جاستا: هل يتنحى عادل الجبير؟
بقلم / طراد بن سعيد العمري
تذكروا معي جيداً “ستيفاني روس دي سيمون” Stephanie Ross DeSimone، وإحفظوا إسمها عن ظهر قلب. هذه أرملة أمريكية قامت برفع دعوى قضائية ضد السعودية في محكمة مقاطعة كولومبيا (واشنطن العاصمة) ملف رقم (16cv1944)، بتهمتين: القتل الخطأ؛ والإضطراب العاطفي المتعمد، وتطالب بتعويضات غير محددة وتعويضات أدبية (معنوية)، يوم 29 سبتمبر 2016، أي بعد يومين من إقرار قانون “جاستا” الذي يسمح لعائلات ضحايا 11 سبتمبر بمقاضاة الدول التي ترعى الإرهاب. ماهي أهمية هذه القضية أو ما يشابهها خلال الأيام والأسابيع القادمة؟ هو أن أي حكم لصالح أي مدّعي (مواطن أو مواطنة أمريكية أو مقيم على أرض أمريكية) ضد مدّعى عليه (الحكومة السعودية) سيشكل سابقة يتم الإشارة إليها في القضايا اللاحقة مع إختلاف حجم التعويضات بإختلاف المحاكم والقضاة والمحلفين والولاية. صدور قانون “جاستا” سينال من السعودية عاجلاً أو آجلاً، ليس بالتعويض المالي الذي لا قِبل للسعودية أو أي دولة به فقط، بل ربما يكون النيل من ثقافة السعودية وهويتها وإستقلالها في أهون الأحوال، وربما يتطور للنيل من سيادتها ومقدراتها ليصل إلى تهديد لبقاء السعودية ووجودها في أسوأ الأحوال.
ستضطر السعودية إلى التفكير بجدية في إتخاذ ثلاثة أمور بشكل سريع ومتسارع: (1) إعفاء وزير الخارجية من منصبه لفشله في إدارته قضية صياغة قانون “جاستا”، وعدم قدرته على إدارة ملفات السياسة الخارجية منذ تعيينه، وعدم مناسبته لمتطلبات وإدارة المرحلة الجديدة القادمة؛ (2) تشكيل “هيئة سعودية عليا” لصياغة إستراتيجية هجومية حادة وعاجلة للتعامل مع قانون “جاستا”؛ (3) صياغة إستراتيجية دفاعية مرنة وودية للسياسة الخارجية السعودية تفضي إلى تحالفات جديدة. قانون “جاستا” خطير على أكثر من صعيد لكننا سنقتصر هنا على خطورته بالنسبة للسعودية مما يتطلب نوع مختلف من التعامل مع منطق القوة الأمريكي بتدابير مساوية إن لم تكن أكبر وأقوى، لضمان البقاء على الأقل. منطق القوة الذي يتمثل مقولة “القوي على حق” Might is Right رافق الدول العظمى على مدى التاريخ. فقد منعت الإمبراطورية العثمانية، على سبيل المثال، سفن بريطانيا العظمى من المرور في البحر الأحمر لأن إقترابها من الأماكن المقدسة يؤذي مشاعر المسلمين، ثم إضطرت بريطانيا أن تدفع رسوم (جزية) لمرور سفنها. ولذا، فإن الولايات المتحدة تتصرف بذهنية القوة الأعظم بعد أن تحكمت في كافة المؤسسات السياسية والإقتصادية والمالية الدولية.
تصويت ممثلي الشعب الأمريكي بالأغلبية الساحقة ضد ڤيتو الرئيس الأمريكي باراك أوباما في مجلسي الشيوخ (97 مقابل 1)، والنواب ( 348 مقابل 76) يعطي دلالة واضحة على: (1) فشل الخارجية السعودية في درء مثل هذا الخطر متعدد الجوانب والعواقب وإدارة هذه القضية بشكل إحترافي؛(2) فشل وزير الخارجية عندما كان سفيراً في واشنطن حيث كانت القضية ومحاولة إصدار القانون تدور في أروقة الكونغرس منذ العام 2009؛ (3) فشل وزير الخارجية عادل الجبير بالرغم من أنه كان يعمل مساعداً للسفير السعودي لشؤون الكونغرس في العام 1986؛ (4) نتيجة التصويت تعني إصرار ممثلي الشعب الأمريكي للقصاص من السعودية؛ (5) مآلات القانون تشي بالعديد من السيناريوهات المخيفة منها تفكيك وإسقاط الدولة السعودية؛ (6) مضمون القانون وصدوره ونتيجة التصويت تعني تدني أهمية ووزن السعودية كدولة لدى صانعي السياسة في أمريكا؛ (7) كذب مقولة الصداقة أو الشراكة أو التحالف الذي تردده الإدارات الأمريكية على إستحياء، ونتباهى نحن به في العلن؛ (8) ضياع كل الإستثمارات السياسية والإقتصادية والعسكرية السعودية التي صبت في المصلحة الأمريكية؛ (9) فشل عمل السفارة في واشنطن، وفشل وزارة الخارجية، وفشل السياسة الخارجية السعودية.
طالبنا في مقال سابق بعنوان “السعودية وأمريكا: الورطة الكبرى” بعدد من الإجراءات من أهمها: (1) أن تصدر السعودية بياناً شديد اللهجة يرفض القانون الجديد، ويرفع الأمر لمجلس الأمن، والجمعية العمومية، ومحكمة العدل الدولية، مع وقف للنشاطات المالية والتجارية السعودية مع الولايات المتحدة ما أمكن، مع التأكيد على عدم زيادتها حتى إشعار أخر؛ (2) تشكيل “هيئة سعودية عالية” High Saudi Commission ضد الإرهاب ونتائجه ترتبط بالملك ورئيس مجلس الوزراء مباشرة وتضم ممثلين من الجهات الرسمية المعنية ومؤسسات المجتمع المدني والإعلام والقانون والجامعات لصياغة إستراتيجية متعددة المحاور لإدارة كل ما يتعلق بهذه الورطة والقضايا المماثلة؛ (3) أن تستخدم السعودية حقها السيادي بسن قوانين وتشريعات لمحاكمة الدول والمنظمات الدولية تشمل قضايا عديدة ولا تقتصر على الإرهاب وأن تحفظ لنفسها الحق في إختيار من ترى مقاضاته من الدول والمنظمات والمجموعات والأفراد؛ (4) أن تفتح السعودية الكثير من الملفات السرية في المعلومات والتحقيقات وما يماثلها في أجهزة الإستخبارات والسلطات الأمنية التي تدين الولايات المتحدة والدول الكبرى وممارساتها؛ (5) أن تقايض السعودية أصولها وإستثماراتها في الولايات المتحدة مع دول كبرى لتجنيبها التجميد أو الإستحواذ؛ (6) أن تلغي السعودية الكثير من الإمتيازات والمميزات التي تتمتع بها المنظمات والهيئات والشركات الأمريكية داخل الأراضي السعودية؛ (7) أن تشكل السعودية التحالفات السياسية والشعبية والقانونية مع الدول والشعوب الأخرى للحصول على تسهيلات وتوكيلات لمقاضاة الولايات المتحدة في المحاكم السعودية و/أو المحاكم الأخرى.
حاول عادل الجبير منذ تعيينه وزير للخارجية في 29 إبريل 2015 أن يملأ الفراغ الذي تركه الأمير سعود الفيصل، رحمه الله، لكنه عجز عن فعل ذلك لأسباب متعددة. تدهورت العلاقات الخارجية السعودية مع الولايات المتحدة، وبريطانيا، والإتحاد الأوروبي، وروسيا الإتحادية، وتركيا، وإيران، واليمن، والعراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، والمنظمات الدولية وصولاً إلى مجلس الأمن. لم يحدث أن أصبحت السعودية بهذا الموقف المضطرب منذ تأسيسها. كان المأمول من وزير الخارجية أن ينتهج أسلوب أكثر فعّالية لتحقيق الأهداف التي تؤدي لتحقيق المصالح السعودية العليا. كثرة الخصومات مع الدول دليل فشل وزارة الخارجية لسبب بسيط وهو أن وزير الخارجية وطاقم الوزارة معني بالوسائل لتحقيق الأهداف. وإذا كانت النتائج في الواقع على الأرض تدل على عدم نجاح أسلوب عادل الجبير كوزير للخارجية، فالأسلم هو تنحيه عن المنصب، لصالح وزير خارجية أكثر عمق وقوة يتناسب مع حجم السعودية وما تصبوا إليه.
يتحدث عادل الجبير بمزيج ومزيد من اللباقة واللياقة والثقافة، وهذا يؤهله فقط أن يكون متحدث رسمي أو إعلامي لوزارة الخارجية، لكن ليس وزير خارجية يحمل السياسة الخارجية للسعودية تحت جناحيه ويمكنه من إقناع نظرائه في المحافل الدولية بوجهة النظر السعودية والعمل على تبنيها كأذرعة مساعدة. الركون إلى قوة السعودية الإقتصادية التقليدية في مقايضة السياسة بالمال لم يعد ممكناً في ظل المتغيرات الدولية السياسية والإقتصادية. فالمال لم يعد مؤثراً كما لم يعد متوافراً للاستمرار في سياسة البترودولار. التسارع الرهيب الذي يمر بالعالم اليوم يخلق معضلة: ندرة رفاهية الوقت للتفكر والتعمق في قراءة وتحليل الحدث، من ناحية؛ وخطورة التسرع في إتخاذ خطوات ردود أفعال غير محسوبة العواقب، من ناحية أخرى. وبالتالي فإن منصب وزير خارجية السعودية كبير وعميق وضخم على أي شخص: (1) غير قادر على قراءة الموقف السياسي وتقديره؛ (2) وشخص لا يملك حسن إبتكار وسائل سياسية لتحقيق الأهداف؛ (3) وشخص غير قادر على إقناع الحكومة بصواب رؤيته والوسائل التي ينتهجها.
يقول المثل: “من لا يقرأ لا يحسّن الكتابة”. وعادل الجبير لم يتمكن من قراءة الوضع السياسي على كافة المستويات لكي يقدم رأي عميق وصائب للقيادة السعودية يتم على أساسه وبناء عليه كتابة وصياغة السياسات الأمثل لبلوغ الأهداف والمصالح السعودية. فالرأي قبل شجاعة الشجعان *** هو أول وهي المحل الثاني، كما يقول شاعر العرب المتنبي. فالقيادة السعودية لها ثوابت واضحة في عدة محاور: (1) ضمان أمن وإستقرار السعودية وحرية وإنسياب الطريق إلى الحرمين الشريفين؛ (2) حسن العلاقات مع الدول والشعوب الخليجية والعربية الشقيقة؛ (3) حسن العلاقات مع الدول الإسلامية وشعوبها؛ (4) حسن العلاقات مع الدول العظمى وسائر بلدان العالم؛ (5) حسن العلاقات مع سائر المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية. هنا يمكن لعادل الجبير نفسه أن يقيس حجم النجاح في المحاور الخمسة الآنفة الذكر، وعندها يمكن أن يتخذ القرار المناسب الذي يَصْب في صالح بلاده.
أخيراً، صدور قانون “جاستا” والبدء في تطبيقه هو دليل واضح على أمرين: (1) فشل وزير الخارجية السعودي، الذي رافق الشأن الأمريكي أفراداً ومؤسسات وعمل بقرب معها لمدة (30) عاماً 1986 -2016 وتدرج في المناصب حتى إستلم حقيبة الخارجية السيادية، كما لم يحسن إدارة كثير من الملفات من أهمها: الملف اليمني؛ الملف السوري؛ الملف الإيراني؛ الملف التركي؛ (2) عدم نجاح السياسة الخارجية التقليدية مع الولايات المتحدة تحديداً التي تقوم على الإنبهار والعاطفة والطيبة والإستسلام. ختاماً، نجزم بأن الحكومة السعودية تدرس بعمق ردود أفعال مناسبة تختلف جذرياً عن الأسلوب المتبع في الماضي الذي يرى الخبراء أنه أوصل السعودية إلى حالة من التردي، وأن السعودية تسعى للتصدي لتبعات قانون “جاستا”، وتحسين وضع السعودية مع كافة الدول ومراجعة السياسة الخارجية برمتها، فالسعودية تستحق أفضل وأقوى وأحسن وأجمل مما هو حاصل الآن مع الدول والأمم والمنظمات في المحافل الدولية في الخارج.