رائـحة المـــــــوت
الخروج لتأدية مراسيم الجنازة أبعدتها عن أجندتي منذ ان كنت?ْ مع لعبة الموت طوال سنين الحرب التي مزقت بلدي وما زالت ملامحه على جسدي ..فلقد كان يمر من جواري ولا يزال ذكرهم يوشك أن يخترق صدري ويفتت أضلاعي دون ان يقبض روحي …هل تصدقون اذا قلت لكم ان السماء في بلادي تختلف عما هي في البلدان الأخرى ? فبينما تمطر سمائهم يفرح الصبية? والنساء كما يفرح الفلاحون …أما سماء بلدي فأنها لن تزل تمطر موتا فتتناثر أشلائنا فتنبت الارض قبورا ..في بلدي لاشيء سوى الفناء والهلاك? واصداء الموتى? واصواتهم التي لاتنتهي ..نحن السلف وانتم الاثر!!! ..
أن أمره لا يزال يشعرني بأن أعضاء جسدي تنتزع من مكانها فأوقن أنها النهاية ? ويلتهمني اليأس … أنه ليس أحجية ولا لغزا ولا فنطازيا حكائية او سحرية او غرائبية ? بل هو الحقيقة ? ولأنه كذلك كنت أفضل تأدية أعرافه ? ومواساة أهل المصيبة ? والوقوف على احتياجاتهم كما هو متعارف عليه في التقاليد ?? وهو فعل أجده يغني عن الذهاب وحضور الدفن ومتطلباته …
وفي يوم كالح مغبر بارد لاشيء فيه سوى الاحمرار وجدت نفسي…احمل مع آلاخرين نعشا?ٍ ? وقد طأطأة رأسي احتراما لاحتراق جمجمتي التي يبكيها أنين الصمت وبياض المكان !!.
وبدأت اردد ما يقولون? مصطنعا لوجهي حزنا بلا شعور ? وانفعالا لا يكاد يتعدى تطفلي لمعرفة هوية المتوفى ? وجنسه ?وسبب وفاته ?وطقوس المناسبة …
غير ان صورا كثيرة تساقطت على ذاكرتي ? وانا أجول بالنظر بوجوه المشيعين المكتوون بلهيب الشمس والفاجعة ..صورا حسبتها قد كشفت عن سيرة المتوفى وخبر وفاته…كان من بينها …أنه شاب تجاوز العقد الثالث من عمره وانه قد آثر الرحيل مبكرا لما كان يراه من انتهاك قسري لقدسية الحياة وسر وجودها ? وان وطنه الذي كان يؤمن به بات هو الاخر بلا وطن …
وصورة أخرى تراءت من رجل كهل أتخذ من كوفيته لثاما?ٍ لدموعه :
المتوفى لديه أولاد قد كبروا ? وان الدار التي آوتهم طوال تلك السنين لم تعد تتسع لهم ? وأمر استبدالها شيء مستحيل ? وان الإغراب منذ ان سطوا على مدينته ? بات مرتعا?ٍ للمعتقلات ? ومتهما?ٍ دون جرم ? والقانون بلا قانون ? ولقد آثر الموت مبكرا ?ٍ مؤمنا بأن أهل البرزخ منصفون وسيطوون روعه…
وأما الصورة الأخيرة فقد هوت مع أنزال الجسد مثواه الأخير وتدثيره بالثرى !!… انه بقامة متوسطة وعلى كفنه بقايا لأحلام سمراء… كسحنته ? و قد قضى نحبه بفوضوية عشقه للسماء التي لا تخضع لحدود الطبيعة ? كأحلامه التي تسافر كالطيور دون ان يستوقفها جواز مرور او وطن يجهل لغتها ? وان نهايته جاءت مكملة لتطلعات روحه التي آثرت ان تتبع الفردوس وتلحق به…
لكن الصورة التي ما زالت ماثلة دون تزويق? وأفزعتني كثيرا هي جموع المشيعين الذين ما انفكوا من حضور مراسيم التلقين والدفن حتى انفضوا مسرعين ..واصوات خفق نعلهم تعلوا اصواتهم ..لم يبق منهم سواي? ? وإنني كلما آثرت إللحاق بهم أجد صعوبة في تمزيق الكفن ورفع التراب والحجارة من على جسدي ? ولم تجدي صرخاتي ? ولا توسلاتي باحدهم ليعود وينتشلني مما انا فيه….