صفحة من مذكرات الطفولة “ابو الوفا”
كان اسمه ابو الوفا? واسم خطيبته التي حدثني عنها والتي كانت تعيش معه في شقته في لبنان ماجدة?لم يخاطبني ابدا كطفلة ? فقد سماني منذ اليوم الأول الذي حل به ضيفا على بيت خالي الآنسة ماجدة?وقد أشعرني هذا بشكل خفي وغير مكشوف حتى بالنسبة لي انني انثى.
ربما كان حبي الأول?لازلت اذكر وجهه الأسمر وجسده المشدود الممشوق?مثلما اذكر الحفرة المستطيلة العميقة في فخذه?حين كشف عنها امام جدتي وقص عليها كيف اجبره الإسرائيليون أن يأكل لحم فخذه نيئا?كان يرتدي زي السبعينيات الذي يكشف عن ذكورة صارخة?قميص ملتصق بشدة بظهره مفتوحا من الإمام ليظهر صدره المكسو بالشعر الكثيف تتدلى بين غابات الشعر المثيرة قلادة ذهبية منحوتة على شكل خارطة لبنان ?ومما زاد في تعلقي به تلك الخصل السوداء الكثيفة التي استرسلت حتى كتفيه ? في زمن كانوا يدعونها الخنافس ?وبنطاله الضيق الذي يتسع أسفل الركبة كثيرا (جارلس).
لا اعرف حتى هذه اللحظة كيف تجرأت ان اسمح لكل هذه المشاعر ان تعتمل في صدري ?ولم أكن سوى طفلة بعد لم أتجاوز العاشرة من عمري ?او كيف سمح خيال طفلة ان يقحم نفسه في عالم الكبار النائي ويسمي هذا حبا ?كنت ارتعد حين أراه ? واشعر أنني السندريلا الثانية في الكون عندما يحدثني بجدية عن الأوضاع في لبنان وكتاب رأس المال لماركس والمادية الديالكتيكية?بعد ان اخبره خالي انني قارئة نهمة وانه يعول علي وعلى أمثالي إن نحمل الرايات اذا غيبهم الموت.
كان موفدا من الحزب الشيوعي اللبناني عاد مع خالي الذي أوفد ايضا من قبل الحزب الشيوعي العراقي إلى لبنان ?كان هناك الكثير من الحديث عن السياسة أمام طاولة الويسكي وما يصاحبها من وجبات خفيفة? وكان ايضا الكثير من الحديث عن الحب والمرأة وحقوقها وخطيبته السعيدة الحظ كما كنت أراها ماجدة? لم يحددوا موعدا للزواج ولكنهم كانوا على يقين أن هنالك موعدا مع الموت في كل لحظة.
الموت هذه النهاية التي تبدو ألان مهولة وبائسة ?لم تكن كذلك حين يتحدث ابو الوفا عن القضية والتفاني في سبيلها والنضال مهما كلف الأمر للوصول إلى مرفأ آمن ما كان يبدو له قريبا.
عندما سافر لم أجد الجرأة لأسأل خالي عنه? لكني كنت أتسلل خلسة إلى غرفته حين يكون غائبا لأقبل صورة ابو الوفا الموضوعة في الدرج مع كثير من الصور الأخرى.
حتى هذه اللحظة وبعد مرور أكثر من خمس وثلاثين عاما يرتجف قلبي منتشيا ? اعلم انه قد استشهد في إحدى المعارك مثلما غيب خالي واذيب بعد أن مات في زنزانة التعذيب بماء الذهب ?كأنهم يخشون قيامته كالمسيح ? لكنني لازلت ارى ابو الوفا العشق الذي لم ولن يتكرر?العشق الذي يأخذ في القلب حيزه الأخضر?وما اظنني أجد في القلب أكثر من حيز مزهو بخضرته صيفا وشتاءا مثل الذي اقام فيه ابو الوفا ليذكرني ببهجة الأيام الحالمة?ايام العالم البيضاء التي زخرت بانتصار الشعوب على الطغاة.
لقد أبهجتني دوما يابو الوفا ? لم ارضخ يوما ?ولم أساوم على قلبي?لم انس أبدا أنني آنستك منذ تلك الأيام التي حللت فيها ضيفا على بيت خالي ?وسأكون كذلك ..وان لم أكن اشد وفاء منك لنفسك ولمبادئك وللوطن
صدق من سماك ابو الوفا!