ملحمة الحب والعطش : لسناء شعلان
يسكن الظمأ مجموعة “قافلة العطش”? ويتلبس العبارة والكلمة? ويصوغ المعنى وفق منطقه? منطق التشوف والتطلع إلى الآتي? أكان حلما واعدا? أو موضوع بحث مضن. إنه بالأحرى لا يبني المعنى ولكن يرسم ظلالا وإيحاءات? مستحثا القارئ أن يمارس لعبة تركيب الدلالة. ويكاد قارئ المجموعة? وقد استشعر حرقة الظمأ -سيد الفضاء- أن يلمس شفتيه? ويمرر لسانه عليهما? التماسا لقطرة ماء? بحثا عن الدلالة المتمنعة? المترائية بين سطور القصص? عطشا لا يرتوي? معنى لا يكتمل.. وقد جف الحلق? وانطلقت آلة التأويل عطشى تتحرق ظمأ للدلالة المستسرة في الظلال والإيحاءات والرموز. تقول المجموعة خيرني بين الماء والعطش? أختار الظمأ…خيرني بين المعنى الجاهز وعناء البحث عنه وبنائه? أنحاز لمتعة التماسه كلمة فكلمة? صورة فصورة. سئل باسكال الأديب الفرنسي صاحب “التأملات” أيهما يختار? الصيد أم الطريدة? فاختار القنص. ينفتح القنص على إمكانات الطرائد? كما يحيل العطش على قافلة من الدلالات غير المكتملة في المجموعة? وعلى القارئ أن يبني المعنى? التماسا لقطرة ماء? سعيا وراء نأمة دلالة.
يغدو العطش إذن استعارة كبرى ونواة دلالية ترتد إليها نصوص المجموعة? كما أنه يولد مرادفاته السياقية? متجاوزا معناه اللغوي الضيق? ليغتني في المستوى الرمزي? مكتسبا أبعادا وجودية ونفسية وفكرية عديدة. ويبدو أن أول قصة في المجموعة? تلك التي منحتها اسمها “قافلة العطش”? تنطوي على أبرز العناصر والمكونات المتفرقة في القصص الأخرى. يستوقفنا فيها أولا هذه الرحلة العجيبة نحو استرداد نساء مسبيات. وبلغة شعرية شفيفة? يجعلنا السارد -أو بالأحرى الساردة? كيف نتخلص من لغة الذكورة?- نعيش مع القبيلة “التي أضنتها المهمة واستفزها العطش” مخاوفها وغضبها وسعيها إلى تخليص أسيراتها. غير أن الحب له منطق آخر? إنه منطق التمرد على الارتباطات الدموية والقبلية? والتعالي على الوشائج البيولوجية العرقية لمعانقة قيم أخرى. فالأسيرة ترفض الرجوع إلى أهلها? وتفضل العيش مع حبيبها الأسمر الذي “أرادها منذ أن رآها? كان عليه أن يفتض جمال الواحات? وأن يدرك أرض السراب قبل أن يفترشها? ولذلك أحبها? أحبها خيلا برية لا تدرك..” (ص. 10). لنلاحظ امتدادات العطش بالدلالات السابقة التي أشرنا إليها في عبارة “الخيل التي لا تدرك”? نحن دائما مع القنص لا الطريدة? مع معاناة البحث والسعي? لا الامتلاك والانتهاء في المملوك. علاوة على ما ترسمه هذه الصورة من علاقة إيروسية شبقية تشف عنها الكلمات? هي لغة القبول والصد? التباعد والتقارب? قبل الالتحام المؤجل إلى ما لا نهاية? إذ دونه العطش الذي يغدو هنا رديفا لرفض الماء والارتواء وإن أتيح…العطش امتداد نحو الممكن الذي لا يتحقق إلا ليصبح عطشا آخر…من الطبيعي إذن أن يستبد العطش بمتن النص في شكل عبارات ناضحة شعرا وظمأ: “ما أجمل الظمأ في بحرية العشق”(ص. 12)? لتكون النهاية نشيدا منتصرا للعطش: “كان مسموحا للقوافل أن تعطش وتعطش? ولها أن تموت إن أرادت? لكن الويل لمن يرتوي في س?ف?ر العطش الأكبر.” (ص. 14).
ينتصر الحب على القبيلة? وتفضل الأسيرة سجانها على أهلها? لتأتي ببدعة “ما سمعت بها العرب من قبل? كيف تقبل حرة أن تكون في ظل آسرها?”. إنه سؤال لن تتردد المسبية في الإجابة عليه: “أنا عطشى” (ص. 13). وينتصر الحب أيضا على رجال يخافون العطش الذي يهدد ارتباطاتهم ورؤاهم الضيقة: “عند أول واحة سرابية ذبح الرجال الكثير من نسائهم? اللواتي رأوا في عيونهن واحات عطشى? وعندما وصلوا إلى مضاربهم? وأدوا طفلاتهم الصغيرات? خوفا من أن يضعفن يوما أمام عطشهن” (ص. 13). تتلفع الحكاية هنا برداء الرمز? ومن الرمز ينشأ تفسير آخر للتاريخ الرسمي الذي كتبه الرجل: “العطش إلى الحب أورث الصحراء طقسا قاسيا من طقوسها الدامية? أورثها طقس وأد البنات? البعض قال إنهم يئدون بناتهم خوفا من العار? البعض الآخر قال إنهم يفعلون ذلك خوفا من الفقر? لكن الرمال كانت تعرف أنها مجبرة على ابتلاع ضحاياها الناعمة خوفا من أن ترتوي يوما” (ص. 13). وكما ينتصر العطش على القبيلة? يطوح أيضا بمؤسسة الزواج غير القائم على الحب? سيد الفضاء القصصي إلى جانب العطش? ورديفه في المجموعة. ففي قصة “النافذة العاشقة”? نجد أن الشخصية الرئيسة تحس بالترهل وانطفاء الأحلام “وبالتحديد منذ أن تزوجت رجلا لا يعرف من طقوس الرجولة إلا لحظات الفراش? التي تمر مثل التقاء غريبين في مرفأ عتيق? ثم سريعا يلوحان لبعضهما بالوداع دون أدنى مشاعر” (ص. 15). وعندما تريد التعريف بنفسها تقول إنها “متزوجة وأم لثلاثة أطفال وأسيرة لشيء اسمه زوج” (ص. 17). إلى أن تكتشف نافذتها العاشقة المطلة على الشاب ابن الجيران الذي يوقظ في نفسها العطش إلى الحياة. النافذة العاشقة هي إذن نافذة العطش? تسترد من خلالها المرأة إحساسها بذاتها? وبرونق عينيها وبنداوة بشرته? إنها نافذة “مدام بوفاري” في رواية غوستاف فلوبير الشهيرة? النافذة التي تستشرف من خلالها الحياة الموع