أن تكون رقما صعبا
كثيرون هم الداخلون إلى الحياة أو الراحلون عنها وكثيرون هم أولئك الذين يعيشون : يأكلون ويشربون ويتناكحون ويتمتعون وكل همهم تحصيل اكبر قدر من مبتغاهم في الدنيا , فــمنهم من يعيش ليملأ معدته بما لذ وطاب من الطعام والشراب ينفق في سبيل ذلك ماله ووقته جلوسا على موائد الطعام لا يدع مأدبة إلا وكان أول الحاضرين عليها , لا تفوته دعوة أو وليمة إلا وهو السباق المواظب المجتهد إليها .
ومن الناس من يعيش ليجمع الأموال وينفق عمره وأيامه ولياليه ساهرا كادا في جمعه وهو يبخل على نفسه وعلى زوجه و أولاده وأحبائه به , لان جمع المال عنده أصبح غاية وهدفا لا وسيله لتسهيل حياته ولزيادة رفاهيتها , فإذا به قد تحول مع مرور الزمن إلى عبد همه أرضاء شهوة المال عنده وقد غطف اللون الأصفر نظرة فما عاد يحب من الألوان سواه ولا يطيب له النظر وتكحيل العيون إلا برؤيا .
ومن الناس من يمضي عمره على مقاعد الدراسة فإذا تخرج طبيبا أو محاميا أو مهندسا أو إذا ما حصل على أي لقب جامعي انصرف إلى الحياة يمارس مهنته وكأن شيئا لم يكن وكأنه قد أنهى مهمته وتوقفت عند هذا الحد حياته شانه في ذلك شان أي صاحب مهنة مع فارق اللقب والتسمية والثوب , فإذا ما نظرنا إليهم في ارض الواقع نرى أن هذا الطبيب لا يقرأ جريدة أو يستمع إلى نشرة أخبار ولا يهمه من أمر الناس من حوله شيئا وكان هذا المجتمع الذي يعيش فيه لا يعنيه من قريب أو بعيد شانه في ذلك شان رجل أمي لم يتعلم القراءة ولا الكتابة فانصرف للعمل وبالممارسة تعلم مهنته , يعود آخر النهار منهمك القوى إلى بيته لكي يستريح ويتنظف ويأكل ويتمتع بحياته ولا يهمه من أمر الناس ومن حوله شيئا .
أواه ما أعجبه من زمن حين يتساوى صاحب اللقب الجامعي والأمي في السلوك والتفكير .
ولو رحنا نعدد أشكال الناس وأنواعهم لطال بنا المقال واقصد بالناس أولئك الذين يعيشون على رصيف الحياة يموتون كما ولدوا , دخلوا من باب وخرجوا من آخر دون أن تكون لهم بصمة على جدار الزمان وفي وجدان الحضارة والبشرية اثر يذكر ليخلد ذكرهم .
إن هذه الأصناف من الناس هي مجرد أسماء وأرقام بطاقات شخصية تسجل في وزارة الداخلية بما تقتضيه قوانين وضرورات الدولة الحديث , إلا أن الحقيقة المرة الأليمة تقول “: كم من رجل يعد بأمة
وكم من الآلاف تمر بلا عداد
و كثيرون هم الذين يعيشون بلا قضية ولا هدف, كثيرون هم اؤلئك الذين يأكلون ويشربون ويتكاثرون ويتمتعون حتى إذا جاء اجلهم تبخروا كما الماء لأنهم في واقع الأمر مجرد أسماء أو أرقام طويت في أرشيف الداخلية عندما صدرت شهادة الوفاة. أما أصحاب الأرقام الصعبة فأنهم ولدوا من رحم الإنسانية قبل أن تلدهم أمهاتهم لأنهم ولدوا لكي يحملوا معهم أوطانهم وقضاياهم وهموم الإنسان وكرامته فاتعبوا واتعبوا , أرهقوا وارهقوا .
أولئك الذين وقفوا كالمسمار في وجه الظلام كالجبال الشم الراسيات في وجه الأعاصير والزوابع لا يشكمهم زمجرة العواصف ولا يخيفهم بريق الرعود وهم في ذلك سعداء رغم غلاء الأثمان وعظم التضحيات التي يقدمونها في سبيل تحقيق أمانيهم وأحلامهم التي لم تكن يوما تعرف مصلحة خاصة بهم وإنما على النقيض كانت تعود عليهم بالفداء والتضحية والمعاناة .
وهل البشرية تحيي إلا بنفس هؤلاء الأبطال الذين صنعوا التاريخ وخلدوا كرامة الإنسان وميزوه عن الحيوان الذي يعيش لنفسه وبغرائزه وكل همه تحصيل الطعام والشراب والتكاثر حسب مواعيد التزاوج ….
إنهم أولئك الذين صنعوا الفجر الإنساني ليعيش الإنسان حرا كريما رغم كيد الجاحدين ورغم طواغيت الأرض وجبروت النخاسة وضعف العبيد واستهانتهم ورغم العفن الذي ازكم الأنوف , إذ ليس من السهل أن تكون رقما صعبا لا تكسر ولا اسما ممنوعا من الصرف في أسواق بيع الزمم وفي زمن المادة التي طغت على كل شيء فأصبحت القيمة الأولى والمرجع الأول والأخير للحكم على الأشياء ,حتى غدا الأحرار والشرفاء و أصحاب الإصلاح ودعاة الخير ومصابيح الهدى غرباء في أهلهم وعن بلادهم رغم أنهم يقيمون فيها .
ولكن النجاة والحياة والتخليد والمجد لهؤلاء العظماء الذين سجلوا تاريخهم وخلدوا قضيتهم بصدق توجههم وتمسكهم بعقيدتهم فلم تستهوهم الإغراءات ولم تخدعهم الأنوار والأضواء وجميع أنواع الإطراءات والثناء ولا الترف والعيش الرغيد مقابل التنازل عن هويتهم أو انتمائهم ولم تنثني لهم قناة أو ينحرفوا عن جادة الصواب قيد أنملة فكان الحق والأمر الملزم على الدنيا وعلى البشرية أن تخلدا أسماءهم وان تنحي إجلالا ووفاء لذكرهم وهم الذين كتبوا تاريخ البطولات والعز والحضارة بماء الذهب وروها بدمائهم وحياتهم ومواقفهم التي كانت مشاعل الضياء والنور والعلم والحرية والحضارة .
وليس بالضرورة لهؤلاء الرهط من القوم أن يعرفوا أو يشتهروا أو أن يشار لهم بالبنان ولكنهم أينما كانوا تركوا بصماتهم وأثارهم واضاؤوا الطريق لمن جاء بعدهم ويحضرني في هذا المشهد موقفا لرجل صلب المراس حر العقيد صاد