاحقة مشعلي النار ومحاسبتهم ومحاكمتهم، بينما دعا بعض حاخاماتهم إلى إطلاق النار على الفلسطينيين المتهمين بإشعال النار، وعدم انتظار اعتقالهم وتقديمهم إلى المحاكمة.
فهل نحن من يحرض الرياح أو من يوجهها، ونحن الذين نسيرها ونحركها، أم أننا الذين أمرنا النار فاشتعلت والنيران فالتهمت، أم أننا الذين أمرنا السماء أن تحبس الماء وتمتنع عن المطر، إنهم لن يستطيعوا هذه المرة اتهامنا، وليس عندهم دليلٌ علينا، ولن يتمكنوا من شن الحرب علينا انتقاماً لما فعلنا، فنحن لا نقتل أولادنا، ولا نجهض أحلامنا، ولا نعقر رواحلنا، ومعركتهم هذه المرة ليست معنا وإن كنا ندعو عليهم ونتمنى زوالهم أو هلاكهم، فهل يعلنون الحرب على الله عز وجل، أم سيوجهون إليه سبحانه أسلحتهم إذ أنه الذي أمر النار بالاشتعال فاشتعلت، وأمرها بالانتشار فانتشرت.
أيها اليهود الوافدون والصهاينة المتعصبون، قفوا وتأملوا، وتدبروا وتأملوا، وقوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها أنتم وأجيالكم، ومصالحكم وممتلكاتكم، إذ بها ستحرقون، وفي قعرها سترمون، وبها ستسعر النيران فيكم، وانظروا إلى أنفسكم وأنتم تقتلون أنفسكم بأنفسكم، وتستغلون ما أصابكم وما حل بكم، فتسرقون بيوتكم ومتاجركم، وتنتقمون من بعضكم، وتصفون حساباتكم وتحرقون سياراتكم.
إنها أرضنا التاريخية، وأشجارنا العظيمة، وموروثاتنا الغالية، التي عمرها أجدادنا وزرعها آباؤنا، ودفن في ثراها أبطالنا، إنها الجليل والمثلث، والساحل والجبل والصحراء، والقدس وحيفا وأحراش الكرمل، كما أنها الضفة الغربية وقطاع غزة، إنها أرضنا ووطننا، كلها لنا، نملكها وحدنا، ولا نشاطر فيها غيرنا، ولا شريك لنا من اليهود فيها، إلا الذين كانوا يوماً مواطنين فلسطينيين معنا، من الفلسطينيين العرب وإن كانوا يهوداً في ديانتهم.