سميح مسعود في مركز درويش الناصراوي!
شهارة نت – آمال عوّاد رضوان
أقامَ مركز محمود درويش الثقافيّ النصراويّ، وبلديّة الناصرة ودائرةُ الثقافةِ والرياضةِ والشباب أمسيةً أدبيّةً لدكتور سميح مسعود لإشهار الجزء الثاني من كتابه “حيفا… برقة”، وسطَ حضورٍ كبير في قاعة محمود درويش/ الناصرة بتاريخ 22-1-2016، وقد رحّبَ الأديبُ مِفلح طبعوني بالحضور، ثمّ أدارَ الأمسيةَ بروفيسور محمود يزبك، وكانت مُداخلاتٌ حولَ الكتاب لكلٍّ مِن: د. جوني منصور، د. سهيل أسعد، مفلح طبعوني، رائد نصر الله وأحمد درويش، وفي نهاية اللقاء شكر المحتفى به د. سميح مسعود الحضور والمنظمين والمتحدثين، وتمّ توقيع الكتاب، ووُزّعَ على الحاضرين، وتمّ التقاطُ الصّورِ التذكاريّة.
مداخلة محمود يزبك/ قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة حيفا: د. سميح مسعود شاعرٌ وكاتبٌ وباحثٌ أكاديميٌّ، هُجّرتْ عائلتُهُ مِن حيفا، وعاشَ في برقة التي تنحدرُ منها عائلتُهُ. درسَ في سراييفو وبلغراد، وحصلَ على الدكتوراه في الاقتصاد. عملَ مستشارًا اقتصاديًّا في مؤسّساتٍ إقليميّةٍ عربيّةٍ، ويعملُ حاليًّا مديرًا للمركز الكنديّ لدراساتِ الشرق الأوسط. صدرتْ له مجموعة من الأبحاثِ الاقتصاديّةِ، والعديدُ مِن الدّراساتِ الأدبيّةِ والتراثيّة، وكتابُ “حيفا.. برقة” هو كتابُ بحثٍ عن الجذور وذاكرةِ المكان، يأتي بعدَ مرورِ حوالي سبعة عقودٍ على التهجير القسْريِّ المُبَرْمَج، الذي قامتْ بهِ القوّات الصهيونيّة. وعلى الرّغم مِن قسوةِ التهجيرِ واللّجوءِ والمُخطّطِ الذي سعى أصحابُه لتطهيرِ فلسطينَ عِرقيّا مِن سكّانها الأصلانيّين، أرادَ د. سميح أن يكونَ الاحتفالُ بذاكرةِ المكانِ في الناصرةِ بالذات، وفي قاعة مركز محمود درويش، لِما فيها مِن دلالاتٍ نستبشرُ بها المستقبلَ، ولا نبكي فقط على ما أضعناهُ وخسرناهُ أثناءَ نكبتِنا، فمدينةُ البشارةِ مدينةُ التلاحمِ الفلسطينيّ تُمثّلُ مَعلمًا حضاريًّا، يلتقي بهِ صليبُ الشّرقِ معَ هلالِهِ في شموخٍ وإباءٍ، ناظرًا لماضٍ عريقٍ ليَستشفَّ منهُ أملًا لِمستقبلٍ قريب.
وعلى الرّغم مِن سياساتِ التّدميرِ التي انتهَجتْها المُؤسّسةُ الإسرائيليّةُ، لتدميرِ ومحوِ مَعالمِ الحضارةِ العربيّةِ لفلسطين خلالَ خمسيناتِ القرن العشرين وعَبرَنةِ المكانِ والتاريخ، لتختلقَ أساطيرَ هزيلة، تُؤكّدُ الأجيالُ العربيّة الشابّة على هُويّتِها الفلسطسنيّةِ المُتجذرةِ في عُمقِ التاريخ، وباطنِ الأرضِ وظهرِها، وتقولُ لكلّ المُعتَدينَ على حقوقِنا: نحن هنا باقونَ ما دامَ في الوادي حجارة. البحثُ عن الجذورِ وذاكرةِ المكانِ تحكي قصّة عائلةِ سميح، والّذي هُجّرَ مِن بيتِهِ في حيفا في شارع الناصرة حين كانَ طفلًا، وانتقلَ معَ والدِهِ وباقي أفرادِ أسرتِهِ لمنبتِهم في قريةِ بُرقة، وخلالَ سعي سميح في رحلةِ البحثِ عن جذورِهِ الّتي امتدّتْ على صفحاتِ الكتاب، الجزءِ الأوّلِ والجزءِ الثاني الذي نحنُ بصددِهِ، رسَمَ لنا حدودَ المكانِ المُكوّنِ مِن خيوطٍ مُتشابكةٍ ومُتداخلةٍ بعضُها ببعض، والتي تُشكّلُ شكلًا مِن أشكالِ هُويّتِنا الفلسطينيّةِ المُتشابكةِ المُتداخلةِ، والمُترابطةِ معَ المكانِ بروابطَ سرمديّةٍ، لا يُمكنُ لأيٍّ مِن قوى الشّرِّ أنْ تمحوها، أو حتى تخدشَ تَلاحُمَها وترابُطها، وأبناءُ بُرقة المنتشرون في الجليل والمثلث وجبال النار، يُمثلونَ صورةً مُصغرّةً لباقي الأماكن الفلسطينيّةِ التي تتشابكُ بخيوطٍ مشابهةٍ، لتلكَ التي اكتشفها وأزاحَ اللثامَ عنها سميح مسعود، وهذا التّشابكُ لهو الدّليلُ الأقوى ليقولَ لكلّ الجَهَلةِ والذينَ يدّعونَ المعرفة: نحن أبناءُ هذهِ الأرض، نتمدّدُ بكلّ أرجائِها تمضّنا وتحضّنا لأننا أبناءَها، لم نتطفلْ عليها ولم نعتدِ على حُرمتِها. بيننا وبينَ أرضِنا عقدٌ طبيعيٌّ، سَنّتهُ طبيعتنا المُشتركة، ونحن مَن يعرفُ حقَّ المعرفةِ أنّ “على هذه الأرض ما يَستحقّ الحياة”. هذا الكتابُ يُشكّلُ في واقع الأمر نموذجًا يُحتذى به، ودعوةً للكثيرين “للبحث عن جذورهِم”، كي تبقى ذاكرةُ المكانِ عَطِرةً بتللكَ الجذور.
مداخلة د. سهيل أسعد نائب رئيس بلدية حيفا: أعبّرُ عن مشاعرِ شكري وامتناني لأخي د. سميح مسعود، لأنّهُ نجحَ مِن خلالِ كتبِهِ وزيارتنا المشتركةِ لبُرقة، أن يدعمَ وتُقوّي الشّعورَ بالانتماءِ لحيفا ولبرقة في آن، ومشاركتي في الناصرةِ هي عبارة عن إغلاق دائرة، فبُرقة مسقط رأس والدي، والناصرة مسقط رأسي، وفي حيفا ترعرعتُ وكبرتُ، فانتقالُ والدي بجيلٍ مُبكّرٍ للتعلّمِ في مدرسةِ شنللّر للأيتام في القدس، كانَ السّببَ لعدم استمرارِ العيشِ في بُرقة، ولكن زلتُ أحافظُ على علاقةٍ وثيقةٍ مع عددٍ مِن أهالي برقة، وأقوم] بزيارتِهم عدّة مرّاتٍ خلالَ السنة، ولا تزالٌ مساحاتٌ مِن أراضي عائلتي هناك أقومُ بالإشراف عليها، خاصّةً في موسمِ الزيّتون. د. سميح مسعود نجحَ مِن خلال جزئيْ كتابهِ “حيفا.. برقة” في البحث عن الجذور، وفي إعادةِ علاقةِ أبناء برقةِ العائشين والمقيمين خارجها، وأعبّرُ عن تقديري الذي تُكنّهُ لنا ولأهلنا ولبقائِنا وصمودنا في الوطن، فبالرّغم مِن عدم وجودِ روابط عائليّة، فنحن نحافظ على صِلاتٍ اجتماعيّةٍ، ونحافظ على زيتونِنا بمساعدةٍ مِن أهل بُرقة ولن نفرط به، فبرقة مُتعدّدةُ الأديان، لكنّها تُشكّلُ عائلةً واحدةً، والعلاقةُ بينَ سكّان برقة مِن مسلمين ومسيحيّين كانت نموذجًا ومثالًا للوطنيّةِ والتمسُّكِ بالثوابت، وهذا النموذجُ يجبُ تعميمُهُ، وفرحُنا كبيرٌ بأنّ سميح قامَ بهذه المُهمّة، ناقلًا إلى العالم من خلال كتابهِ فكرةَ العلاقة بين برقة وخارجها من قرى ومدن وعائلات. الرّوايةُ البرقاويّةُ الحيفاويّةُ ليست فريدةً، فكلُّ فلسطينيٍّ يمكنُ أن يَتماثل معَها، لكنّ الفريدَ والشيّقَ هو تدوينُ سميح مسعود لهذه الرواية، وأهمّيّتِها الكبرى لذاكرة المكان في كتبِهِ، وهذا الإصدارُ الذي جاءَ في أجواءٍ ظلاميّةٍ أصوليّةٍ، لهو توكيدٌ على الرّسالةِ أنّ الدين لله والوطن للجميع!
مداخلة د. جوني منصور: حيفا.. برقة/ ذاكرةُ المكانِ وعوْدةٌ إلى الجذورِ الّتي لا تُنسى: لماذا المكانُ ولماذا الذاكرة؟ وبالتالي: لماذا ذاكرةُ المَكانِ؟ هو سؤالٌ فلسفيٌّ وفكريٌّ بقدْرِ ما يُمكنُ أن يكونَ سؤالًا رومانسيًّا: هل للمكانِ ذاكرةٌ؟ وإنْ كانتْ لهُ ذاكرةٌ، مَن يقفُ وراءَها ومَن يُفَعِّلُها؟ أسئلةٌ كثيرةٌ تُراودُ كلَّ مَنْ يَدرسُ موضوعَ المكانِ وما يرتبطُ بهِ مِن الوقائعِ والأحداثِ، وعلاقاتِ البشرِ معَ المكانِ وغيرِ ذلك. سأخوضُ في هذا الموضوع مِن جوانبِهِ الفلسفيّةِ والتاريخيّةِ مُرورًا بالإنسانيّة، وهو الجانبُ الأهمُّ بنظري في هذه الحُلّةِ. ما الذي يجعلُنا نتذكّرُ مكانًا دونَ سواه؟ ما الذي يَجعلُنا نتوقُ لمكانٍ دونَ آخر! هناكَ أمكنةٌ، حينَ نعودُ إليها، تعودُ بنا الذاكرةُ إلى الوراءِ، فنتنسّمُ عبقَ الماضي، وتتوالى مشاهدُ عِشناها أو نتخيّلُها اعتمادًا على حديثٍ سمعناهُ، أو قصّةٍ أو روايةٍ ذاتِ صِلةٍ بالمكان. لكن، أيُّهما يُشكّلُ ذاكرتَنا ويُعيدُ صياغةَ دواخلِنا أكثرَ: الزّمانُ أم المَكانُ؟ أم معًا يُشكّلانِ تلكَ اللّحظاتِ الّتي لا تُنسَى مِنَ التّجلّي، والتي تُعيدُنا إلى الوراءِ فنتذكّرُ كلَّ شيء؟ لكن هناكَ أمكنةٌ لا نشعرُ بها، ونمرُّ عليها مرورَ الكرام. وهناك أمكنةٌ أخرى تُشكّلُ مساحةً أضيقَ مِن حيّزِ الذّكريات. شخصيًّا، أرى أنّ هناكَ ارتباطًا وثيقًا بينَ الذّاكرةِ الإنسانيّةِ الفرديّةِ والجَمعيّةِ على السّواء، وبينَ ذاكرةِ الأمكنةِ. بناءً عليهِ، فإنّ استخدامَ مُصطلحِ (ذاكرة المكان) ليسَ مِن بابِ التسلية، وبما أنّنا نقولُ: هذا “البيتُ الّذي شَهِدَ مولدُ فلان” أو “هذا مَسقطُ رأسِهِ” أو “الدّار والشارع الذي حدثَ فيهِ كذا” مثلًا، فهذا دليلٌ على التفكير. إذًا؛ المكانُ يُقَدّمُ شهادةً للذاكرةِ، بتأكيدِهِ حضورَ الإنسانِ فيهِ وإنْ كانَ غائبًا عنهُ بمحضِ إرادتِهِ أو قسْريًّا، فالمكانُ سِجلٌّ تاريخيٌّ قويٌّ وعميقٌ لنِتاجِ الحضورِ الحاليِّ فيهِ، وليسَ بالضّرورةِ مادّيًّا. لهذا، ليستْ فكرةُ ذاكرةِ المكانِ رحلةً رومانسيّةً معَ الزّمنِ في المكان، إنّها حقيقةٌ واقعيّةٌ، يُعبّرُ عنها الكاتبُ شِعرًا، قصّةً، روايةً أو بحثًا، وليسَ أَدَلُّ على أهميّةِ (الشهادة) الّتي يُقدّمُها المكانُ على أحداثٍ مُعيّنةٍ، مِن واقعةٍ أو حادثةٍ أشارتْ إليها صحيفةٌ ما أو وثيقةٌ ما أو رسالةٌ ما.
إذًا؛ معنى “المكان” هو الحيّزُ المادّيُّ (أو المعنويُّ الافتراضيُّ) الذي تتكوّنُ الوقائعُ والأحداثُ والأفعالُ ضِمنَهُ، ويَستحيلُ بالتالي تَصَوُّرُ وجودِها بدونِهِ، وسيصعبُ تَذكُّرُها أو إثباتُها أحيانًا، مع زوالِ الأمكنةِ التي احتضنَتْها، فالمكانُ والحالُ هذهِ ليسَ حيّزًا مادّيّا وذاكرةً وحسْب، بل هو عنصرٌ أساسيٌّ مِن عناصرِ الحدَثِ وتفاصيلِهِ، ولا يَنبغي إغفالُهُ، فالمكانُ بما يَحويهِ مِن دلالاتٍ ويَشي بهِ مِن وجدانيّاتٍ، أضحى هو الآخرُ صعبًا على الفهمِ والإدراك. لا أقصدُ المكانَ الذي يَعني لكَ شيئًا؛ مثلَ المكانِ الذي وُلِدْتَ فيهِ ومارسْتَ فيهِ ألعابَكَ معَ أصدقائِكَ وشكّلَ ذاكرتَكَ الأولى؛ وإنما مكانًا قد تغيّرَ وتبدّلَ، أحدُهما يَقفُ عليهِ مذهولًا مأخوذًا بأشكالِهِ وواقعِهِ، وما أفاضَ بهِ عليهِ مِن مَشاعرَ، وآخرُ لا يَعني له المكانُ شيئًا، فينظرُ كالغريب والمُستغرِبِ إلى مَكنوناتِ الأشياءِ الّتي غيّرَتْ مِن نظرتِهما لذاتِ المكان، لكنّ المكانَ نفسَهُ تتغيّرُ دلالاتُهُ وإيحاءاتُه تبعًا للظروفِ ولنفسيّةِ الواقفِ عليهِ، بل قد تتغيّرُ تأثيراتُ المكانِ ذاتِهِ على إنسانٍ بعيْنِهِ، والأماكنُ هي الأخرى مثلها مثلُ البشرِ لها طبائعُ وأوضاعٌ مختلفة؛ فهناكَ مكانٌ حزينٌ يُؤثّرُ على تفكيرِكَ ويَتركُكَ مُتألّمًا، وهناكَ مكانٌ يُضفي الفرحَ والسّرورَ ويَتركُكَ سعيدًا، وإنْ كنتَ قد فقدْتَهُ فعليًّا، بفِعل حربٍ ونكبةٍ حلّتْ على شعبك.
مِن هذهِ النّقطةِ أتطرّقُ إلى كتاب “حيفا … برقة؛ البحث عن الجذور”- ذاكرة المكان لد. سميح مسعود، حيثُ أنّ العنوانَ ذاتَهُ يَشي بالفكرةِ مِن ورائِهِ، فسميح مسعود لا يبحثُ عن المكانِ بكوْنِهِ مكانًا مادّيًّا، إنّما يبحثُ عن المكانِ الافتراضيِّ والمُتخيّلِ، والذي يَحملُ في جنباتِهِ ذكرياتٍ لناسٍ يَخصّونَهُ في هذهِ الحالةِ، أقصدُ حالةَ البُعدِ عن المكانِ، وعدمِ رؤيتِهِ ومُعايشتِهِ، هذا المكان الذي فقدَهُ الفلسطينيُّ عام 1948 ولم يَعُدْ إليهِ. “المكانُ” الذي يعودُ إليهِ سميح مسعود هو مِن خلالِ الإنسانِ الذي يَرتبطُ بالمكانِ، أو لنقلْ، لهُ علاقةٌ بالمكانِ الّذي كانَ، وهو لا يَزالُ المكان الذي بُنيتْ وتشكّلتْ وتبلوَرَتْ فيهِ حياتُهُ وحياةُ آخرين. مِن هنا نُدركُ إلى أيِّ مدًى أهمّيّةَ الإنسانِ في المكان، فمكانٌ بدونِ إنسانٍ لا يَعني شيئًا. وبناءً عليهِ، جاءتْ رحلةُ البحثِ عن الجذور الّتي شاركتُ فيها أبو فادي ولمدّةٍ طويلة. اكتشفتُ المَحبّةَ الّتي تَغمرُ أبناءَ العائلةِ الواحدةِ، وإن تشتّتَتْ أوصالُهم بفِعلِ عوامل سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ وسِواها. لكن، وبالرّغمِ مِن أنّ صِلةَ الرّحمِ والقرابةِ عنصرٌ ومُكوّنٌ هامٌّ في مَشهدِ الحياةِ اليوميّ في أوطانِنا، إلّا أنّ الهَمَّ الكبيرَ الّذي استولى على فِكرِ ونهجِ سميح مسعود، وأنا بطبيعةِ الحالِ أُشارِكُهُ الرأيَ والتّوجُّهَ، أنّ البحثَ عن الجذور هو مسألةٌ زمنيّةٌ ومكانيّةٌ، ترتبطُ بعلاقةِ الإنسانِ معَ أرضِهِ وشعبِهِ وتاريخِهِ وماضيهِ وعاداتِهِ وتقاليدِهِ.
لقد أتيحَ لنا أنْ نقومَ وبفترةٍ زمنيّةٍ محدودةٍ نسبيًّا، بلقاءِ عشراتٍ إنْ لم يَكنْ مئاتِ الأشخاصِ القريبينَ دمويًّا، أو القريبينَ فِكريًّا واجتماعيًّا وإنسانيًّا. لقد طوّرْنا معًا خبرةَ حياةٍ متميّزةٍ، أساسُها فهْمُ شبكةِ العلاقاتِ الاجتماعيّةِ الّتي ميّزتِ الفلسطينيّينَ في حيفا والفلسطينيّينَ في قرى الوطن، وفي حالتِنا هذهِ “برقة”، تلكَ القرية القريبة مِن نابلس، والتي أوْفدَتْ مئاتٍ مِن أبنائِها إلى حيفا، للعملِ فيها في فترة الانتدابِ البريطانيّ، لكنّهم جميعًا ودونَ استثناءٍ، لم ينْسَوْا قريَتَهم الأُمّ، منهم مَن عادَ إليها في أعقابِ النكبةِ، ومنهم مَن تركَ الوطنَ مُتّجهًا إلى بلادِ اللهِ الواسعةِ، أسوةً بباقي أبناءِ فلسطين المَجروحينَ المَكلومينَ بحثًا عن لقمةِ العيش.
ما ميّزَ لقاءاتِنا بأقاربِ سميح ومَعارفِهِ وغيرِهم مِنَ الّذينَ اكتشفناهُم معًا، أنّهم يَنتسبونَ إلى قريةٍ واحدةٍ، وينحدرونَ مِن عائلاتٍ مُتعدّدةٍ تجمَعُهم المَحبّةُ، وإن انتموا إلى أديانٍ ومُعتقداتٍ مَذهبيّةٍ مُختلفةٍ، فالدّينُ للهِ والوطنُ للجميع. وكذلك تميّزَتْ أمسيةُ إطلاقِ كتابهِ في جزئِهِ الأوّلِ في قاعةِ الكليّةِ الأرثوذكسيّةِ بحيفا، حيث التقى بمجموعةٍ مِن أهالي برقة المُقيمينَ في حيفا. كذلك كان لقاؤُهُ مميّزًا معَ ابنِ صفّهِ راشد الماضي، بعد 65 سنة مِنَ الافتراق، بسببِ النّكبةِ وترحيلِ الفلسطينيّين. ثمّ تلا ذلكَ لقاءُ د. سميح مسعود مُجدّدًا معَ أهالي مدينتِهِ حيفا، في أمسيةِ إطلاقِ كتابَيْهِ “متحفُ الذّاكرةِ الحيفاويّةِ” و “مَقاماتٌ تُراثيّةٌ” في نادي حيفا الثقافيّ، في قاعتِهِ المُلاصِقةِ لكنيسةِ مار يوحنّا المعمدان في حيفا. كلُّ هذا يُؤكّدُ ما نحنُ ماضونَ مِن أجلِهِ، مِن أجلِ تثبيتِ ذاكرة المكانِ بناسِهِ وذكرياتِهِ، وما خلّفَهُ مِن آثارٍ عالقةٍ في مُجملِ مُجرياتِ الحياة.
يُطِلُّ الكاتبُ الفلسطينيُّ د. سميح مسعود بالجزءِ الثاني مِن كتابِهِ “حيفا.. برقة- البحث عن الجذور”، والصّادرُ بطبعتيْنِ؛ الأولى عن دار الجنديّ في القدس، والثانية عن دار الآن في عمّان، ولكنّ هذه الإطلالةَ تختلفُ عن سابقتِها في الجزءِ الأوّلِ. لقد اكتشفَ سميح مسعود بعدَ نشْرِ الجزءِ الأوّلِ، أنّ جذورَهُ في فلسطين أكبرُ مِن مُجرّدِ مَحدوديّتِها بمدينةِ حيفا، أو بقريةِ الأهلِ والأجدادِ “بُرقة” القريبةِ مِن مدينةِ نابلس. اكتشفَ امتدادَهُ في مَواقعَ عدّةٍ في فلسطين، وقد يكونُ في خارجها، وهذا الامتدادُ ليسَ وليدَ السّاعةِ أو وليدَ النكبةِ عام 1948، الحدثِ المُؤسِّسِ لتاريخِ الشّعبِ الفلسطينيِّ ونِضالِهِ، مِن أجل حقِّهِ في الحياةِ في أرضِهِ ووطنِهِ. تبيّنَ لمسعود أنّ الجذورَ العائليّةَ تتعدّى كوْنَها محصورةً في حيّزٍ واحدٍ أو أكثر، إنّها حيّزاتٌ إنسانيّةٌ عملت العقودُ والقرونُ على بلوَرتِها، وصِياغتِها بقوالبَ إنسانيّةٍ واجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ وثقافيّةٍ وسياسيّةٍ ودينيّةٍ، فالانتشارُ الفلسطينيُّ في الحيّزِ الفلسطينيِّ حتّى عام1948 كان أمرًا طبيعيًّا، وتقبّلتْهُ شرائحُ النّاسِ بطيبةِ خاطرٍ، وتعاملتْ معهُ كأنّهُ أحدُ مُكوّناتِ بناءِ المُجتمعِ الفلسطينيّ، ومِن جهةٍ أخرى، فإنّ الأحداثَ التي وقعتْ رغمًا عن الشعب الفلسطينيِّ عام1948 أحدثتْ فجواتٍ كبيرةً وتباعُداتٍ خطيرةً، بينَ أبناءِ الشّعبِ الواحدِ وبينَ أبناءِ العائلةِ الواحدةِ الّتي شقّتْها الخلافاتُ والنّزاعاتُ السّياسيّةُ، الّتي مرّتْ على المنطقةِ منذُ ذاكَ التاريخِ الشّؤم.
يتعاملُ مسعود معَ انتشارِ عائلتِهِ في الجليلِ والمُثلّثِ والضّفّةِ الغربيّةِ وغيرِها مِنَ المَناطقِ والمَواقعِ خارج حدودِ فلسطين التاريخيّةِ، بواقعيّةِ الحدَثِ التّاريخيِّ، ويَنظرُ إلى هذا الحدَثِ بكوْنِهِ مسألةً عابرةً زمنيًّا، لكنّها ليستْ عابرةً وجدانيًّا، فهو الرّجُلُ الّذي عرَكتْهُ الحياةُ، يَعرفُ تمامَ المعرفةِ، أنّ نظرةَ الإنسانِ إلى جذورِهِ ليستْ مسألةَ تَفَكُّهٍ، إنّما واقعٍ داخليٍّ يَعملُ على تحريكِ فؤادِ وعقلِ الإنسانِ لمعرفةِ مَن هو، ومِن أينَ أتى، ومَن هُم أعضاءُ عائلتِهِ وبيئتِهِ، وكيفَ تعَامَلَ الزّمنُ معَهم؟ صحيحٌ أنّها تساؤلاتٌ كثيرةٌ قد تبدو في بعضِ الأحيانِ مُجرّدَ كليشيهات، إلّا أنّها الواقعُ الّذي يَفرضُهُ التّاريخُ الفلسطينيُّ الماثلُ لمَعاييرِ التّغييراتِ والتّقلّباتِ.
سُعدْتُ بمُرافقةِ سميح مسعود فترةً طويلةً مِن الزّمنِ في اكتشافِ جذورِهِ، وكأنّي أكتشفُ جذورَ كلِّ عائلةٍ فلسطينيّةٍ مثنتشرةٍ في الوطن، وما بَهرَني في عمليّةِ الاكتشافِ هذه، أنّ الّذينَ التقيْنا بهم معًا، أو الّذينَ التقى بهم بمُفردِهِ يَعرفونَ أصولَهم. هذا هو شعبُنا الّذي يَعرفُ جذورَهُ جيّدًا، بالرّغمِ مِن مُرورِ عقودٍ كثيرةٍ، وبالرّغمِ مِن سياساتِ التّجهيلِ ومُحاولاتِ الطّمسِ والمَحو، وهذا الأمرُ يُؤكّدُ تَمسُّكَ الفلسطينيِّ بجُذورِهِ وتاريخِهِ. أنا أعرفُ تمامَ المعرفةِ أنّ هناكَ مِن النّاسِ مَن لا يَهمُّهم الأمرُ، اقصدُ البحثَ عن جذورٍ عائليّةٍ، مِن مُنطلَقِ كوْنِهم يَنظرونَ إلى الأمورِ بمَنظورٍ أكثرَ اتّساعًا. قد يكونُ هذا الأمرُ في كثيرٍ مِنَ الحالاتِ جيّدًا، إلّا أنّ البحثَ عن الجذورِ يُحتّمُ في نهايةِ الأمرِ تَجميعَ هذهِ الجذورِ في مَوقعٍ واحدٍ، لتِبيانِ قدرةِ الإنسانِ على توْحيدِ شتاتِهِ وتَجميعِهِ. إنّهُ هاجسُ كلِّ فلسطينيٍّ يبحثُ عن كلِّ ما لهُ علاقةٌ بالماضي، ليسَ البحثُ هنا مِن بابِ النّوستالجيا- أي الحنين فحسْب، بل مِن أجلِ الانتقالِ إلى فهْمِ مُركّباتِ الحياةِ الجاريةِ وكيفيّةِ التّعاطي معَها. جُلْنا وصُلْنا في عددٍ كبيرٍ مِنَ القرى والمدنِ، والتقيْنا بعددٍ كبيرٍ مِنَ الأشخاصِ مِن كبارِ السّنّ ومِن شبابٍ وفتيان، ولسانُ حالِهم يَقولُ: زَوِّدونا بالمَعلوماتِ، لأنّنا بحاجةٍ ماسّةٍ إلى إكمالِ مُركّباتِ الصّورةِ لعائلتِنا، والأمرُ يَنسحبُ على عائلاتٍ كثيرة.
إنّ الكتابَ هو أكثرُ مِن مُجرّدِ كوْنِهِ قيامَ كاتبِهِ بالبحثِ عن جذورِهِ العائليّةِ، إنّهُ كتابُ البحثِ عن الإنسانِ في أرضِهِ، وعن المكانِ المَفقودِ في حالاتٍ كثيرةٍ، والذي باتَ صورةً أو مُخيّلةً يَعملُ الفلسطينيُّ على استرجاعِها وبنائِها مِن جديدٍ، ضِمنَ المُكوّناتِ المَكانيّةِ والإنسانيّةِ. نحنُ بحاجةٍ كبيرةٍ إلى هذا النّوعِ مِن الكتاباتِ الّذي يَتعاملُ معَ الإنسانِ والمكانِ والزّمانِ، بروحٍ مُعاصِرةٍ تُؤكّدُ وجودَنا وعدالةَ قضيّتِنا وصِدقَها. التقيْنا معَ مؤلف الكتاب د. سميح مسعود بتاريخ 22-1-2016 في مركز محمود درويش في الناصرة لإشهارِ كتابِهِ، مِن خلالِ التفافٍ واسعٍ وكبيرٍ، لمُهتمّينَ بتاريخ المكانِ وتاريخِ الإنسانِ فيهِ، مِن أهالي النّاصرةِ وحيفا، ومِن سائرِ منطقتي المثلث والجليل، إكسال، عارة وعرعرة، شفاعمرو، الجدَيْدَة، عبلين، يانوح، دير حنا، أبوسنان، كفر ياسيف، كلّهم مِن أسلافِ أناسٍ رَحلوا عن دُنيانا، تتشابكُ جذورُهم على امتدادِ أرضِ حيفا وبُرقة، التَقَوْا لأوّلِ مرّةِ معًا، للِقائِهم مفعولُهُ الكبيرُ في حِفظِ الذّاكرةِ الجَمعيّةِ حيّةً للأجيالِ القادمة. هذا الكتابُ وما يَحتويهِ مِن وصفٍ للواقعٍ التاريخيّ هو شهادةٌ حيّةٌ وصادقةٌ، نابعةٌ مِن تجاربِ الحياةِ بكلِّ تركيباتِها وتعقيداتِها. آملُ أنْ يَحذوَ حذوَ الكاتبِ عددٌ آخرُ مِن أبناءِ الوطنِ المُقيمينَ فيهِ وخارجَهُ، ليَنقلوا إلينا ذلكَ الواقعَ الحياتيَّ الذي يَعيشونَهُ ما بينَ الوطنِ وخارجِهِ، وتَفاعُلَ الأمكنةِ في عقولِهم وتفكيرِهم. تهانينا الحارّة مرسلة إلى أبي فادي على هذا الإصدار، مُقدّرينَ لهُ مُساهمَتَهُ التاريخيّةَ الهامّةَ، وهنيئًا لنا جميعًا.
مداخلة رائد نصرالله/ في معركةِ الرِّواياتِ: أَن يَجري إشهارُ كتابٍ “حيفا…بُرقة- البحث عن الجذور” تحديدًا في الناصرةِ، وفي مركزِ محمود درويش على وجه الخصوصِ، في ذلك أكثرُ مِن دلالةٍ وأبلغُ مِن معنىً، ففي الأمرِ تأكيدٌ على أنَّ الامتدادَ الزّمانيَّ والبُعدَ المَكانيّ للوطن، يَتجاوزانِ حدودَ الذّاكرةِ الشخصيةِ وعمقَ الجذورِ الفرديّةِ، وهذا ما نجحَ بهِ أديبُنا د. سميح مسعود، مِن على صفحاتِ البحثِ عن جذورهِ الممتدّةِ على طولِ الوطن وعرضِهِ، عميقًا في قلب التاريخ. جاءَ الخاصُّ تجليًّا للعامّ، وبانتْ تركيبةُ العامِّ من خلالِ تفاصيل الخاصّ. ومِن معاني عَقْد الأُمسية الثقافيّة في الناصرة، أنَّ في المسألةِ جزمٌ على أنَّ هذه المدينة التي أدمنت على مديح ذاتِها بأفعالِها، كما أبدعَ في وصفِها شاعرنا محمود درويش، ليسَ لأنّها أُمُّ البدايات فحَسْب، وإنّما لأنّها عرينٌ لهُويّةِ وعنوانِ كفاحاتٍ وإبداعات، ولا تأبهُ لعثراتِ الزّمانِ العاصيات. وأمّا أنْ أنجحَ بقراءةِ كتابيْن يَشملانِ على ما يزيدُ عن ستّمائةِ صفحةٍ، وبمُتعةٍ ما بَعدَها مُتعةً، فذلك لَعَمْري إنجازٌ شخصيٌّ غيرُ عاديٍّ، في زمنِ الوقوعِ في أسْرِ الشّبكاتِ والتّواصلاتِ الافتراضيّة، وفي ذلك دليلٌ قاطعٌ أنّنا أمامَ أنتاجٍ أدبيٍّ توثيقيٍّ استثنائيٍّ في أُسلوبِهِ وتَماسُكِهِ، مِن الصّورةِ الأولى حتّى الأخيرة، وبتصاعديّةٍ جذّابةٍ حتّى الإدمان، وفوقَ كلِّ هذا وذاك، فأن تكونَ القراءةُ بِدءًا مِن الجزءِ الثاني ومِن ثمّ الجزء الأوّل، فإنّه سَبقٌ أُسجّلُهُ لصالحي، ولكن ليسَ قبلَ أن أوجّهَ الشّكرَ للبروفيسور محمود يزبك الذي تفضّل بتوفيرِ الكتابيْنِ لي قبلَ أسبوعٍ من اليوم.
لم يَخطرْ على بالي أنّي سأكونُ ضمنَ هذه الثّلّةِ مِن أصحاب الشأنِ الأدبيّ والثقافيّ والتأريخيّ، وفي مقدّمتِهم البلديّاتي الأَصيلُ صدْرُ هذه الأمسيةِ د. سميح المسعود، هكذا كنتُ أسمعُ اسمَ عائلتِهِ الكريمة؛ (دار المسعود مع ألـ التعريف)، عندما كنتُ طفلًا أزورُ قريتي بُرقة، قادمًا مِن مَسقطِ رأسي الناصرة، على غِرارِ تعريفِ كاتبِنا لجدليّةِ علاقَتِهِ بين حيفا وبُرقة. ولا بدّ أنْ أُصارحَكُم القولَ، عندما هاتفَني الأستاذ محمود اعتقدتُ للوهلةِ الأولى، وكنتُ علمتُ مُسبقًا بموضوع المُبادرة لإقامةِ هذه الأُمسيةِ مِن صديقي الأُستاذ زياد أبو السعود الظاهر، أَنّه بصَددِ دعوتي ومعارفي لحضورِ الأُمسية، وإذ بهِ يُفاجِئُني بطلب المشاركةِ مِن خلال تقديمِ مداخلةٍ دونَ تحديدِ موضوعِها وحدودِها، فرَماني إلى آلة العودةِ بالزّمنِ التي أعدَّها لقُرّائِهِ صاحبُنا المَسعوديّ، ومَن يقرأ منكم الكتابيْن، يعرفُ كم أنا مُتأثّرٌ بإعدادِ كلمتي السّرديّةِ هذه بالأُسلوبِ السّرديِّ المَسعوديّ، كما تجلّى مِن على صفحاتِ البحثِ عن الجذورِ بجُزْءَيْه!
خلالَ الأيّامِ الفائتةِ أدخلَني د. سميح إلى نفقِ الزّمانِ عبْرَ آلتِهِ الإبداعيّةِ، فسافرتُ معَهُ تَراجُعيًّا إلى تلك الصّورِ المَحفوظةِ بذاكرتِهِ الوقّادةِ، مُعتمِدًا على بوصلةٍ وطنيّةٍ تقدّميّةٍ لا يَشوبُها شائبةٌ، وعلى توَجُّهٍ فِكريٍّ صريحٍ لا يَخجلُ مِن خلالِهِ، بالانحيازِ إلى النّاسِ الكادحينَ ونِقاباتِهم وأُطُرِهِم المُكافِحة، فصالَ بي البلديّاتي وجالَ كما يَشاءُ، بينَ الأحداثِ وتواريخِها والأسماءِ وشخوصِها، وجعلني كالجاحظين بالحكواتيّ، يُتابعونَ كلَّ همسةٍ تخرجُ مِن فمِهِ، ليَعرفوا مَصيرَ بطلِ الحكايةِ، مِن ذِكرياتِهِ الأولى في حيفا حتّى عودتِهِ وتِجوالِهِ في أرجاءِ الوطنِ، مِن يانوح شمالًا حتّى عرعرة جنوبًا، مُرورًا بشفاعمرو والناصرة وإكسال وغيرها، باحثًا عن شروشِ عائلتِهِ وعائلاتِ أبناءِ بلدِهِ، كانَ ذلكَ مِن مدينتِهِ حيفا، أم مِن مَسقطِ رأسِهِ بُرقة، وفي لحظاتٍ كنتُ أتخيّلُ دقّةَ الصّورِ الموصوفةِ كتابيًّا، وكأنّي أحملُ بيديّ كاميرا “الجوجل إيرث”، تنقلُ لي أدقَّ التّفاصيلِ والأسماءِ والزوايا المَخفيّةِ، والثنايا المُنحنيةِ في الشوارعِ والبيوتِ المَحميّةِ.
ومع تَعمُّقي في بطنِ الذّكرياتِ المسعوديّة، وَجَدْتَني أمدُّ خيوطَ ذاكرتي القليلةِ كشعراتِ رأسي، لعلّها تتقاطعُ معَ جدائلِ ذاكرتِهِ الكثيفةِ الوارفةِ، فإذا بي أتذكّرُ زياراتي إلى بُرقة مع أهلي، ليس مِن خلالِ سَفرِ ساعةٍ مِن الزمن، كما كانَ يفعلُ كاتبُنا طفلًا لوحدِهِ بينَ حيفا وبُرقة، وإنّما سفرة تمتدُّ لأكثرَ مِن نصفِ نهارٍ، مِن النّاصرة إلى القدسِ فعذابات بوّابة مندلباوم (وهنا يحضرني كاتبنا الكبير الراحل إميل حبيبي بسداسيّته الرائعة)، فإلى نابلس فبُرقة، واستمرّ الحالُ بهذهِ الزّياراتِ إلى أن جاء “فرج الاحتلال”، فوحّدَ الشعبَ مِن جديدٍ بعدَ سقوطِ دُوَلِ شِعارِ المأساة “تجوّع يا سمك البحر”، ومِن وقتِها وعلى ما يبدو، بدأ حلُّ “شعبان دولتان” يَتآكلُ تدريجيًّا لصالح دولةِ الشّعبيْن، والله أعلى وأعلم!
وحينَ يُؤكّدُ كاتبُنا في صفحاتِ الكتاب وفي أكثرِ مِن مناسبةٍ على غيرتِهِ على الّلحمةِ الوطنيّةِ لأبناءِ بُرقة على كافّةِ انتماءاتهم، يُذكّرُني بما علقَ بذهني مِن ذكرياتٍ بُرقاويّةٍ، وممّا حدّثني بهِ والدي رحمة الله عليهِ، واسمه “جورج”، كانَ في طفولتِهِ يُعاني مِن أمراضٍ مختلفةٍ، كما عانيتَ أنتَ طفلًا د. سميح، وشفيتُ والحمدلله والله يمدُّ بعمرك، وبدايةً بدّلوا اسمَهُ لجريس حتى يشفى، فلم يَشفعْ له القدّيس جريس، فاقترحَتْ إحدى الجارات المُسلماتِ أن يُسمّى حسن، حتّى يَشفى ويقوى عودُه، وفِعلًا هذا ما تمّ، فصارَ اسمُهُ حسن المحصّل حتّى شُفيَ بالكامل، و”المُحصّل” هذهِ كنية كانتْ تلحقُ اسمَ العائلة، وهي مرتبطةٌ بوظيفةِ جدي يوسف عبدالله نصرالله مُحصّل الضرائب للدولة العليّة! أمّا المُفارقةُ مِن وراءِ استحضارِ الصورةِ الرائعةِ للمجتمع الفلسطينيِّ في الزّمنِ الجميل، مِن خلالِ العالم المُصَغّرِ (الميكرو كوسموس) المُسمّى بُرقة، فتخيّلوا أنْ أُسَمّى اليومَ مثلًا رائد حسن نصرالله، لكنتم رأيتم وسائلَ الإعلام العالميّة بما فيها قناة “المنار” تملأ القاعة، لتنقلَ ماذا سيُصرّحُ الليلةَ ابنُ حسن نصرالله! ولأنّ الشيءَ بالشيءِ يُذكرُ، فلا بدّ مِن استغلالِ المناسبةِ لتوجيهِ نداءِ استغاثةٍ، وبالذات لأنّي إنسانٌ علمانيٌّ أسمحُ لنفسي بتوجيهِ هذا النداءِ لكل مَن يَهمُّهُ الأمرُ، فلسطينيّا وإسلاميًّا ومسيحيّا، وباسْمِ الرّصيدِ الوحدويِّ المفخرةِ لشعبنا على صعيدِ خاصّيّةِ ومناعةِ وتاريخ نسيجِهِ الاجتماعيّ، بالعملِ على وقفِ النّزيفِ المُتواصلِ بخاصرةِ ولونِ وشكلِ وكيانِ الشعبِ، والمُتمثّلِ بالهجرةِ المسيحيّةِ مِنَ الوطن عمومًا، ومِن داخلِ القرى المشتركةِ بطوائفِها خصوصًا، فماذا يَنفعُنا التّغنّي بالتاريخ الرائع، إذا لم يبقَ ذِكْرٌ للوجودِ المسيحيّ الإنسانيّ في بُرقة مثلاً، عدا بعضِ الآثاراتِ المُهدّمةِ، أو اسمِ مدرسةِ الدير، وحتّى بناء مركزٍ إسلاميٍّ مسيحيٍّ جديدٍ في بُرقة على حوش آل نصرالله ، كما جاءَ في كتاب أستاذنا سميح؟ ماذا يَنفعُنا كلّ ذلك، وكلُّ أهل بُرقة من المسيحيّينَ مُغتربين، أو يزورونَها فقط في موْسمِ الزيتون، ليتذوّقوا طعمَ زيْتِها الرائع، أو ليأخذوا منها قطعةً مِن بقايا “نمليّةٍ”، ليَحفظوها في بيوتِهم في البلادِ أو في المهجر، كما فعلتُ أنا قبلَ سنتيْن عندما زرتُها مع شقيقي رمزي وابنه جورج، ونحنُ في طريقِنا إلى نابلس، لدعوةِ مَن تبقّى مِنَ الأقارب في نابلس ورام الله، لمُشاركتِنا فرحَ ابنتِهِ جنان؟
وفي العودةِ الى البحثِ عن الجذور، فقد نجحَ كاتبُنا في تجميع الذكرياتِ، وفتحِ بعضِ الأوجاعِ أحيانًا، في لوحة “بازل” لا أروعَ ولا أجمل. ليسَ هذا وحسْب، وإنّما أغنى معركةَ الرواياتِ الوجوديّة، بينَ رواية “أرض بلا شعب” ورواية “لمَن وهبت أرض كنعان؟” التوراتيّة، وتجييرُها خدمةً للفكرِ الصّهيونيّ الاستيطانيّ، وبينَ روايةِ شجراتِ الزيتونِ المزروعةِ في بُرقة وكل فلسطين منذ عُمقِ التاريخ، وحولَها سلالُ التينِ وصفُّ السحجةِ والدبكةِ وأغاني الدلعونا، وناسٌ جذورُها عميقةٌ وثابتة في وطنِها، لن تُلدغ مِن أفعى الترحيل مرّتيْن. بعدَ هذا الاستعراضِ الموجزِ لمَلحمةِ التشبيكِ الرائع بينَ ذكرياتِ الكاتب وذكرياتِ الوطن، وبين جذورِ عائلتِهِ وجذورِ شعبهِ شعبنا الفلسطينيّ، أقولُ مبارك لكاتبنا هذا الإنجاز والجهد والإبداع، فهذا السّلاحُ يُعطيكَ الصّحّةَ والعافية، والشعبُ يُطالبُكَ بالمزيد مِن العطاءِ أيّها البلديّاتي الجميل.
مداخلة سميح مسعود: نشرت بتاريخ 17-7-2009 مقالةً بعنوان “البحثُ عن الجذور”، بيّنت فيها اهتمامي بالبحث عن الجذورِ في فلسطين ما قبلَ النكبة، لإعادةِ اكتشاف الماضي بأبعادِهِ الزمانيّةِ والمكانيّة، وأحسستُ بما يكفي مِنَ الارتياح لأنّني نشرتُها على صفحاتِ جريدة الاتحاد، لأنّها تستثيرُ حنيني إلى تلكَ الفترةِ مِنَ الطفولةِ الهنيئةِ الّتي عشتُها معَ أهلي في حيفا، تتشبّثُ أعدادُها القديمةُ بذاكرتي التي كانَ والدي يُتابعُ قراءتَها في أربعينات القرن الماضي ويَتماهى بأفكارِها، وكثيرًا ما كنتُ أتصفّحُها بدونِ قراءةِ أيِّ حرفٍ منها في مرحلةٍ مُبكّرةٍ، عندما كنتُ صبيًّا صغيرًا، أذكرُ تمامًا تلكَ اللحظاتِ الخاطفةَ كما لو أنّها كانتْ بالأمس. قرأتْ مقالتي حسناء دراوشة، واكتشفتْ مِن إشاراتٍ دلاليّةٍ عن أسرتي في سياقِ المقالةِ، أنّي أمُتُّ بصِلةِ قُربى معَ جدّتِها “نجية حمدان”، بلّغتني بمضمونِ وسياقِ تلكَ القرابةِ برسالةٍ عبْرَ البريدِ الإلكترونيّ، وبيّنتْ لي أنّ النكبةَ قد أبعدَتْ جدّتَها عن أهلِها في بُرقة، وبقيَتْ حتّى مماتِها في شوقٍ للقائِهم، وكانت دوْمًا تُكثِرُ مِن ذِكرِهم في أحاديثِها. مِن وحيِ هذهِ التجربةِ وتَعَرُّفي على أقاربَ لي في إكسال، أصدرتُ كتابًا بعنوان “حيفا.. بُرقة البحث عن الجذور” في عام 2013، سجّلتُ فيهِ شظايا أجزاءً موجَزةً مِن جذوري، في بلدي التي تمتدُّ على اتّساعِ المَكانِ في مَسقطِ رأسي حيفا وقريتي بُرقة، وأبرزتُ على إيقاعِها مشاهدَ مِن جذورِ أناسٍ غيري مِن مدنٍ وقرى فلسطينيّةٍ أخرى، واستحضرتُ فيها ببُؤرٍ لاقطةٍ جزءًا ممّا تختزنُهُ ذاكرتي، عن أيّامٍ مضَتْ في فلسطينَ، عشتُها قبلَ النكبةِ والهزيمة، ولأنّني شغوفٌ بنبشِ الذّاكرةِ؛ ظهرتْ أطيافُ طفولتي في كتابي بصفاءٍ استثنائيّ، سجّلتُ فيهِ لحظاتٍ كثيرةً تُدغدغُني وتُحرّكُ مشاعري، وتُشكّلُ جزءًا مِن حياتي؛ تَطوفُ بي دوْمًا في مسقطِ رأسي حيفا وقريتي بُرقة، فاستحضرتُ بها الطفولةَ بوعيِ حاضري الذي أحياهُ، وأعدتُ بها نصوصًا غائبةً تراكمتْ في داخلي، موْشومةً بخطوطٍ متماوجةٍ مِن أطيافِ بلادي، لم أُسَجّلْها للبكاءِ على الأطلال؛ بل مِن أجلِ التّأكيدِ على عُمقِ جذوري وجذور غيري مِن أبناءِ بلدي في فلسطين، ومِن أجلِ أنْ أنثرَ بذورَ جذوري لحفيديَّ ليث ونديم، حتّى لا يَضيعا في مَنافي الشّتاتِ القصيّة، لعلّني بهذا أدفعُهم للتمتّعِ بمُخيّلةٍ عامرةٍ عن بلدِهم، ومقدرةٍ فائقةٍ في التعبير عن حبِّهم لها، والنّضالِ مِن أجلِ عوْدَتِهم لها في قادمِ الأيّام.
بعدَ صدورِ كتابي، تعرّفتُ على أناسٍ كُثر منِ حيفا وبُرقه ومدنٍ وقرى أخرى كثيرةٍ، عبّروا لي عن تَعطُّشِهم لمعرفةِ المزيدِ عن مَنابتِ جذورِهم وكلّ ما يُذّكّرهُم بالوطن. تواصلتُ معهم عبْرَ الهاتفِ ووسائلِ الاتّصالِ الاجتماعيِّ والبريدِ الإلكترونيّ، وتعرّفتُ بينَهم على أقاربَ لي لم ألتقِ بهم مِن قبْل، تَجمَعُني بهم منابتُ الجذورِ وحُبُّ الوطنِ وكلُّ ما يُذكِّرُ بالوطن، وتعرّفتُ بأناسٍ على معرفةٍ بأمّي وأبي مِن زمنٍ مضى، وتيقّنتُ أنّ ما كتبتُهُ لم يكنْ مُجرّدَ كلماتٍ عابرةٍ؛ بل رسالةً استطعتُ أنْ أُبلِغَها إلى أبناءِ بلدي، وتمكّنتُ بها أنْ أصِلَ الوجوهَ بالوجوهِ على صفحاتِ كتابي، وأنْ تُلامِسَ أيْديهم الدافئةَ خبايا حروفي. بسببِهم اتّسعَ اهتمامي بالبحثِ عن الجذورِ وبالبُعدِ الرّوحيِّ والمَعنويِّ للمكان، وتمكّنتُ مِن خلالِ اللّقاءِ بهم في أماكنِ إقامتِهم، مِن إنجازِ الجزء الثاني مِن كتابي، دوّنتُ فيهِ ما لديهم مِن معلوماتٍ عن جذورِهم، تستوطنُ في ثنايا الذاكرة.
التقيتُ بمجموعةٍ منهم لأوّلِ مرّةٍ في حياتي على امتدادِ أيّامٍ طويلةٍ، زرتُهم برفقةِ المؤرّخ دكتور جوني منصور في حيفا، بُرقة، إكسال، الناصرة، عارة، عرعرة، شفاعمرو، عبلين، يانوح، الجدَيْدَة، دير حنا، كفر ياسيف، أبو اسنان، كما التقيتُ أيضًا ببرقاويّين مِن قريتي، لم ألتقِ بهم مِن قبلُ يُقيمون في دُبَي، أبو ظبي، كندا، الولايات المتحدة الأمريكيّة، تشيكيا، والتقيت بسيّدتيْن مُعمّرتيْن تعرفان أمّي وأبي وبيتَنا في شارع الناصرة، الأولى زهرة عابدي خمرة حيفاويّة تقيم في حيفا، وهي أخت الفنان الكبير عبد عابدي ووالدة الدكتور ماجد خمرة، والثانية جميلة علي عبد القادر أبو حسين برقاويّة تقيم في عمّان، وهي والدة محمّد عبد اللطيف الخطيب أبو عمر. التقيتُ بأغلبهم في منازلهم، حدّثوني في نسيجٍ حكائيٍّ كثيفٍ يمزجُ الماضي بالراهن، ويُلامس بانثيالاتٍ متلاحقةٍ جملةً من الأحداثِ والمشاهدِ واللحظاتِ، في سياقِ مادّةٍ منسجمةٍ متناغمةٍ، فتحَ لي الحوارُ معهم حولَها آفاقًا واسعة للبحث عن الجذور لي ولهم ولغيرهم، بما يُساعدُ على تشكيلِ جوانب مهمّةٍ من الذاكرةِ الجمعيّةِ الفلسطينيّة الغائرةِ في عُمقِ الزمان والمكان؛ كالشجرةِ الظليلةِ في تشكيل الهُويّةِ والانتساب إلى الوطن. وقد تسنّى لي مِن خلال تلك اللقاءات التّعرّفُ على عددٍ من أبناء مسقط رأسي حيفا، منهم مجموعة مِن آل الحاج وشبلاق والصلاح يُقيمون في هيوستن وفلوريدا ومونتريال وعّمان، وعلى مجموعةٍ مِن أبناءِ قريتي بُرقة الحيفاويّين، في مُقدّمتهم الرفيق د. سهيل أسعد نائب رئيس بلدية حيفا، كما تمكّنتُ أيضًا التعرّفَ على كثيرين ممّن يَرجعونَ في أصولِهم إلى بُرقة، منهم: الرفيق غالب سيف رئيس المبادرة العربيّة الدرزيّة، والنائب د. جمال زحالقة، وأحمد درويش الشقيق الأكبر للشاعر الكبير محمود درويش، ود. هاني موسى، ود. سامي حسين، ولا أغفلُ هنا ما أكّدَهُ لي الرفيق أيمن عودة رئيس القائمة المشتركة، بأنّ والدتَهُ تنحدرُ مِن عائلةِ سيف البُرقاويّة.
سجّلتُ في كتابي الجديدِ خلاصاتِ أحاديثي معهم بمضمونِها وسياقِها، وأكّدتُ على صفحاتِهِ أهمّيّةَ التعرّفِ بوعيٍ على الذات والآخر، وضرورةَ تدوين كلِّ ما في الذاكرة من دلالاتٍ ومضامينَ عن الحياةِ الماضيةِ في فلسطين، بكلّ حناياها ومداراتِها وجزيئاتِها وما فيها مِن تفاصيلٍ، حتى لا تُنسى، وتبقى ماثلةً في أذهان الأجيالِ القادمة، كي تُحيي فيهم وعيًا دائمًا للحفاظِ على ثوابتِ هُويّتِهم، وتنحَتُ في ذاكرتِهم علاقةً دائمةً مع فلسطين، بقراها ومدنِها وترابها ورجالِها وأوجاعِها، تمنحهم في غربتِهم رؤيةً حقيقيّةً عن وطنهم، وتحضّهم دومًا على استردادِ حقوقِهم الضائعة. عبّرتُ في كتابي عن تواصُلي الدائمِ مع مسقط رأسي حيفا وقريتي بُرقة، فاكتظّتْ أوراقُهُ بتفاصيلَ كثيرةٍ، يَتداخلُ فيها الراهنُ بالماضي، ويظهرُ المكانُ مُتشبّثًا بمعاقلِ الذاكرةِ، عبْرَ مَشاهد تشكيليّةٍ مُزدانةٍ بذكرياتٍ مُتشعّبةٍ، تربطُ الزمانَ بالمكانِ في سِياقاتٍ نصّيّةٍ نابضةٍ ومُتوهّجةٍ، مُطعّمةٍ بإشاراتٍ دلاليّةٍ كثيرةٍ في دائرة اللفظ والمعنى، تظهرُ فيها الجذورُ الفلسطينيّةُ بقدرةٍ فائقةٍ على البقاءِ والاستمرارِ، على مدى الأيّامِ في عُمقِ الأرض، وهذا ما نحتاجُ إليهِ فلسطينيًّا في الزمن الراهنِ أكثرَ مِن أيِّ وقتٍ مضى، للتعرّفِ على الذاتِ والنّاسِ والمكان، وعلى الوطن كلّهِ بترابهِ ومُدنِهِ وقراهُ وإرثِهِ المُتراكمِ عبْر التاريخ. وبهذا يمكنُ تدوينُ الرّوايةِ الشّفويّةِ الفلسطينيّةِ، في فصولٍ نابضةٍ مُتشابكةٍ، بكلّ ما فيها مِن دلالاتٍ ومضامين، حتى لا تُنسى، وتبقى ماثلةً في أذهانِ الأجيالِ القادمةِ على مدى الأيّام.