ليلة باردة في حانة نرويجية
الساعة الآن الثانية عشرة ليلا?ٍ بتوقيت الع?َلب الليلية في العاصمة النرويجية أوسلو?! مئات المرتادين شبانا وفتيات غير آبهين بغطرسة البرد الذي يخيم على المدينة طوال الشتاء? يتسمرون منذ ليلة السبت أمام الحانة ليتسنى لهم الدخول لقضاء ليلة سهر بعد ثقل خمسة ايام عمل من ع?ْمر الاسبوع? الليل هنا صاخب ومليئ بالمفاجآت وذو رائحة أخرى. تنفصل الحانة الى طابقين: الاول مجهز بكراس عالية تقطعها طاولة من خشب الصنوبر يعلوها برواز خشبي مفصل على هيئة خانات مزين بعشرات انواع الكحول? ويقطع وسط الطاولة صنبورة متصلة ببرميل يرقد أسفل الطاولة الخشبية يتفجر بالخمر المثلج. ولصليل النقود التي تسربل تباعا الى فتحة صغيرة لطاولة” البيليارد” وقع اخر? حيث يلتف شخصان على الاقل حول الطاولة يتناوبون بعصيهم المدببة الراس على ركل خمس عشرة كرة صغيرة الحجم وسط العيون التي ترمقهم في انتظار حسم اللعبة لأحدهم تحت ضجيج صاخب للمكان يبعدك عن المالوف. يقف على باب مدخل الطابق الثاني فتاة شقراء ورجلا أمن لجباية ثمن تذكرة الدخول من المرتادين لممارسة هواية الرقص? ولا احد هنا يضع حدا لصلافة الاضواء الملونة التي تعربد تباعا على الأجساد الراقصة? فيما تضج الموسيقى الغربية صاخبة? والكل هنا خارج التغطية !!
تتربع مدينة “بوشجرون” جنوب العاصمة اوسلو على ثماني حانات لأربعين ألف مواطن? يقع معظمها وسط المدينة فيما تقع الأخرى في شمالها. معظمها مخصص لفئة عمرية محددة ويترفع كبار السن عن الدخول اليها ويآثرون البقاء في الحانات التي تتناسب وعمرهم? يشربون النبيذ ويتبادلون الحديث وفي الغالب يسيطر صوت موسيقى نرويجة هادئة متعارف عليها على أحاديثهم.
تبادلت الحديث مع امرأة اسمها ” بنتا” في العقد الخامس من عمرها تعمل متطوعة اجتماعية في احدى مؤسسات المدينة ودأبت على تقبيلي وديا وسط دموعها عندما بدات احدثها عن نفسي وعن فلسطين والواقع المعاش هناك. كانت دموع” بنتا” تعبر عن وحشة الاغتراب الداخلي الذي يعيشه الانسان الغربي? فهي مناوبة على الهروب من وحدتها في عطلة الاسبوع للالتقاء باصدقائها لانها اضحت وحيدة? أسوة بغيرها من الامهات في هذا المجتمع الذي يترك فيه الابناء والديهم لينطلقوا بحياة اخرى? وبصحبة قطها الاسود الناعم الذي لا يفارقها البتة? بعد ان فارقها الأبناء? وتفجرت دموعها على غربتي بحثا عن مكان آمن للنفس .
تطل حانة اخرى لها نفس طقوس الاولى بقلق على النهر الذي يقطع المدينة الى شطرين وعلى وقع موسيقى الحانة يسافر النوم من عيون طيور البط التي تعيش على جنبات النهر و تبقى “فوبيا الموسيقى” تطارد نومها حتى ت?ْقفر الحانات من المرتادين في الساعة الثالثة صباحا?ٍ فتطفأ الانوار ويقطع صوت الموسيقى ويبدأ النادلون بأعمال النظافة .
ووسط صراخ وهلوسات الثمالى تتسلل موسيقى” الاكورديون” يعزفها شاب غجري روماني? بصحبة فتاتين على الاقل يترددون اسبوعيا الى بوابة الحانة? يحملن قبعات مصنوعة من القش يساومن الساهرين لشرائها او وضع ما تجود به انفسهم من نقود فيها? وهم الذين انفقوا مئات الكرونات “العملة النرويجة” طوال الليل? فالغجر ك?َثر هنا جاءوا الى بلاد الثلج يبحثون عن رزقهم ويقطنون اكواخا في الشتاء وفي الصيف يفترشون الارض.
في الجانب الاخر من الحانة يقطن مطعم صغير يملكه مواطن باكستاني يعد فيه شطائر الكباب وينهمك العاملون فيه باعداد الوجبات السريعة ومقبلاتها ق?ْبيل ان تفتح الحانات أبوابها وقد اخذوا احتياطاتهم حتى لا يفقدوا ارباح يوم عمل مميز ينتظرونه طيلة الاسبوع.
ومع ساعات الفجر الاولى يكون الليل قد سلم عهدته لنهار جديد مطلقا نار السكون على شوارع المدينة بعد ليلة صاخبة يحفر ظلمتها تراتيل الجسد المنهك على أرصفة الطريق او إلى جانب النهر الذي ياخذ حيزا كبيرا من المدينة. عدت?ْ لبيتي وحيدا? وليس ثمة ما يعنيني ان ف?ِر?ِ ليل او هرع الي نهار جديد? فالأمر سيان? ذلك أن الغرباء نهارهم وليلهم واحد طالما الوطن بعيد هناك يلمع كنجمة حالمة تبرق بصمت في سماء النرويج الملبدة بالثلوج.
صحفي فلسطيني يعيش في اوسلو