في مديح ذلك الصبي المجنون
قبل أربع سنوات? التقيت القاص والروائي مصطفى لغتيري بمدينة أزمور? وحدثني عن مشروع رواية جديدة? ولأنني كنت قادم?ٍا من مدينة الجديدة? وهو من البيضاء? وجدتني متشوقا لقراءة تلك الرواية/ الرحلة? القادم بطلها من مدينة الدار البيضاء في اتجاه أزمور? الجديدة? ثم سيدي بوزيد? وهذه الأمكنة الدكالية ستحضر – في ما بعد- في روايتي البكر “كائنات من غبار”? والتي أدين بالفضل في كتابتها للصديق مصطفى? فهو من حرضني على اقتراف خطيئة هذا السرد الفتان اللايقاوم.
لم يتحدث مصطفى في ذلك اللقاء البعيد عن أية تفاصيل. تساءلت بيني وبين نفسي : “ترى هل سيأتي بطل الرواية إلى دكالة هربا من قيظ غابة الإسمنت والحديد? كما يفعل أغلب البيضاويين?”. اكتفى بالحديث? وبنبرة متهكمة عن كسوته لبطله قبل مجيئه? وغرق في ضحك طفولي? كصبي ممتلئ بحب الحياة وحب السرد. وللأسف? هذا الطفل لا أفلح في سرقة ضحكاته في مراسلاتنا? فهو مقل في ردوده.. متحفظ إلى أبعد الحدود? ويخيل إلي? أحيانا? أنه شخص آخر? غير الذي أقابله هنا أو هناك. حتى في مكالماتنا الهاتفية المتباعدة زمنيا? أفشل في إخراج ذلك الصبي القابع في داخلنا من شرنقته.
ثمة صداقة غريبة تجمعني بهذا الرجل النبيل في زمن الأعدقاء الأنذال والمنافقين? ولا دخل لصداقتنا التي بدأت افتراضيا? كأغلب الصداقات التي تنشأ بين الكت?اب.. بهذا الحرص الرائع على الكتابة المتبادلة عن إصداراتنا. فهناك خيط رفيع بين الحب الشخصي والإعجاب الأدبي لا يمكننا إغفاله? والدليل أنني لم أكتب عن بعض مجاميعه القصصية? بسبب الانشغالات وقتها? وهو لم يكتب عن مجموعتي القصصية “روتانا سينما… وهلوسات أخرى”? والتي اكتشفت متأخرا أنني تسرعت في نشرها.. لذا لم يكتب عنها سوى الصديق محمد فاهي? وقد غاليت في الانتقام منها ومن نفسي بعدم توزيعها? وكأنها لم تصدر. إذا?ٍ? لا مجال للمجاملة بيننا? كما يفعل كت?اب? لا يفترقون سوى ليلا.. في حين لا ألتقي لغتيري سوى مرة واحدة في السنة. لهذا أطلق العنان لذلك الصبي المشاكس? الذي يستوطنني? فيمعن في شغبه وجنونه.
هكذا حرص ذلك الصبي المتشيطن أن يفسد حفل توقيع روايته الجديدة “رقصة العنكبوت”? بتفجير ديناميت الضحك? الذي يختزنه في غياباتنا.
فور عودتي? زرت مدونة صديقي مصطفى لغتيري? وهنأته على نجاح احتفالنا بتوقيع هذه الرقصة العنكبوتية? والتي حرصت على أخذ نسخة منها أمس? وأنهيت قراءتها قبل أن أقابله في جناح دار النايا? ناشرة الرواية. كتبت له في رسالة إلكترونية أنني حزين? لأنني عدت إلى صمتي وعزلتي. لأول مرة? ينتابني هذا الحزن? لأنني سأفتقد محبة كل هؤلاء الأصدقاء والصديقات… الذين طوقوني بمحبتهم? سأفتقد البتول المحجوب? التي ما تزال تراني الأخ الأصغر المدلل والمشاغب… سأفتقد محمد بلمو? المصطفى كيليتي? حميد ركاطة? محمد تنفو? سعيد بوعيطة? محمد يوب? نور الدين محقق? محمد اشويكة الذي لم ألتقه هذه السنة? وأفتقد حسن برطال? الذي ذكرني – اليوم- بتلك المرأة? التي أحرجتني بالتصاقها بي في سيارة الأجرة? ويمازحني بأنني من تحرش بها? بينما هي من كان يفترض عند نزول الركاب المجاورين لها أن تبتعد عني? أنا الملاصق للباب.. أفتقد إبراهيم الحجري? والإعلامية المتألقة أسمهان عمور? وحتما? سأفتقد سامي أحمد بلهجته السورية المحببة? والأردني جهاد أبو حشيش? وتلك التي بهرتني بجمالها? وتركتني “ملتاعا مثل خسارة نهائية” بتعبير حسن مطلك? وحتى الأشخاص? الذين تنتابك كراهية عارمة عند رؤيتهم? كذلك الناشر الذي تشعر بالتقزز عند المرور من أمام جناحه… ستفتقدهم !
الأصدقاء يمكن أن تتواصل معهم إلكترونيا? لكن الإميلات اللعينة ستتخندق مرة أخرى في برودها المقيت? الخالي من كوليسترول المشاعر الحميمية. كل هؤلاء يمكن أن يحتمل غيابهم? بيد أن خسارتي الفادحة هي “باصطوف”. في كل مرة أخترع “مقلبا”.. ذات زيارة? وهو في المنصة? كنت أفاجئه كل مرة? بأن أركب رقم هاتفه? وحين فطن للعبة? صرت أخفي رقمي وأتصل به.. ولأن المناسبة – اليوم- كانت حفل توقيع? لجأت إلى علبة المناديل الورقية? وفي كل مرة أغافله? وأمد يدي بالورقة المدعوكة جيدا طالبا منه… التوقيع? لا? كنت أطلب منه أن يفعل مثل الدجالين? و”يكتب لي حجاب القبول”. وكنت أنتبه إلى أن البائعة كانت ترمقني بنظرات عدائية? بينما يداري ناشر الرواية ابتساماته? وكم كان حجاب لغتيري فعالا !. ففي كل مرة? كنت أجدني مطوقا بمحبة أصدقاء وصديقات? وفجأة? وجدتني أركب رقم إبراهيم الحجري? لكي أخبره ضاحكا بأن فقيها مر من أمامي? ويحمل عمامة في كيسه البلاستيكي.. بعدما فوجئت – اليوم – بحسه النقدي الساخر عندما لمحنا بدوا? مبهورين.. تدل ملامحهم على أنهم فقهاء كتاتيب قرآنية بالبوادي? يبحثون عن تلك الأجنحة? التي يرتادها رجال ملتحون رفقة زوجاتهم المنقبات. سرقت ابتساماتي دهشة البدوي الذي تخلف عن صديقيه? وهو مبهور بما يرى.. غارق في تلك الدهشة الطازجة… والمفقتد