المحاق ما بين النوفيلا والرواية الطويلة!
شهارة نت / آمال عوّاد رضوان
أقام نادي حيفا الثقافي أمسية ثقافية للأديب ناجي ظاهر في قاعة كنيسة ماريوحنا الأرثوذكسية في حيفا تحت رعاية المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني/ حيفا بتاريخ 13-10-2016، وسط حضور كبير من أدباء وشعراء وأصدقاء من منتديات أدبيّة، وذلك بتناول روايته محاق، وقد تولى ادارة الأمسية الأديب محمد علي سعيد، بعد أن رحب المحامي فؤاد نقارة مؤسس ورئيس نادي حيفا الثقافي بالحضور والمشاركين، وتحدث عن الرواية كل من: د. جهينة خطيب حول سيميائية العنوان والغلاف والمضمون، ود. ماري توتري تطرقت إلى قضيّة القانون لحماية المرأة، وصورة المرأة من خلال الرواية. في نهاية الأمسية شكر ناجي ظاهر المنظمين والمتحدثين والحضور، وتم التقاط الصور التذكارية أثناء توقيعه لروايته للأصدقاء والقرّاء!
مداخلة محمد علي سعيد: في الناصرة عام 1951 ولد ناجي ظاهر؛ الكاتب والقاص (للكبار وللصغار) والروائي والشاعر وكاتب المسرحية والناقد والصِحافي، وهو في الأصل من قرية سيرين المهجرة في منطقة غور الأردن، وفيها تلقى تعليمه الابتدائي، ولكنه ترك المدرسة لظروف اقتصادية قاسية، ثم درس على نفسه فثقف نفسه بنفسه، حيث تفرغ للقراءة وللكتابة وللحركة الأدبيّة، وفي أثناء عمله التحق بالعديد من الدورات الصحفيّة والأدبيّة، يعمل صِحافيّا ومُحرّرًا أدبيّا في العديد من الصحافة المحليّة والمجلات الأدبيّة (مجلة الشرق ومواقف والشعاع)، ناشط في الحركة الأدبيّة والصحافة منذ أكثر من أربعين عاما، وهو أديب مثقف جدا في المجال الأدبي، ومن أبرز أعلام القصّة القصيرة والرواية، ينتمي الى المرحلة أو الرعيل وأميل الى الفطمة بلغة الفلاحين الثالثة: الأولى: المخضرمون، ثم بداية السبعينات ثم بداية الثمانينات. أصدر أربعين مؤلفا أدبيّا، منها: سبع روايات: الشمس فوق المدينة 1981. هل تريد أن تكتب. صَلد. حارة البومة. نزف الفراشة. غرام أو نهاية فنان. مَحاق. 2016. بميم مثلثة.
مُحاق؛ ما يُرى في القمر من نقص بعد اكتماله، والرواية تدور أحداثها في الناصرة، حول التحوّلات المفاجئة التي يمرّ بها مجتمعنا العربي الفلسطينيّ في هذه البلاد، وذلك من خلال تسليط الضوء على معاناة فنان أماته الواقع، وأعادَهُ الحُلم إلى الحياة، ليجد نفسه في مواجهة عنيفة جدّا مع واقعه، وتنتهي الرواية بمصرع بطلها الفنان على يد زوجته، كما في روايته حارة البومة، وهذه من تيمات أديبنا ناجي. تطرح الرواية معاناة الفنان في فترة تحوّل مجتمعيّ غير واضحة المعالم، وتقدّم أنموذجًا سيّئًا لامرأة سيّئة تشبه زوجة سقراط في عنفها وفظاظتها، ولا تستسلم من المعاشرة الأولى، بل تطاردك الأسئلة الفلسفيّة والنفسيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة. رواية محاق، أقرب الى الرواية القصيرة (النوفيلا)، منها الى الرواية الطويلة، مكتوبة بأسلوب روائيّ ناضج متدفق، يتوسّل التركيز والتكثيف لتحقيق ما يرمي إليه من متعة وفائدة، وبعيدة عن دهنيّات الكمّ الكتابيّ، وتستحقّ القراءة والمشاهدة حقا، لأنّها من حالات الاستثناء بين هذا الكمّ السرديّ الحكائيّ غير العميق فكريّا..
*المكان: تدور أحداث جميع روايات ناجي ظاهر في الناصرة وحاراتها، ما عدا روايته الأولى الشمس فوق المدينة، فمكانها الناصرة والقدس، والمكان بصفاته العديدة ثابت، متحرّك، خاصّ، عامّ، مفتوح، مغلق، واقعيّ، خياليّ عند ناجي ظاهر، ليس إطارًا أو وعاء محايدًا للأحداث، إنّما هو شريك مؤثر فيها، يكاد يصل درجة الشخصيّة.
*التراكمية: أميل الى تقسيم ثنائيّ للأدباء: الشهابيّ والتراكميّ. الشهابيّ هو الذي بقي سجين نصّ أو كتاب نال به شهرة، وبقي مرتبطًا باسمه في الثقافة الأدبيّة الشعبيّة العامّة، وبقي يكرّر نفسه. بينما الأديب التراكميّ هو الذي لا يبقى سجين نصّه، بل يخطو الى الأمام مضمونًا وحدَثا وفكرًا وأسلوبًا وهيكلة، ويبقى دائم التجديد والتجريب بوعي شموليّ عميق وموهبة نامية، وهكذا تتراكم خبرته وتسير نحو الأجمل والأجود، وناجي ظاهر هو كذلك أديب تراكميّ حقا.
*الحداثة: رواية “محاق” فيها كثير من مميّزات الحداثة: كزوال الحدود بين الحقيقة والخيال. بين الواقع والحلم. بين الحي والميت. بين المعقول وغير المعقول بين الأزمنة وتداخلها، بين الأمكنة. المفاجأة بعدم التوقع لتكملة المعنى المنطقية بحسب سياق السرد وتدفقه. (كما القافية في الشعر العمودي التقليديّ).
د. جهينة خطيب : باحثة وناقدة في موضوع اللغة العربيّة، حازت على اللقبين الأول والثاني من جامعة حيفا في اللغة العربيّة، وتابعت دراستها وحازت على اللقب الثالث عام 2010 في تطور الرواية العربية في فلسطين 48، وتعمل محاضرة في كلية سخنين في قسم اللغة العربية. صدرت رسالتها هذه في كتاب مستقلّ يحمل الاسم نفسه عام 2012، (تطرقت فيه إلى 38 روائيّا و 66 رواية)، وحاليّا تعمل على إصدار كتابين: قراءات في الأدب الفلسطينيّ المقارن، و حول أدب الأطفال في فلسطين، وتعمل أيضًا على مشروع أدبيّ مشترك حول أدبنا الفلسطينيّ مع جامعة هنديّة إثر مشاركتها ومحاضراتها الأخيرة هناك، في الجامعة المليّة الإسلاميّة في دلهي وفي جامعة كيرالا في جنوب الهند، ومن خلال الإشراف على رسائل جامعيّة لطلاب من الهند، ولا غرابة في الأمر، فوالدتها الأخت الكريمة زميلتي المربّية عايدة خطيب شاعرة وكاتبة قصة للأطفال، وكذلك شقيقتها علا خطيب شاعرة أيضا. حقا، إن حبة التفاح لا تسقط بعيدا عن الشجرة.
د. ماري توتري: حصلت على لقب أوّل في الأدب الإنكليزيّ والفنون، وعملت كمدرّسة للغة الإنكليزيّة لمدّة 26 سنة في طمرة. حصلت على لقب أوّل (للمرة الثانية) ولقب ثانٍ في علم الاجتماع ولقب ثالث في العلوم السياسية من جامعة حيفا، وتعمل محاضرة في كلية أورانيم وجامعة حيفا.
مداخلة د. جهينة خطيب: “مساء ٌمعطرٌ بقمرٍ لا يغيبُ/ بولادةٍ متعسّرةٍ وسطَ آلامِ المخاض/ ونورٍ يهلّ من بعيد رُغم الظلامِ/ الموتُ في الحياةِ عاشَه بطلُنا في روايةِ المُحاق/ الموتُ نومٌ بلا بعثٍ ولا رُقاد/ من لا مكان/ لا وجهَ، لا تاريخ لي، من لا مكان/ تحت السماءِ، وفي عويل الريح أسمعها تناديني: “تعال”/ لا وجه، لا تاريخ.. أسمعها تناديني: “تعال”!/ عبرَ التلال/ مستنقعُ التاريخِ يعبره رجال/ عددُ الرمال/ والأرضُ مازالت، وما زال الرجال/ يلهو بهم عبثُ الظِلال/ مستنقعُ التاريخِ والأرضُ الحزينةُ والرجال/ عبرَ التلال/ ولعلَّ قد مرَّت عليَّ.. علىَّ آلافُ الليال/ وأنا- سُدىً- في الريح ِأسمعُها تناديني”تعال”/عبرَ التلال/ وأنا آلافُ السنين/ متثائبٌ ، ضجرٌ، حزين/ سأكون! لا جدوى، سأبقى دائمًا من لا مكان/ لا وجهَ، لا تاريخ لي، من لا مكان” جملٌ شعريةٌ قالها البياتي، تئِنُ هنا في روايتِنا المُحاق، دائريةٌ هذه الروايةُ تبدأ بموتٍ، ثم حياٍة ثم موتٍ جديدٍ
سيميائيةُ العُنوانِ والغلافِ: المُحاقُ عنوانٌ يدفعُ إلى الذهنِ عنوانيْ روايتين شهيرتين هما الأولى “القمرُ في المحاقِ” للروائي السوري حنا مينا، والثانية: “رأيتهما قمرين في المُحاق” للروائيّ المصريّ أحمد الشّيخ، وها نحن الآن أمامَ روايةِ المحاق لأديبنا الفلسطيني ناجي ظاهر، والمُحاقُ هو غيابُ القمرِ وراءَ الشمسِ وتواريه في الظِل، وسُمي بالمحاقِ لانمحاقِ نورِه واختفائِه، وحينئذ يحدثُ اقترانُ الشمسِ والقمرِ ومولدُ شهرٍ جديدٍ، فالمحاقُ هو آخرُ الشهرِ القمريِ، فما يلاحظُ هو نقصانٌ في القمرِ بعدَ اكتمالِهِ إلى أنْ يختفيَ، فيبدأَ شهرٌ هجريٌ جديدٌ باقترانِ الشمسِ والقمرِ، فغيابُ القمرِ يأتي بولادةِ شهرٍ جديدٍ، ورُغمَ الموتِ فهناك ولادةٌ منْ رحمِهِ وهذا هو صوتُ الروايةِ.
سيميائيّة الغلافُ: *نرى في اللوحةِ عُصفورًا يحملُ سمكةً، يحيلُنا إلى قصةِ إياد مدّاح “سمكة وعصفور”، وتحكي القصّةُ عن العصفورِ الجميلِ والسمكةِ المتألقةِ، ولأن السمكةَ تحبُّ تغريدَ العُصفورِ، كانت تنتظرُه كُلَّ صباحٍ على وجهِ الماءِ لتسمعَهُ وهو يغرّدُ، ومن هنا نشأت علاقةٌ حميميَّةٌ بينَ العُصفورِ والسمكةِ، ولكنَّ قسوةَ الحياةِ وضعتهم أمامَ سؤال: أين سيبنيان بيتَهُما؟ قد يعشقُ العُصفورُ سمكةً ولكن المصيبة أين سيعيشان، فهنا تكمنُ استحالةُ هذا الحبِ، وسنرى أنها إحالةٌ لأزمةِ الفنانِ في مجتمعهِ وإحساسُه بالغربة.
*وتأتي صورةُ المرأة في الغلافِ بملامحَ ليست واضحةً وجانبية، وكأنها في هذه الحياة ِوخارجِها، وكأنها تديرُ وجهَها لهذه الحياةِ وتمسكُ في يدِها شعلةً لتنيرَ الطريقَ، ولكنَّها في الآن ذاتِهِ تجلسُ، والجلوسُ دلالةُ العجزِ، فاجتمعتِ التناقضاتُ في اللوحةِ وسَتُكْمِلُ مَعَنا هذه الثنائياتُ الضديةُ في روايتنا المصغّرةِ، فنرى ثنائيةَ السمكةِ والعُصفورِ، وثنائيةَ الأملِ والعجزِ.
ونبحرُ في الروايةِ النوفيلا: النوفيلا هي قصة طويلة، وهذا الجانرُ الأدبيُ يشيرُ إلى نوعٍ سرديٍ بينيٍ له ارتباطٌ بالقصةِ القصيرةِ ونسبٌ في الروايةِ، فكأنه خليطٌ أو مزيجٌ من النوعينِ، في صورةٍ من صورِ تداخلِ الأجناسِ وتمازج ِعناصرٍها، أي هي الروايةُ القصيرةُ. وقد بنيت الروايةُ على الثنائياتِ الضديّةِ بدءًا بالغلافِ كما ذكرتُ سابقا، وانتهاءً بكلِ حدثٍ يحدثُ في الروايةِ إلى لحظة الذروةِ وإغلاقِ الدائرةِ بإتقان، فالسمكةُ لا يمكنُ أن تعيشَ معَ العصفوِر في مكانٍ واحدٍ، والاختفاءُ المتمثّلُ بضوءِ القمرِ يعقبهُ اقترانُ القمرِ والشمسِ وولادةُ شهرٍ هجريٍ جديدٍ.
سمكةٌ– عصفورٌ، اختفاءُ القمِر- ولادةُ شهرٍ جديدٍ، دائرةُ الموتِ والحياةِ- موتُ البطلِ– بعثُه من جديدٍ وموتُهُ مرةً أُخرى، ثنائياتٌ ضدّيّةُ تلعبُ على وترِ الإحساسِ، وتؤولُ إلى بِنيةِ العنونةِ لتنتشرَ في أرجاءِ الروايةِ، وتصيبُ دلالاتِ الأسماءِ، فها هو بطلُنا نسيم البرقوقُي، والنسيمُ هو الهواءُ العليلُ المنعِشُ إشارةً إلى الحريةِ والحياةِ، والبرقوقُ هو زهرةٌ جميلة تزهرُ في الربيعِ شهرِ تجددِ الحياةِ. عندَ قراءتِنا للروايةِ نكتشفُ التضادَ في اسمِ الشخصيةِ وفي حياتِها، فنسيم البرقوقي يعاني من موتٍ في الحياةِ، ويشعرُ باختناقٍ وغربة. وقد جاءت دلالةُ الاسمِ المناقضةُ لتوَضِّحَ هولَ مأساةِ البطلِ، فكما قال جلال الدين الرومي: “لقد خلقَ اللهُ المعاناةَ حتى تظهرَ السعادة ُمن خلالِ نقيضِها، فالأشياءُ تظهُر خلالَ أضدادِها، وبما أنه لا يوجدُ نقيضٌ لله فإنه يظلُّ مخفيًا”. وتكتملُ الثنائياتُ الضديّة ودلالةُ الأسماءِ في شخصيةِ الزوجةِ وديعة، فهي أبعدُ ما يكونُ عن الوداعةِ، متصلبةُ الرأيِ عملت على إحباطِ طموحاتِ الزوجِ، وجعلتْه ميِّتا في هذه الحياةِ وميتا روحًا وجسدا، فكانت دائما ما تردد لغةَ العصر “الفنُ لا يطعمُ خبزًا في بلادِنا”، “ما أصعبَ أن تتزوّجَ من امرأة لا تعرفُك حقَّ المعرفةِ ولا تقدّرُك، ما أصعبَ أن تجلسَ قُبالةَ لوحةٍ مشوّهِة”[1]. هذا لسانُ حالِ بطلِنا نسيم البرقوقي
دائرةُ الحياة ِوالموتِ: نسيمُ البرقوقي عاشَ حياةً لا تشبهُهُ، تنازلَ عن أحلامهِ وطموحاتِهِ، ورُغمَ هذا حصلَ على شهرةٍ واسعةٍ بفضل تقربه ولجوئه إلى الأحزاب السياسيّة، طريقةً في البحثِ عن بريقٍ اجتماعي في ظلِ مجتمعٍ يُشعرُهُ بضآلة المبدع فيه، إلّا أنه في قرارةٍ نفسِهِ كان يعلمُ أنَّهُ لم يصلْ إلى لحظةِ تحررهِ وتعبيرهِ عن ذاتهِ في رسوماتِه، فظلّ يشعر بالغربةِ، فبقيتْ لوحتُهُ ناقصةً، وقهرتْهُ إحباطاتُ الحياةِ وأسكتتْ نبضَ قلبِهِ، ليعودَ إلى حياتِهِ مرةً أخرى لشعورِهِ أنَّهُ ماتَ ولوحتُه ُما زالت ناقصةً: فالفنُ قد أحياهُ “كيف يتركُ لوحتَه ناقصةً، ومن يُدريهِ أنّها إذا ما اكتملتْ حقّقتْ له ذاتَه، فان كوخ فلسطين”[2].
شعورهُ بأنه هذا الشابُ المهجرُ الذي طُرد منْ بلدِه ومن حياتِه، وفُرِضَ عليه مكانٌ ليس لهُ، فوجدَ في الرسمِ فرصةً لتحقيقِ ما لم يستطعْ تحقيقَهُ في الحياةِ، “ماذا تريدين منّي أنا المهجّر ابنُ المهجّر أن أفعلَ سوى ممارسةِ الفنِ، لكي أكون َوأحقّقَ وجودي في عالمٍ لا يريدُ أن يكونَ لي وجودٌ”[3]. عاشَ حياتَه ولم يكن كما حَلُمَ وعندَ بعثِهِ من جديٍد أرادَ استغلالَ فرصةٍ أخيرةٍ لتكتملَ لوحةُ حياتِهِ بعيدًا عن التشويهِ: “الفنانُ يا ابنتي لا يستطيعُ أن يعيشَ حالةَ الخلقِ مرّتين، هو إمّا يمسكُ باللحظةِ حين حضورِها، وإما يفقُد فرصةً لا تتكرّرُ”[4]. لقد توصّلَ نسيم البرقوقي إلى هذه الثنائيّة الضدّيّةِ، فيجبُ أن يتجرّدَ من جسدِه ويطلقَ لروحهِ العنانَ ليعوَد حيًّا: “هو فقط من أدرك سَّر الإبداعِ أخيرا، إنّه الشّعورُ بالموتِ والفَناءِ أولا، والحبِ الغامرِ لهذا العالمِ ثانيًا”[5]. “فمن ماتَ وعادَ إلى الحياةِ لا بدّ أن يكتشفَ أسرارَها، وأن يعرفَ كيف يتعاملُ معَ الأصباحِ المشمسةِ والورودِ”[6].
مواضيعُ اجتماعيةٌ وسياسيةٌ تمّ مناقشتُها في روايةِ الُمحاق: *مناقشةُ ظاهرةِ العنفِ من منظورٍ آخرَ، من وجهةِ نظرِ الرجلِ: من الجميِل أن يتمَّ طرحُ الموضوعِ من الناحية الأخرى، فدائما يتم مناقشةُ ظاهرةِ العنفِ ضد المرأةِ كضلع ٍقاصرٍ، أما هنا فقد سبح كاتبنا ضدَ التيارِ، فظهَر الأذى الذي يتم الحاقُه بالرجلِ لنرى هنا نموذجًا مناقضًا، فالرجلُ هنا هو الضحيةُ، والمرأةُ العربيةُ في مجتمعِنا بدأت تستغلُ قانونَ حمايتِها لتهددَ به الرجلَ فناقشَ الكاتبُ تأثرَنا بقوانينَ غربيةٍ لا تمُتُ لعاداتنا وتقاليدنا بصلةٍ، وجاءت بلا تمهيدٍ: “هذا صحيحٌ لو أنّ هذا القانونَ جاءَ على مراحلَ وبمبادرةٍ ذاتيةٍ، أمّا أن يأتيَ مرّةً واحدةً دِبْ دبتك العافية فإنّ هذا هو الخطأُ “[7]، لقد حذّر الكاتبُ من استغلالِ المرأةِ لحريةٍ وحقوقٍ مُنحت لها ومحاولتِها السيطرةَ على الرجلِ، فهي لا تفقهُ هذه المبادئَ الدخيلةَ على مجتمعِنا العربيِ، فيقرع كاتبُنا ناقوسَ خطرِ غزوِ ثقافاتٍ غربيةٍ لمجتمعِنا العربيّ فيطرح تساؤلا: “ماذا ترى بإمكانِنا نحن المثقفين أن نفعلَ في مواجهةِ حضارةٍ وثقافةٍ تريدان إلغاءَ كُلِّ ما يتعلّقُ بنا، وجعْلَنَا تابعين لها”[8]؟ ويطرح حلّا: أعتقدُ أنّ الثقافةَ هي سلاحُ من يريدُ أن يكونَ وأن يوجدَ في هذا العصرِ، نحن ينبغي أن نتقنَ لغةَ الآخرِ، بدلَ التمحوِر في عقليةٍ جذورُها قبليّةٌ وتخضعُ في صميمِها لشيخِ القبيلةِ وزعيمِها”[9].
معاناة ُالمبدعِ في مجتمعِ أقليّةٍ عربيّةِ: إنّ المبدعَ في فلسطين 48 يعاني من إجحافٍ في حقِّه، فهو مُهمَّشٌ في العالمِ العربيِ ولا يجدُ مكانَه ضمنَ أقليّةٍ في ظلِّ مجتمعٍ اسرائيليّ. “أخيرًا جاءت لحظةُ الإبداعِ، هي تأخّرت، لكنها جاءت تجرجُر أذيالَها منصاعةً متراقصةً لمن أراد أن يكونَ واحدًا من أسيادِ الفنّ في عالمٍ ليس له وجودٌ على خارطةِ الإبداعِ”[10]، فالإبداعُ الحقيقيُ يُحيي صاحبَه حين نبحثُ عن معنى ونقدّمُ رسالةً. ويشيُر إلى ظاهرةٍ خطيرة ٍوهي حينَ يلجأ الإبداعُ للتسييسِ، فينتمي المبدعُ إلى حزبٍ معينٍ لينالَ شهرةً، عندها يصبحُ إبداعُهُ مقيَّدًا لأنه سيخاطبُ من خلالِهِ سياسةَ حزبِه: “مع هذا انسقتُ وراءَ رجالِ السياسةِ طمعًا في مكسبٍ عابرٍ بسيط،ٍ هو أقُل بمليونِ مرةٍ ممّا يمكنُ أن يمنحَكَ الفنُّ الحقيقيُّ من مكاسبَ، أنتَ لم تكنْ وحيدًا في هذا، فالفنانون في بلادِنا وفي عالمِنا الثالثِ عامةً، كانوا إلى سنواتٍ ليست بعيدةً يُنتجون ويبدعون لإرضاء آخرين من ثعالبِ السياسةِ وتجارِ الوطنيةِ وربما مدّعيها”.[11] ويَلْخُص القولَ إلى أنّ “الفنانَ الحقيقيَّ هو مَن يعملُ على تطويِر نفسِهِ، وهو ليس بأيِ حالٍ من الأحوالِ ذلك الذي يعملُ على العلاقاتِ العامّةِ، إنهُ باختصارٍ يتركُ لفنّهِ أنْ يكونَ رسولاً للآخرين، وهو لا يمكنُ أن يكونَ بأي حالٍ من الأحوالِ رسولاً لفنّهِ”[12].
السردُ: إنَّ الراويَ في المحاق عليم ٌبكلّ شيء، كلّيُّ المعرفة لا ينقطعُ حضورُه إلا بالحوارِ، ولا يتركُ مجالا للقارئ ليخمّنَ أو يتوقعَ، ولا يدعُه يملأُ فجواتٍ في النّصِ، فيعرضُ المشكلةَ ويقترح حلولًا لها، فجاء في كثير من الأحيان مُلقّنًا عارضًا بشكلٍ مباشرٍ فكرتَهُ دون أنْ يتركَ دورًا للقارئِ، فضاع ألقُ الاكتشافِ وقوّضَّ أفقَ التّلقي، وباتتِ المعلوماتُ تقريريّةً دعائيّةً في كثيرٍ من الأحيانِ، وتضمّنت الروايةُ إقحاماتٍ شعاريّةً ورسائلَ مباشرةً حولَ معاناة ِالمبدعِ الفلسطينيِّ في ظلّ ظروفٍ سياسيّةٍ: “وهل من الممكنِ أن تُنتجَ هذه البلاُد المصابةُ بعقمٍ مزمنٍ في مجالاتِ الخلقِ والإبداعِ فنانًا حقيقيّا يرفعُ اسمَها عاليا؟”[13]، فالكاتبُ كأنّ به يمسكُ بتلابيبِ القارئِ ويقول له: هذه هي الدلالةُ التي أعنيها، ويضيّقُ عليه الخناقَ. إلّا أنّه تدارك ذلك بنهايةٍ مُوفقةٍ سأتحدثُ عنها لاحقًا.
هذه الروايةُ النوفيلا تنتسبُ إلى منظورِ القصةِ القصيرةِ من ناحية التقنيةِ والأَداءِ السرديِ أكثرَ منها لمنظورِ الروايةِ، وهو ما يشيُر إلى أحدِ أنماط القصةِ الطويلةِ، فرُغمَ الطولِ النسبيِّ للقصّةِ مقارنةً بالقصصِ القصيرةِ، فإنّ عددَ الشخصياتِ محدودٌ، والأحداثَ مختزلةٌ مكثّفةٌ، محصورةٌ في دائرةِ عائلةِ نسيم وعلاقتِه بالعالم المحيطِ وبزوجتهِ ومعجباتهِ. وهذه النوفيلا كانت وليدةَ قصةٍ قصيرة للمؤلفِ بعنوان “غرام” من مجموعته القصصيّة “حكاية مهرة”، والإطارُ العامّ لأحداث ِالقصّةِ القصيرةِ هو ذاتُه في روايةِ المُحاق، والجثةُ التي تروي القصّةَ من منظورِها، ودموعُ زوجتهِ المخادعةُ والمعجباتُ المتحلّقاتُ حول جسدِه الميْت، وجاءت الروايةُ لتتطوّرَ الأحداثُ بعدَها حينَ يُمنحُ فرصةً أخرى ليعيش.
لقد صدرت رواية المحاق في طبعتها الأولى عام 2013 بعنوان “غرام أو نهاية فنان”، ولكنّ العنوانَ جاء مباشرًا مقارنة بعنوانِ المُحاق وولادةِ شهرٍ جديد وأملٍ جديد، طالما هناك المرأةُ الحلمُ سلاف، ودلالة اسمها في كونها أفضلَ الخمرِ الخالص من كلّ شيء، والتي ترمزُ إلى التفاؤلِ، والابنةُ الأملُ “سهر الليالي”، فما دامَ في العمر بقيةٌ فالحلمُ والأملُ موجودان.
ملامحُ السيرةِ في رواية المحاق: أنا لستُ من أنصارِ رولان بارت حين نادى بموتِ المؤلفِ، فالكاتبُ شاء أم أبى يصبُّ شيئًا من روحهِ في روايته، ونرى هذا البطلَ “نسيم البرقوقي”: في كونه الفلسطينيَ المّهجّر، وهذا ما نعرفه عن كاتبِنا الأديبِ ناجي ظاهر وهجرتِه وأهلِه من سيرين، فالوجعُ وحّدهما وأوحشَ نبضَهُما، وكلاهُما مبدعٌ وإن اختلفتْ مجالاتُ الإبداعِ، وصاحبنُا بطلُ الرواية فنانٌ تشكيليٌ مبدعٌ وكاتبُنا أديبٌ مبدعٌ. كذلك المكان الناصرة وتفاصيلُ أزقتها وأحيائِها والكاتبُ من الناصرةِ، وما انفكتْ بلدتُه المهجّرةُ سيرين ومدينتُه الحاليةُ الناصرة تؤرّقان وجدانَه، ومعاناةُ المبدعِ هي أيضا معاناةُ كاتبنا، فهو متهم بأنه خارجُ السربِ دائمًا، بينما هو ينشدُ التواصلَ مع المجتمعِ في مستوياتٍ أعمقَ.
نهاية الرواية: لقد تفوق الأديبُ ناجي ظاهر في نهاية روايته، حين أحكم إغلاقَ الدائرة التي ابتدأها في العنوان ومن ثَمّ الغلاف، فالأحداث والفكرةُ التي أرادها قالها على لسانِ الراوي: “هو فقط أدرك سَّر الإبداعِ أخيرا، إنه الشعورُ بالموتِ والفناءِ أولا والحبِ الغامرِ لهذا العالمِ ثانيًا”، وهذا ما حصلَ مع بطلِنا، ماتَ وعادَ للحياةِ، ليكتشفَ أنه لم يكن عائشًا في حياةٍ أولى، كبتَ فيها إبداعَه من أجل إرضاءِ مصالحِ الآخرينَ، وفي الفترةِ القصيرةِ التي عاد فيها قرّرَ أن يحيا، فهو لم يحلم بأكثر من حياةٍ كالحياة. فلا يمكنُ فهمُ موتِهِ إلا فهمًا رمزيًا، فهذه الزوجةُ التي لم تأبهْ لمشاعرِه ِولا لفنهِ، نراها تقتلُه بدافعِ الغيرةِ وهو لا يقاومُ، بل اكتفى بالمقاومةِ الكلاميةِ، فاللوحةُ التي عادَ من أجلِها قد اكتملتْ، لنكتشفَ أنها لم تكن لوحةً للموديلِ العاري المرسومِ، بل لوحةً لامرأةٍ عاديةٍ تشبهُ زوجتَه وديعة، فالقتلُ هنا رمزيٌ يرمزُ إلى علاقةِ المبدع بمجتمعهِ، فهو يبدو مطرودًا خارجَ نسقِ القيمِ المجتمعيّة، وخارجَ العلاقاتِ السطحيةِ العابرةِ التي يصنعها المجتمعُ، بالرُغمِ من أنه ينشدُ التواصلَ مع المجتمعِ في مستوياتٍ أعمقَ، لهذا عندما رأت زوجتُه اللوحةَ وجدت وجهًا يشبهها، فالفنانُ يصوّر مجتمعَه ويبدي تواصلا حميميًّا، ولكن يبدو دائما معرضًا لإساءةِ الفهم ومن ثمّ إساءةِ التأويلِ، فقد يبدو المبدعُ شاذًا ومرفوضًا وكأنه خارجُ السربِ، فيلجأُ نتيجةَ إحساسهِ بالضآلة إلى بريق اجتماعيّ وسياسيّ ليعوّضَ إحساسَه في الغربة، فالنهايةُ كانت موفّقةً محبوكةَ الخيوطِ ببراعةٍ متناهية.
وأخيرًا.. أحيّي في الأديبِ ناجي ظاهر هذه الروحَ التي لم تكفَّ عن النبضِ، وهذا الألقَ الإبداعيَ في ظلِ ظروفٍ سياسيّةٍ ونفسيّةٍ تحاصرُ أُدباءَنا، فالشعلةُ كما هي في الغلافِ ما زالت مضيئةً، وأديبنُا هو الناجي من موت الإبداع في ظلِ ظروفٍ قاسيةٍ يعيشها أدباؤنا، مباركٌ لك هذا النتاجُ الأدبيُ الجميلُ.
مداخلة د. ماري توتري: أبدأ بملاحظةٍ هامشيّة، ففي الكتاب أخطاء مطبعيّة، وهي ظاهرةٌ شائعة لدى العديد من الكُتّاب العرب، خصوصًا المشهورين منهم مثل نوال السعداوي ومحمد حسنين هيكل وغيرهم، وكأنّهم ليسوا بحاجة لتنقيح كتبهم، فمثلًا يوجد على الأقل غلطة واحدة في كتب نوال السعداوي الأخيرة (3 أجزاء من أوراقي.. حياتي ومذكراتي في السجن). هذه الظاهرة تنتقص من قيمة الكتاب.
درست أدب إنجليزي للقب الأوّل، وعملت كمُدرّسة ثانويّة للغة والأدب الإنجليزيّ مدّة 26 عامًا، ومع أنّي تحوّلت من مجال الأدب إلى مجال العلوم الاجتماعيّة، حيث درست من جديد عِلم اجتماع وعلوم سياسيّة، إلّا أنّني لا أستغني عن رواية أدبيّة جيّدة، فبنظري، يمكن أن يكون الأديب أفضل من باحث في مجال علم النفس والعلوم الاجتماعيّة، ففي كتب عديدة تُضيف (enlightment) “إنارة” أو “تنوير” على فهم تركيبة النفس البشريّة، مثل كتاب بتي سميث A tree Grows in Brookline، الذي فيه تُصنّف بني البشر الى صنفيْن: مَن يتعلّم مِن تجاربه القاسية ويرتقي إنسانيّا، ومَن لا يتعلم شيئًا من تجاربه، ويُعيد الكَرّة مرّات أخرى. في بعض الحالات يمكن لرواية جيّدة أن تكون المصدر الوحيد للتعرّف على ما يدور في مجتمع ما، مثل المجتمعات المحافظة كالسعودية ودول الخليج، التي يُمنع فيها دراسة ظواهر اجتماعيّة عديدة، فكتاب عبده الخال “ترمي بشرر”، وكتاب “بنات الرياض” لرجاء عبدالله الصانع، وكتاب “ساق البامبو” لسعود السعنوسي هم أمثلة على ذلك.
في الماضي حين كنت في مجال الأدب، حت آنذاك كان اهتمامي دائمًا بالمضمون الاجتماعيّ والنفسيّ في الرواية، ولم يهمّني كثيرًا الجانبَ الأدبيّ (الرمزيّة والتورية والبلاغة وحبكة القصّة..)، طبعًا بدون التنازل عن مستوى لغويّ وأسلوب مقبول، لذلك لن أتطرّق في مداخلتي هذه للجوانب الأدبيّة في الكتاب، إنّما سأتطرّق لأحد المواضيع المركزيّة الذي طرحه الكتاب، ألا وهو “قانون حماية المرأة”، وسوف أتطرّق إلى صورة المرأة السلبيّة والتقليديّة التي ظهرت في هذا الكتاب. “قانون حماية المرأة” ليس إلّا القانون ضدّ العنف الأسريّ، ولا يُسمّى بقانون حماية المرأة، ولكن بما أنّ المرأة هي بالأساس ضحيّة العنف الأسريّ، فيمكن القول، إنّ القانونَ جاء لحمايتها من ذلك العنف الأسريّ، ولكنّ كاتبَ القصّة عرّفَ هذا القانون على أنّه “قانون حماية المرأة” الظالم الذي يَضع الرجالَ رهائنَ بين أيدي النساء، والادّعاء على أنّه مؤامرةٌ من (إسرائيل) ضدّ المجتمع العربيّ في البلاد!
لديّ مشكلة مع تبنّي نظريّة المؤامرة بشكل عامّ، ففي العلوم الاجتماعيّة التوجُّهان النقيضان: من جهة هناك نظريّات التحديث (Modernization Theories) التي تتبنّى عادةً نظرةً استعلائيّة واستشراقيّة عند دراسة المجتمعات العربيّة، وتفسّر وتوعزُ الأوضاعَ الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة المُتدنّية فيها لأسباب بُنيويّة، دون الأخذ بالاعتبار بتاريخها مع الاستعمار والأسباب الأخرى التي تفسر أوضاعَها الحاليّة، أي أنّ هذه النظريّات تضعُ كلّ اللوم على المجتمعات نفسها، لوضعها الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ المُتدنّي. من جهةٍ أخرى، هناك نظريّات المؤامرة التي تضع كلّ اللوم على الآخر (الكلونياليّة، المُحتلّ، الرجل الأبيض..)، وتُبرّئ المجتمعات نفسها من أخذ المسؤوليّة على جزءٍ ممّا يحدث لها، فهنالك مراكز أبحاث عندنا تتبنى هذا النهج بالكامل! مشكلتي مع هذا التوجّه، أنّه يضعُ كلّ اللوم على الآخر، ولا يأخذ مسؤوليّة قليلة صغيرة على وضعنا العامّ، أو على المستوى الشخصيّ!
سأعطي مثالًا من كتاب المحاق، فمثلا من عام 2000 حتى عام 2016 قتل حوالي 1.300 عربيّ على أيدي عرب، بسبب ما نُسمّيه بالاحتراب الداخليّ أو العنف الداخليّ، لكننا نضع غالبًا كلّ اللوم على الشرطة التي لا تحارب ظاهرة السلاح المنتشر في بلداتنا العربيّة، دون التطرّق لدوْرنا في هذه المشكلة ومسؤوليّتنا تجاه مجتمعنا، فعندما نتبنّى نظريّة المؤامرة، نبرّئ أنفسنا مِن اتّخاذ المسؤوليّة على حياتنا الشخصيّة أيضًا. فمثلًا في رواية (المحاق) بطل القصّة نسيم البرقوقي الفنّان مرهف الحسّ الليبراليّ في أفكاره، يُبدي إعجابَهُ مِن جون بول سارتر وسيمون دي بفوار، اللذيْن عاشا حياتهما معًا دون إطار زواجٍ لم يُؤمنا به. ونسيم البرقوقي لا يؤمن بإطار الزواج أيضًا لأنّه فنّان، ومن الضروريّ كما قال أن يبقى حُرّا، ولكن مِن جهةٍ أخرى يطلب من أهله أن “يُدبّروا له عروسًا”، والتي في النهاية لم تكن اختيارًا جيّدًا له! هنالك تناقض صارخ لفكره الليبراليّ وتصرُّفه التقليديّ، والسؤال، مَن يتحمّل مسؤوليّة زواجه من وديعة الشبيك؟
أعود للادّعاء على أنّ “قانون حماية المرأة” هو مؤامرة إسرائيليّة ضدّ مجتمعنا العربيّ، فيقول همّام الشماليّ إحدى شخصيّات القصّة، وهو كاتب وصحفيّ اعتقل مثل نسيم البرقوقي، لأنّ زوجته ادّعت أيضًا مثل زوجة نسيم البرقوقي أنّها عُنّفت من قِبل زوجها، في حديث دار بينهما (ص87-86): “بعد احتلالنا وبعد أن أصبحنا رعايا في الدولة.. إسرائيل تُوجّه ضربتها القاضية إلينا وتسنّ القوانين وتدخل بيوتنا، لتجعل من نسائنا عَدُوّاتٍ لنا”. “لقد تحوّل مجتمعنا العربيّ إلى مجتمع أفاع. الويل لنا إذا ما استمرّ الوضع على ما هو عليه. لن يبقى من العرب عربا، وسوف نكون آخر العرب في هذه البلاد”! ذكر همام الشمالي أنه ونسيم البرقوقي ليسا الموقوفين العربيين الوحيدين في هذا المعتقل، بل هناك 600 موقوف عربيّ بذات التهمة.
الادّعاءُ العامّ في هذا الكتاب هو أنّ النساء أصبحن عدُوّاتٍ للرجال، وليس هنالك ذِكْرٌ لظاهرة العنف ضدّ النساء في مجتمعنا العربيّ! سأقدّمُ بعضَ الإحصائيّات عن العنف في مجتمعنا العربيّ: ففي السنة الماضية (2015) قتلت 10 نساء عربيّات من بين 18 امرأة، بأيدي أزواجهنّ، واللواتي كان يُفترَضُ أن يحميهنّ القانونُ من هذا المصير! هذا يعني؛ أنّ نسبة النساء العربيّات تشكّلُ 55% من النّساء اللواتي قتلن في السنة الماضية، ونحن العرب نُشكّل 18% مِن مُجمل السكّان في إسرائيل، أي أنّ ضحايا العنف عندنا تشكّل ثلاثة أضعاف المجتمع اليهوديّ!؟
تبيّن في دراسة أجراها بروفسور محمّد الحاج يحيى على عيّنة من 2.000 امرأة متزوّجة، أنّ هناك نسبة عالية من النساء اللواتي يتعرّضن للعنف النفسيّ واللفظيّ والجسديّ والجنسيّ، فمثلًا 20% من النساء قلن إنّ أزواجهنّ اتّهموهنّ بأنهن فاشلات. و 22% من النساء قلن إنّ أزواجهنّ استخفّوا بهنّ وتعاملوا معهنّ بأسلوب مُهين وجارح، و 24% صرّحن أنّ أزواجهنّ أمسكوا بهنّ بقوّة أثناء نقاش حادّ، و 25% منهنّ تهجّم أزواجهنّ عليهنّ بالصفع واللطم على الأقلّ مرّةً خلال 12 شهرًا، و 9% منهنّ تهجّم أزواجهنّ عليهنّ بالضرب المُتكرّر، و 2% منهنّ تهجّم أزواجهنّ عليهنّ بسكّين أو بسلاح! حسب رأي الباحثين والأكاديميّين أنّ مشكلة العنف الأسريّ، (وبالأساس العنف ضدّ المرأة) هو أكثر انتشارًا بكثير ممّا تُفصح الدراسات عنه، لأن كثيراتٍ مِن ضحايا العنف الأسريّ يَمِلن إلى عدم الافصاح عن تجربتهنّ المؤلمة، (خجلًا، خوفًا، سبب الشعور بالذنب و..). ويلخص الباحثون والأكاديميّون أنّ الخدمات المتوفّرة لمساندة وحماية ضحايا العنف الأسريّ هي ضئيلة جدّا في مجتمعنا العربيّ، وأنّه يجب الاعتراف بأنّ المجتمع العربيّ لم ينجح بتوفير علاجًا وحماية ومؤازرة رسميّة واجتماعيّة لضحايا العنف الأسري، ولا الملاحقة القانونيّة للمُعتدين.
أنا لا أبرّئ الشرطة والدولة عن هذا الوضع المُزري لنسائنا العربيّات، اللتان تدّعيان بدورهما على “أنّ العنف مُتجذّرٌ عميقًا في المجتمع العربيّ”، أي أنّها تضع كلّ اللوم على مجتمعنا، ولا تحاول معالجة هذه المشكلة، وكمثال على ذلك قلّة الملاجئ للنساء العربيّات! (2 من بين 14 ملجأ للنساء المُعنّفات).
ذكَرَ أحد الشخصيّات: “لم أعُدْ سيّد البيت وربّان السفينة”. “الواحد منّا توقف عن أن يكون رجلًا، وبات كلّ شيء بيد المرأة. بإمكان أيّة امرأة أن ترفع سماعة التلفون وتتصل بالشرطة، لتأتي بعد دقائق لإبعاد زوجها من البيت”! أعجبني جدّا تصوير الشرطة الإسرائيليّة على سرعة استعدادها للمجيء بسرعة البرق، مع أنّنا في الواقع نعرف أنّ الوضع هو تمامًا العكس، فحين يحدث شجار وإطلاق نار، يُطلب من الشرطة المجيء وتجيب عادة “بعدما تحصوا قتلاكم ويتوقف إطلاق نار اتصلوا بنا مرّة أخرى”. إذا كان الوضع كما صوّر في الكتاب، أقترح في الشجار الدمويّ القادم أن تتّصل امرأة بالشرطة، وتدّعي أنّ زوجها يُهدّدها لعلّ الشرطة تصل بسرعة البرق! خلال الحوار الذي دار بين همام الشمالي ونسيم البرقوقي في المعتقل قال همام الشمالي: “نحن العرب أكثر المتضرّرين منه، (القانون) سيؤدّي لإيجاد شرخ في البيت العربيّ، لا سيّما إذا كانت فيه امرأة مجنونة”! ويستمرّ ويتساءل: “وهل توجد هناك عندنا نحن العرب امرأة عاقلة واحدة”؟! هذا التعميم هو مصيبة بحدّ ذاته، لأنّه جاء من صحفيّ وكاتب. الكتاب صوّر المرأة بصورة سلبيّة وعدائيّة، وأنا لا أنكر أنّ هناك إمكانيّة لبعض النساء أن يستغلن القانون، ولكن التعميم الأعمى وعدم الاعتراف من وجود ظاهرة العنف الأسريّ وتحويل النساء من ضحايا العنف لعدوّات الرجال، في هذا تشويه للواقع الذي نعيشه.