زيارة كيري الاخيرة للسعودية: عملية انقاذ لآل سعود أم ماذا؟!
بقلم: د. بهيج سكاكيني
الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي كيري الى السعودية والاجتماع الموسع بحضور ممثلين عن مجلس التعاون الخليجي ووزير الخارجية البريطاني بالإضافة الى السعودية بالطبع لمناقشة الازمة اليمنية يأتي على اعقاب تعثر وفشل المفاوضات التي استضافتها دولة الكويت حول محاولة إيجاد مخرج سياسي للازمة اليمنية بين الفرقاء المتمثلين بأنصار الله وحزب المؤتمر الشعبي الذي يرأسه الرئيس السابق علي عبدالله صالح من جهة وانصار الرئيس هادي المنتهي ولايته وذلك تحت اشراف الأمم المتحدة عن طريق المبعوث الاممي إسماعيل ولد الشيخ أحمد.
ويعود فشل هذه المباحثات والتي استمرت على مدى ثلاثة أشهر تقريبا نتيجة للإصرار السعودي على عدم القبول بأي حل لا يفضي الى الاستسلام الكامل لأنصار الله وحزب المؤتمر الشعبي وعودة اليمن الى حظيرة آل سعود والعبودية.
وأتت هذه الزيارة لكيري في الوقت الذي بدأ فيه الجيش اليمني واللجان الشعبية يدك مواقع استراتيجية داخل العمق السعودي بما فيها بعض المنشآت النفطية لشركة أرامكو الى جانب محطة لتوليد الكهرباء في جيزان الى جانب بعض المعسكرات للجيش السعودي داخل السعودية.
هذا الخيار الاستراتيجي الذي اتبعه الجيش اليمني واللجان الشعبية بدأ يقلق السعودية الى حد كبير وربما الى حد أكبر الولايات المتحدة على وجه التحديد والدول الغربية بشكل عام لأنه بدأ يهدد المصالح الاستراتيجية والحيوية الامريكية.
والمقصود هنا منابع النفط وخاصة وأن السعودية تصدر ما يقرب من عشرة ملايين برميل نفط يوميا الى الأسواق العالمية هذا بالإضافة الى ان القواعد الامريكية في الخليج العربي أصبحت في مدى الصواريخ الباليستية اليمنية.
نحن لا نفترض أن هذه الصواريخ ستوجه الى الاسطول الأمريكي وحاملات الطائرات الامريكية القابعة في الخليج بعد تحويله الى بحيرة أمريكية ولكن مما لا شك فيه ان وجود مثل هذه القوة الصاروخية وعدم تمكن أنظمة الباتريوت في السعودية التصدي لها يثير قلقا أمريكيا. من الواضح ان الجيش اليمني واللجان الشعبية آخذين في التصعيد العسكري بنقل المعركة الى داخل العمق السعودي في نجران وجيزان وعسير( وهي أراضي يمنية أصلا ضمت الى السعودية منذ انشاء المملكة) باحتلال أراضي حدودية وبتكثيف القصف الصاروخي وتنوع الصواريخ المستخدمة من حيث قدرتها التدميرية ومداها.
وصاروخ بركان 1 الذي أطلق مؤخرا وهو صاروخ سكود مطور داخل اليمن قام بقصف مواقع سعودية تبعد ما يقرب من 800 كيلومتر من الحدود مع اليمن.
وجاءت هذه الزيارة والاجتماعات على خلفية عدم تمكن قوات “التحالف العربي الإسلامي” الذي تقوده السعودية وقوات هادي والمرتزقة الذين استطاعت السعودية والامارات العربية تجنيدهم للقتال في اليمن، عدم تمكنهم من تحقيق أية انتصارات عسكرية استراتيجية في الميدان، بالرغم مما يقرب من العام والنصف من القصف الجوي البربري المتواصل لطائرات “التحالف” حيث بلغ عدد الطلعات الجوية لطائرات التحالف فوق اليمن الى 46500 منذ بدء العدوان في شهر مارس 2015 الى فبراير 2016
لقد عملت السعودية وزبانيتها على تدمير اليمن ومقدراته تدميرا كاملا في محاولة للإجبار الشعب اليمني على الركوع. حيث قامت طائرات التحالف بتدمير المصانع وصوامع الحبوب ومحطات توليد الكهرباء والموانىء المستشفيات وشبكات توزيع المياه والسدود المائية ومحطات توزيع الغاز والجسور والأماكن التاريخية والتراثية وباختصار كل البنى التحتية وكل من يساهم أو يساعد على العيش ولو بحدوده الدنيا.
وبالإضافة الى هذا القصف الجوي المتواصل فرضت السعودية حصارا خانقا برا وجوا وبحرا على اليمن مما أدى الى عدم ادخال اية مواد غذائية أو محروقات أو ادوية، مما فاقم الوضع المعيشي والصحي والإنساني في الداخل اليمني وأصبح 80% من سكانه بحاجة الى المعونات للاستمرار في العيش بحسب تقارير الأمم المتحدة.
هذا الوضع الإنساني المتأزم عرى العدوان الغاشم على اليمن وأصبح الجميع على المستوى الإقليمي والعالمي يدرك ان حرب السعودية على اليمن لم تكن حربا لإعادة ما أسمته “بالشرعية” وإعادة الرئيس المستقيل والمنتهية ولايته الرئيس هادي الذي فر من البلاد والتجأ الى أسياده في السعودية التي باتت تقرر على ما يجب أن يكون النظام السياسي في اليمن بمعنى “تغيير النظام” ليناسب آل سعود على غرار السياسة المتبعة من البيت الأبيض “بتغيير النظام” في اية دولة تتجرأ على تحدي الهيمنة الامريكية وعدم الانصياع الى الأوامر الاتية من البيت الأبيض.
لقد افتضح أمر السعودية واجرامها في اليمن وخاصة مع ارتفاع عدد الضحايا والشهداء من المدنيين من أطفال ونساء وتم القضاء على اسر بحالها وهي نيام. وزاد من جرائمها التي ترقى الى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وخاصة باستخدام الأسلحة المحرمة دوليا مثل القنابل العنقودية والفسفورية الحارقة في المناطق السكنية والأسواق الشعبية وتوثيق عدة حالات من قبل منظمات الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية.
وهذا ما شكل ضغطا عالميا على السعودية حتى من الدول التي قدمت كل الدعم لقوات “التحالف” بعدوانها الغاشم على اليمن سواء بالتسليح أو الدعم اللوجيستي والسياسي.
وأصبح العديد من الدول التي قدمت السلاح الى السعودية تخشى المحاسبة الأممية للجرائم التي ترتكبها السعودية في اليمن. فالقنابل العنقودية التي استخدمت كان مصدرها شركات أمريكية على سبيل المثال.
ويكفي ان نشير الى التورط الأمريكي بالقول بان صفقات الأسلحة الامريكية فقط مع السعودية اثناء ولاية الرئيس أوباما قد بلغت 110 مليارات دولار على حسب أقل التقديرات.
ولا شك ان “المجتمع الدولي” الذي أتاح ودعم العدوان السعودي على اليمن أصبح في وضع محرج مع تزايد تفاقم الأوضاع في اليمن وحجم الدمار والضحايا من المدنيين، وهو ما دعا ربما وزير الخارجية الأمريكي كيري أثناء زيارته الى السعودية بالتصريح ” ان سفك الدماء في اليمن قد طال أمده ويجب أن يتوقف”.
وهو أيضا ما دعا أيضا الولايات المتحدة بسحب العديد من الضباط والخبراء العسكريين الاميركيين من غرفة العمليات المشتركة في الرياض والتي تدير العدوان على اليمن الى جانب وقف الدعم اللوجيستي لقوات “التحالف” العاملة على الأرض عن طريق الأقمار الصناعية.
الولايات المتحدة تريد ان تلعب دور الذي قد يظهرها أنها غير مسؤولة عما يدور في اليمن وعن الاندفاع السعودي الغير مبرر لتدمير بلد بأكمله تحت أي ذريعة كانت.
الولايات المتحدة تريد ان تبرأ نفسها أمام الرأي العام العالمي من الجرائم التي ارتكبت وما زالت في اليمن، وتلصق كل المسؤولية على السعودية وحلفائها، على الرغم من أنها هي التي قامت بإمداد السعودية بالقنابل، والذخيرة والأسلحة الخفيفة والثقيلة والصواريخ شديدة الانفجار والقنابل الفسفورية والعنقودية.
كما انها شاركت ومن خلال اسطولها وسفنها الراسية قبالة السواحل اليمنية بالحصار المحكم المضروب على اليمن. والسيد كيري أتى في خضم التمدد السرطاني لكل من تنظيمي القاعدة و”داعش” في اليمن وخاصة في الجنوب اليمني بهدف السيطرة على جزء من الساحل اليمني واستخدامه لتهريب الأسلحة وربما المخدرات أيضا التي أصبحت تجارة رائدة لزيادة القدرات المالية للتنظيمين، هذا الى جانب تحويل بعض المناطق اليمنية الى امارات إسلامية والتي قد تشكل في المستقبل القربي مناطق وملاذا آمنا للإرهابيين الفارين من سوريا والعراق على أثر الضربات التي يتلقوها هناك.
ولا شك ان تواجد الإرهابيين من القاعدة وداعش في اليمن يهدد المصالح النفطية للدول الغربية وذلك لقرب اليمن من الدول الخليجية المصدرة للنفط، وذلك بالرغم من استخدام هذه المجموعات الإرهابية من قبل الرئيس السابق هادي في حربه على الجيش اليمني واللجان الشعبية.
ولكن الذي يبدو ان السحر انقلب على الساحر فالتفجيرات الإرهابية في عدن بالإضافة الى عمليات الاغتيالات لم تعد تبشر خيرا للسيد هادي وزبانيته.
كما وتأتي تحركات الإدارة الامريكية بعد الإعلان عن تشكيل المجلس السياسي الأعلى في اليمن والذي يضم أنصار الله من الحوثيين وحزب المؤتمر الشعبي وأطراف يمنية ورجال قبائل وذلك لإدارة الأوضاع داخل اليمن وتمثيل اليمن خارجيا. والتظاهرة المليونية في العاصمة صنعاء والتي ضمت أطياف ومكونات عديدة من الشعب اليمني منحت بالتأكيد الشرعية الشعبية لهذا المجلس الجديد وتفعيل مجلس النواب اليمني الذي غاب عن المشهد السياسي لفترة طويلة للان.
الإدارة الامريكية تدرك وبشكل جيد ان مع مضي الوقت سيصبح هذا المجلس وهذه التركيبة السياسية واقعا متجذرا لا يمكن تجاوزه أو تجاهله في المرحلة القادمة، وخاصة بعد فشل كل الرهانات على شق أو أي عملية التفاف على التحالف بين أنصار الله وحزب المؤتمر الشعبي.
ولا ننسى ان الانتخابات الرئاسية الاميركية أصبحت على الأبواب وإدارة أوباما بحاجة ماسة لتحقيق أي نجاح في منطقتنا لإثبات ان الحزب الديمقراطي ما زال ممسكا بزمام الأمور في منطقة ذات حيوية واستراتيجية للمصالح الأميركية.
وهذا جزء لا يتجزأ من ضمن الحملة الانتخابية للسيدة كلينتون التي تبشر بمزيد من الحروب واستخدام القوة العسكرية وهذا ما يريد المجمع الصناعي العسكري سماعه لتطرب اذنه على مزيد من المليارات من صفقات الأسلحة القادمة.
لكل هذه الأسباب الرئيسية تسعى الولايات المتحدة للضغط على السعودية نوعا ما وذلك في محاولة لإيجاد الحلول الأمنية والسياسية في اليمن أو هكذا يبدو وخاصة بعد الفشل الذريع للسعودية وسياستها الاجرامية بحق الشعب اليمني كما هي في المنطقة ككل. ولكن الطرح او ما سمي “بمبادرة كيري” على الأقل بما قد رشح عن بعض بنودها للان لا يرتقي الى أن يكون مخالفا في حقيقة الامر عن جوهر الطرح السعودي الذي ما زال مصرا على تبني الخيار العسكري في اليمن كطريق اوحد والضغط على الطرف المقابل لتقديم كافة التنازلات التي تمس السيادة اليمنية وحق الشعب اليمني وحده بتقرير النظام السياسي الذي يبتغيه دون التدخلات الإقليمية أو الدولية.
فالمبادرة تدعو الى تأليف حكومة وحدة تضم ممثلين من أنصار الله وحزب المؤتمر الشعبي وجماعة الرئيس هادي على ان يكون هادي رئيسا للحكومة مع سحب جزء من صلاحياته التي كان يتمتع بها سابقا. وهذا ما لم يقبل به الطرف الاخر الذي ومنذ بداية المفاوضات يصر على تنحية الرئيس هادي والتوافق على رئيسا آخر. ومن الواضح ان إبقاء الرئيس هادي وضع لإرضاء الطرف السعودي.
هذا بالطبع الإطار العام أما التفاصيل فلا أحد يعمل بها للان. الكل مجمع على ضرورة تكوين حكومة وحدة وشراكة وطنية وهو ما اتفق عليه بين المكونات اليمنية قبل العدوان الذي شنته السعودية في شهر آذار 2015 وهو لم يرضي السعودية التي قامت بالعدوان في محاولة الهيمنة على القرار السيادي اليمني. وتنص المبادرة على انسحاب الجيش اليمني واللجان الشعبية من صنعاء وبقية المدن وتسليم الأسلحة الثقيلة بما فيها الصواريخ الى طرف ثالث والاغلب أن يكون الطرف الثالث هي سلطنة عمان على ما يبدو.
“الانسحاب” من صنعاء وبقية المدن وكأن الجيش اليمني واللجان الشعبية غزاة قادمين من كوكب آخر أو دولة أخر وليسوا بيمنيين وأصحاب الأرض التي يدافعون عنها ويصدون حجافل الغزاة من سعوديون واماراتيون ومرتزقة جمعوا من هنا وهناك بالإضافة الى محاربة التنظيمات الإرهابية.
كان الأولى بالسيد كيري ان يطالب الجيش الاماراتي والسعودي والجنود السودانيون وغيرهم من الانسحاب لان اليمن ليست بأراضيهم واليمن لم يعتدي على أي من هذه الدول أكانت المجاورة أم الغير مجاورة. الجيش اليمني واللجان الشعبية بدأت بالدخول الى العمق السعودي واستخدام الصواريخ الباليستية بعد فترة طويلة وبعدما رفضت السعودية أن توقف عملة القصف الجوي ووقف عمليات التدمير الممنهجة للبشر والحجر داخل اليمن. ماذا تريدون من الشعب اليمني أن لا يدافع عن أراضيه وهي تستباح من حجافل الغزاة من العربان والمرتزقة؟ الشعب اليمني شعب لا يقبل الضيم والظلم والعبودية ويمتلك من الكرامة والاباء والشهامة والتضحية الكثير الكثير هذه الخصائص التي يفتقدها برابرة ووحوش العصر ومصنعي “داعش” واخواتها.
أما بالنسبة الى تسليم الأسلحة الثقيلة وبما فيها الصواريخ الى طرف ثالث، نقول أولا أن هذه الأسلحة ملكا للجيش اليمني والشعب اليمني وهي جزء لا يتجزأ من السيادة اليمنية وثانيا الذي يطلب منه تسليم السلاح بالحروب هو الطرف المهزوم وليس الطرف الذي كان وما زال يقاتل ويضحي ويحقق الانتصارات في الميدان وهو بالتأكيد ليس طرفا مهزوما أو مستسلما. وفي نفس السياق تتحدث المبادرة على أن الحكومة القادمة يجب ان تتعهد بحظر الأسلحة التي من الممكن ان تشكل خطرا على الدول المجاورة.
ولم يخفي الناطق الرسمي للخارجية الامريكية في دبي بأن الصواريخ الباليستية تمثل تهديدا غير مقبول للسعودية وعلى أن الولايات المتحدة تقف جنبا الى جنب مع السعودية.
ما يراد لليمن أن تكون دولة ربما منزوعة السلاح بالمفهوم الأميركي والسعودي حتى تتمكن أي من الدول المجاورة ان تعتدي عليها دون أن يكون لها القدرة على الرد أو صد العدوان.
المراد لليمن أن تكون دولة فاقدة السيادة ولا تستطيع الدفاع عن أراضيها وشعبها وأن تكون مطية –لا سمح الله- لآل سعود وزبانيتهم من شيوخ العشائر والقبائل وأولياء الأمور الخليجيين الذين تكرشوا حتى الرقبة بينما يتضور الأطفال والرضع اليمنيين من الجوع.
السيد كيري لم يأتي الى السعودية هرع الى السعودية عندما رأى أن العدوان السعودي على اليمن افتضح أمره من حيث انه لا يمت بصلة “عودة الشرعية” وانه طال وتجاوز الهامش الزمني الذي أتيح له لتحقيق الأهداف الدفينة له بالإضافة الى الأصوات الأممية والاقليمية التي بدأت تعلو بسبب حجم الدمار وأعداد القتلى والشهداء الذي تسببه هذا العدوان الغاشم نتيجة استخدام القوة المفرطة والأسلحة المحرمة دوليا. ولكن الأهم من كل هذا فان كيري جاء ببساطة لان الحرب داخل اليمن بين السعودية ومن لف لفها بدأت تهدد المصالح الامريكية الاستراتيجية في المنطقة وخاصة الهيمنة على مصادر الطاقة والقواعد الأميركية في منطقة الخليج العربي.
المنار المقدسية